الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إيان كامبل: روايات الخيال العلمى العربية لا تقل جودة عن نظيرتها الغربية

الناقد إيان كامبل
الناقد إيان كامبل

- الخيال العلمى العربى بالقرن الحادى والعشرين يهتم أكثر بالديستوبيا

- أتطلع بشغف لقراءة الترجمة العربية لكتابى عن الخيال العلمى العربى

تشهد المكتبة العربية قصورًا فى الإصدارات المعنية بأدب الخيال العلمى العربى نقدًا وتحليلًا، إذ يقتصر الأمر على دراسات متفرقة تفتقر إلى الرؤية الشاملة والبناء المنهجى فى بعض الأحيان، وفى أحيان أخرى تميل إلى التركيز على كُتاب بأعينهم وإهمال آخرين ممن كانت أعمالهم حجر أساس فى بنيان أدب الخيال العلمى العربى، فالمكتبة العربية تُراكم إبداعات تتجدد يمكن إدراجها تحت تصنيف الخيال العلمى، ولكنها لا تحظى باهتمام نقدى قادر على تحليلها بما يتجاوز المناهج النقدية التقليدية غير القادرة على سبر أغوار النصوص وما تحمله من خطابات.

فى ظل ذلك، يأتى كتاب «الخيال العلمى العربى»، الصادر حديثًا بترجمة عربية عن المركز القومى للترجمة فى مصر، لأستاذ الأدب العربى والمقارن، بجامعة جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، إيان كامبل، ليسد فجوة يُدركها كل مهتم بهذا النوع من الأدب وكل مطلع على النقد المكتوب عنه. 

يقدم كامبل تأسيسًا نظريًا لمصطلح الخيال العلمى وما يرتبط به من مفاهيم ونصوص مؤسسة عربية وغربية، ثم بالاستنناد إلى أدوات نظرية مهمة يقدم قراءات مغايرة لعدد من أعمال الخيال العلمى العربى وهى «قاهر الزمن» للكاتب المصرى نهاد الشريف، و«العنكبوت» و«رجل تحت الصفر» لمصطفى محمود، و«السيد من حقل السبانخ» لصبرى موسى، و«الطوفان الأزرق» للروائى المغربى أحمد عبدالسلام البقالى، و«خلف حاجز الزمن» للروائى السورى طالب عمران، وثلاث روايات للكاتبة الكويتية طيبة أحمد الإبراهيم.

ما يميز كتاب كامبل ليس فقط موضوعه وإنما المنهج الذى من خلاله يقارب هذا الموضوع شبه المهمل، فالكتاب لا يلقى فقط ضوءًا ساطعًا على أعمال مؤسِسة للخيال العلمى العربى وإنما يعيد قراءة هذه الأعمال عبر منظار مفهوم «التغريب»، إذ يرى كامبل أن روايات الخيال العلمى العربى تخفى انتقادات معقدة وجهها الكتاب العرب لمجتمعاتهم خلف ستار سرديات الخيال العلمى، وهو ما يعد قراءة مغايرة لأدب لطالما اتُهِم بالانشغال بالفانتازى عن هموم الواقع وقضاياه. 

يرى كامبل أن الخيال العلمى العربى يقدم نقدًا اجتماعيًا من خلال توضيح تعقيدات الصراع بين القيم الاجتماعية التقدمية والقيم الاجتماعية المحافظة، أو بنقد التوجهات السائدة بمجتمعات المؤلفين، وهو ما يوضحه بقوله: «يعكس التغريب المجتمع فى مرآة تُموِّه، وهى بذلك تركز على ملمح معين للمجتمع من أجل أن يعمل الخيال العلمى كوسيط للنقد الاجتماعى عن طريق التعرض للواقع الاجتماعى المعاصر.. يشتبك الخيال العلمى العربى فى النقد الاجتماعى لا لأنه الوظيفة الأولية للتدليل على أن الخيال العلمى العربى حالة أدبية أو يطمح أن يكون حالة أدبية، لا مجرد نوع قصصى تخييلى، ومن ثم يتناوله النقاد والقراء بشكل جاد». 

