جُحر الأرنب.. إدمان «الريلز» يهدد ثقافة أجيال المستقبل (ملف)
- «جُحر الأرنب» مصطلح يشير إلى ظاهرة محددة تتعلق بأنظمة التوصية على مواقع التواصل الاجتماعى
صار المشهد تقليديًا تمامًا.. الوجوه المتوارية خلف الشاشات فى كل وقت ومكان، والأعين المتنقلة بسرعة بين مئات المنشورات والرسائل والفيديوهات القصيرة. يعيش الناس اليوم فى عوالمهم الافتراضية التى يتعاظم تيههم فيها بسرعة جنونية بينما هم موجودون فيزيائيًا فى عالم واقعى يزداد انفصالهم عنه يومًا تلو الآخر.
فى السنوات الأخيرة استقطبت التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعى على حياة البالغين الكثير من الدراسات والأبحاث، تارة من جهة الآثار النفسية والاجتماعية التى تنذر بعالم افتراضى موازٍ أكثر حضورًا وتأثيرًا من العالم الواقعى، وتارة أخرى لجهة دورها الراهن والمنتظر مستقبلًا فى تمييع الحقائق وتشويشها بسبب ما تمنحه من معلومات مجانية للجميع تفتقر إلى الدقة والموضوعية وتسهم فى تكريس التحيزات والانسياق وراء التضليلات المخطط لها بعناية.
مخاطر شتى تُحيط البالغين اليوم الذين يقعون فى فخاخ التواصل الاجتماعى الافتراضى رغم ما راكموه من وعى بأضراره وما عاينوه بأنفسهم من آثار سلبية تقتضى وضع الحدود تجنبًا لمزيد من الانجراف. ولكن ماذا عن الصغار؟ الأطفال والمراهقون اليوم فى الفخ؛ لقد سقطوا فى «جُحر الأرنب»، وقلة من ينتبه إلى سقوطهم أو يسعى لإنقاذهم.
جُحر الأرنب
ليس « جُحر الأرنب» هنا محض تعبير مجازى، وإنما هو مصطلح يشير إلى ظاهرة محددة تتعلق بأنظمة التوصية على مواقع التواصل الاجتماعى مثل «فيسبوك»، و«إنستجرام»، و«تيك توك»، والتى تعتمد على خوارزميات تتيح تقديم محتوى مشابه لذلك الذى نال إعجاب الفرد، ما يجعله مستمرًا فى دائرة واحدة، حفرة لن يتمكن من الخروج منها بسهولة.
واليوم، لم يعد من المستغرب الحديث عن علاقة الأطفال منذ سنوات أعمارهم الأولى بالهواتف، سواء كان استخدامها إيجابيًا ومحدودًا فى بعض البرامج والتطبيقات التعليمية أو سلبيًا وإلهائيًا يستمر لساعات طويلة من اليوم دون نظر إلى المضمون الذى يتعرض له الطفل. ومنذ سن الدخول إلى المدرسة وحتى فترة المراهقة ينخرط معظم الأطفال اليوم فى عوالم مواقع التواصل الاجتماعى، ودون وعى فى معظم الأحيان يقع الأطفال والمراهقون فى «جُحر أرنب» لا يدركون أن مخاطره تتعدى حدود إدمان الإنترنت الذى لا يُفاق منه بيسر لا سيما فى سنوات التكوين تلك.
تتيح منصات التواصل الاجتماعى «إنستجرام»، و«فيسبوك»، و«تيك توك» المئات من الفيديوهات القصيرة التى قد يُلائم محتواها المتنوع مختلف الأذواق والاهتمامات. مع كل نقرة على فيديو جديد يجد الطفل ذاته أمام عشرات من الفيديوهات ذات الصلة، ومن فيديو إلى آخر يتنقل بسلاسة، وتمر الساعات ولا يدرى الطفل أو المراهق أنه قد سقط فعليًا فى حفرة لن ينجو منها إلا إذا انتبه إليه أحد.
