«بساط الريح».. رحلة محمد عبلة بين الواقع والخيال
في إحدى قصص «ألف ليلة وليلة» يحظى علاء الدين ببساط سحري يسمح له بخوض مغامرات مختلفة، وبفضله يصير بمقدوره اكتشاف العالم وتجاوز حدوده الضيقة. وفي معرض «بساط الريح» يستعير الفنان المصري ذلك البساط ليؤسس لحلم قادر على أن يتجاوز الواقع وضغوطه.
يضم المعرض، المقام حاليًا بجاليري الزمالك حتى الخامس من نوفمبر المقبل، ما يقرب من 45 لوحة وستة منحوتات، يحلق فيها أشخاص متنوعي الخلفيات الثقافية والاجتماعية والفكرية في السماء على بساط حينًا، أو بمعاونة أجنحة تنبت لهم حينًا آخر، لكنهم جميعًا يشتركون في الحرية والسعادة والتحليق فوق قيود الواقع الخانقة.
يقول محمد عبلة في حديثه مع «حرف» إنه شرع في رسم لوحات هذا المعرض قبل ستة أشهر، بينما كانت تسيطر عليه فكرة ضيق كثير من الشباب بحياتهم ورغبتهم في هجرة توفر لهم شكلًا آخر من الحياة، ومن هنا استعان بالخيال طلبًا للحلم؛ حلم بمقدوره التسامي على الواقع وتأمله عن بعد لعل ذلك يكون بابًا لتغييره نحو الأفضل.
يبرز محمد عبلة في أعماله المختلفة اهتمامًا وشغفًا خاصًا بالشوارع المصرية بكل ما تعج به من صخب وحركة ومشاهد من الحياة اليومية. في معرض سابق له بعنوان «ليالي المدينة» كان هذا الصخب حاضرًا إلى جوار التركيز على عناصر من شأنها الإعلاء من قيمة الحرية والانطلاق والانعتاق من القيود. وفي «بساط الريح» يحتل البساط بكل ما يحمله من تحرر وانطلاق صدارة اللوحات ليكون هو البطل الذي يطمس ما سواه من مشاهد يومية في الواقع المعيش. فبينما ينطلق البساط في آفاق رحبة حاملًا معه أناس حالمون، تطمس الضربات اللونية الزاهية خلفية المشهد بمعظم اللوحات، جاعلة من البساط حالة تنأى عن الواقع وتقترب من براءة الحلم وعفويته وتجرده.
يشير الفنان المصري إلى أنه لا يفكر بأية علاقات بين كل معرض وما يليه أو يسبقه، فكل معرض بالنسبة له محض حالة لها منطلقاتها الخاصة ودوافعها وظروفها، وإن كان ثمة تشابه بين معرض وآخر فإنه لا يكون مقصودًا، كما أن الاختلافات، حتى في حالة تقارب الأفكار بين المعارض، تظل حاضرة عبر الأسلوب والمنظور الفني.
يوظف عبلة الألوان بوعي وكثافة لخلق حالة من البهجة تشع من اللوحات، وتمنح هامشًا من الأمل في حياة تلامس ما هو جوهري في الطبيعة البشرية، ومن ثم تأتي ألوان الطبيعة الدافئة والباردة بتدرجاتها اللونية لتجعل من الإنسان الحالم جزءًا من الكون الأكبر، متماسًا مع نبضاته ومتسقًا مع لغته الخاصة، وليجعل ركاب البساط يبحرون فوق مشاهد غائمة من الواقع، بما يمثل الانعتاق من وطأة هذا الواقع.
يطرح المعرض ما يشبه الحلم الجماعي برحلة على متن بساط يسكنه في كل مرة شخصيات شديدة المصرية تمثل أطيافا مختلفة من المجتمع، من الأطفال والكبار والنساء والرجال المنتمين لشرائح مختلفة، حاملين معهم حكاياتهم وذكرياتهم ومواطن البهجة في حياتهم، والتي تختلف من شخص لآخر ومن أسرة إلى أخرى. تمثل كل لوحة عالمًا وشكلًا خاصًا من التحرر عبر الحلم والارتفاع فوق عبء الواقع، فثمة لوحات يتمثل فيها الحلم بالقبض على لحظة أو مشهد يُستدعى فيجلب معه البهجة ونوستالجيا العلاقات الآمنة البسيطة، وأخرى تستدعي دفء يتبدى في علاقات حب بسيطة ومجردة، قد تكون بين أم وطفلها، أو بين رجل وأسرته، أو حتى بين البشر وأشياء بسيطة ضامنة لاستمرار بهجتهم وانتشائهم؛ تتباين مفردات البساط بين الكتب، والنباتات، والزهور، والحيوانات، وحتى البالونات، لتكون انعكاسًا لآمال وطموحات كل من عليه.
ينأى عالم البساط السحري عن الانغماس في الواقع، وهو ما يتحقق في لوحات بالتحليق سواء فوق البساط أو بدونه مع بلالين تعزز حالة البهجة، أو بالاحتفاظ بعناصر محددة تمثل تمسكًا بالهوية والحضارة المصرية القديمة، فنجد حضورًا للأهرامات والمآذن وعناصر تراثية أخرى بينما تشوش الكتل الخرسانية الجامدة التي قد يمثل حضورها اختناقًا لحالة الحلم المكثفة باللوحات، أو حتى باستدعاء القبح لمواجهته، وهو ما يتمثل في حضور النباتات التي يعاد إحيائها على البساط من بعد موت.
غير أنه في لوحات قليلة أخرى، يبدو البساط وكأنه يحلق فوق مشهد حقيقي لشارع مصري مكتظ بالعابرين المندمجين في مشاغلهم اليومية الساحقة، فيقدم حالة من التعارض بين حالتين؛ حالة الحلم والتشبث بما هو مهم وأصيل للوجود الإنساني، وحالة اللهاث اليومي التي تجعل أصحابها في ضغط وقلق مستمرين. وهي الحالة التي تمكن عبلة من صنعها برسمه المنظر الخلفي المذبذب أولًا ثم رسم الأشخاص على البساط في المرحلة التالية.
يرى محمد عبلة، في ختام حديثه معنا، أن الفن قد لا يمس كل الناس، لكنه يظل محاولة حثيثة لزرع بذور الجمال في وجه القبح، فالفن قد يكون رسالة لمن يريد أن يسمع ويرى، لأن بمقدوره مواجهة القبح بجمال ما، وخلق مساحة أمل وفتح باب للحلم. عبلة يرى في معرضه هذا رحلة سحرية تعيد للإنسانية حلمها، وتنبهنا إلى أن الفن رغم بساطته قادر على أن يكون سلاحًا ضد قسوة الواقع، وأن يغرس بداخلنا شغفًا أكبر بالحياة، مهما كانت الأجواء معتمة.