فى شهر مايو من العام الجارى كان الاتحاد الأوروبى قد أجرى تحقيقًا لمعرفة ما إذا كان فيسبوك وإنستجرام يسببان الإدمان لدرجة أن لهما «آثارًا سلبية» على الصحة الجسدية والعقلية للأطفال. قال الاتحاد الأوروبى عند إعلانه عن التحقيق: تشعر المفوضية بالقلق من أن أنظمة فيسبوك وإنستجرام، بما فى ذلك خوارزمياتهما، قد تحفز الإدمان السلوكى لدى الأطفال، فضلًا عن خلق ما يسمى بتأثيرات «جحر الأرنب»، والتى تشير إلى ميل الخوارزميات، عندما ينظر المستخدم إلى جزء واحد من المحتوى الضار، إلى اقتراح المزيد من الشىء نفسه.
ثقافة الريلز
ليست المخاطر الاجتماعية والنفسية لإدمان الإنترنت عمومًا ووسائل التواصل الاجتماعى خصوصًا التى تطال الأطفال بأضعاف ما تنال من البالغين هى فقط لُب الأزمة، فجحر الأرنب الذى يبتلع مستخدمى الإنترنت، ولا سيما الأطفال، يهدد بجيل جديد سيشهده المستقبل لا يعى من الثقافة شيئًا سوى قشورها بينما هو يظن أنه أحاط بكل شىء علمًا.
فى دراسة نُشرت العام الماضى لإيمان حلمى، مدرس الإذاعة والتليفزيون بكلية الآداب فى جامعة كفرالشيخ، توصّلت الباحثة فى نتائجها إلى أنه كلما ارتفع معدل تعرُض المراهقين لمقاطع الفيديو القصيرة «الريلز» على موقعى فيسبوك وإنستجرام، ارتفع الجانب المعرفى لديهم، لما تقدمه لهم هذه الفيديوهات من معلومات جديدة تؤثر على مدى إدراكهم ما يجرى حولهم فى مجتمعهم والعالم الخارجى.
لسنا هنا بصدد النظر فى المنهجية التى اتبعتها الباحثة للوصول إلى نتائجها، ولكن علينا فقط أن نفكر فى طبيعة هذا الجانب المعرفى الذى تصل الدراسة إلى نموه جراء التعرض لهذه الفيديوهات التى لا تتجاوز دقائق معدودة، ونسأل أى ثقافة تلك التى تتشكل فى جُحر يُحاصر فيه الطفل رُغمًا عنه ودون وعيه فى غالبية الأحيان؟ وأى ثقافة تلك التى تُملى على الطفل بعشوائية أو ربما بتخطيط ينظر إلى الربح ويهمل ما يُخلّف من خسائر فى مقدرات أجيال جديدة لا تطيق صبرًا على مطالعة طويلة أو مناقشة مستفيضة، وتلتقط المعلومة فى دقائق وجيزة لتُباهى بمعرفتها وتستكين إليها؟.
لا يمكننا إغفال أثر ثقافة «الريلز» فى تسطيح الثقافة، فالفيديوهات القصيرة التى تقدم محتوى بسيطًا ومباشرًا تعوق قدرة الأطفال والمراهقين على الفهم الشامل للموضوعات المختلفة. كما أن التعرض المتزايد للمحتوى السريع يقود إلى الابتعاد عن التفكير العميق وافتقار القدرة على التركيز، علاوة على أن استهلاك «الريلز» المتزايد يصب فى مصلحة مجموعة محدودة من الأفكار والثقافات، ما يجعل شباب المستقبل أكثر عرضة للاستلاب الفكرى والثقافى.
فى هذا الملف، نستعرض بعض التقارير والدراسات التى عُنيت بجوانب مهمة من هذا الموضوع، كما نتناقش مع بعض الخبراء سواء فى ثقافة الطفل بشكل عام أو فى أدب الطفل على نحو الخصوص حول السُبل الممكنة لإنقاذ الطفل من جُحر الأرنب وتوجيهه إلى صبر على عالم القراءة والمطالعة المتأنية.
اقرأ في الملف:
-محسن يونس: نحتاج لأدب طفل يستقصى الحاضر والمستقبل
-تقرير هندى: ترويج للابتذال والتمييز الجنسى
-نسرين حسن: التطبيقات تهدد هوية الأجيال الجديدة
-يارا إبراهيم: توصيات الحد من مخاطر الثقافة الإلكترونية للطفل تحتاج لآذان صاغية
-فاضل الكعبى: نعيش خطر إدمان الأطفال للإنترنت.. والأسرة فقدت زمام الأمور