جانب آخر من جوانب التميز المتعددة فى هذا الكتاب يتعلق بالاشتباك النقدى الذى يقيمه المؤلف مع النصوص النقدية السابقة سواء العربية أو الغربية، فملاحظاته المهمة عن ميل النقاد العرب نحو الاهتمام بالخصائص الشكلية فى الأدب، وميل بعض من التناول النقدى العربى إلى التعميم بما قد يجافى النص، لا يمنعه من استبصار أوجه القصور بالنقد الغربى للخيال العلمى العربى، فيلفت إلى الأوجه الاستشراقية التى تحملها بعض التناولات النقدية الغربية حين تركز على الفوارق الثقافية التى تقدم نظرة متدنية للخيال العلمى العربى. 

يحقق هذا الكتاب طموحه بأن يكون مصدرًا لدارسى الأدب العربى، غير المطلعين على نظرية الخيال العلمى، وربما تحقق القراءة المتأنية له أمل الكاتب فى أن يتعامل النقاد مع الخيال العلمى العربى باعتباره نوعًا ناضجًا يستحق دراسة جادة، ومصدرًا للدراسات المستقبلية. 

«حرف» حاورت الناقد الأمريكى إيان كامبل حول كتابه، وملاحظاته التى خرج بها عن الخيال العلمى العربى والنقد المكتوب عنه، وأوجه الاختلاف التى يراها واضحة بين الخيال العلمى العربى ونظيره الغربى. 

■ كيف بدأ اهتمامك بالأدب العربى بشكل عام ثم بالخيال العلمى العربى؟ هل البداية جاءت من قراءة روايات الخيال العلمى العربية أم من استشعار قصور الدراسات النقدية بهذا المجال؟

- بدأ اهتمامى بالأدب العربى فى سياق دراساتى العليا. فى البداية، كنت مهتمًا بكيفية تغيير شكل الرواية، باعتبارها جنسًا مستعارًا من الأدب الأوروبى، وتكيفها مع سياق المجتمعات الناطقة بالعربية. كيف تم استخدام الرواية، التى هى منتج للقوة الاستعمارية، لتعضيد مقاومة الاستعمار، كان هذا موضوع دراستى الأولى عن الروايات المغربية المكتوبة باللغة العربية فى الخمسينيات والستينيات. 

عندما بدأت قراءة الروايات المغربية المكتوبة باللغة العربية فى السبعينيات، تحضيرًا لدراسة ثانية عن الأدب المغربى، كان أحد الكتب التى قرأتها رواية محمد عزيز الحبابى «إكسير الحياة». كنت دائمًا من أشد المعجبين بالخيال العلمى باللغة الإنجليزية، لذلك كان من السهل بالنسبة لى معرفة أن رواية إكسير الحياة هى رواية خيال علمى، قرأت رواية مغربية أخرى من هذه الفترة، هى رواية عبدالسلام البقالى «الطوفان الأزرق»، وهى أيضًا فى الخيال العلمى. لذلك بدأت أسأل نفسى ما إذا كانت هناك روايات خيال علمى أخرى باللغة العربية، وبدأت فى إجراء البحث، ووجدت هذه النصوص من عام ١٩٦٥ إلى عام ١٩٩٢ التى أصبحت أساس الخيال العلمى العربى. ومن هنا واصلت الكتابة عن هذا الموضوع. وربما فى يوم من الأيام، سيكون لدىّ وقت للعودة إلى الخيال الأدبى المغربى.

■ من واقع اطلاعك على روايات الخيال العلمى العربية.. هل من اهتمامات أساسية ترى أنها تهيمن عليها؟

- هناك فترتان بهذا الصدد. تحاكى معظم الأعمال المبكرة جدًا فى الخيال العلمى العربى التى كتبت عنها مجازات الخيال العلمى الأنجلو-أمريكى؛ سفن الفضاء، والكائنات الفضائية، والتكنولوجيا المتقدمة، وما إلى ذلك. أما الأعمال اللاحقة فتنحو إلى إدخال المزيد من العناصر الفانتازية. الفرق بين الخيال العلمى والفانتازيا هو أنه فى الخيال العلمى، تُصوّر التطورات الجديدة على أنها قابلة للتصديق علميًا ضمن حدود الرواية، حتى لو لم تكن منطقية تمامًا فى العالم الحقيقى. وعلى النقيض من ذلك، لا تُصوِّر الفانتازيا التطورات الجديدة باعتبارها معقولة من الناحية العلمية: فهى إما «سِحر» أو غير قابلة للتفسير. 

لقد اقترب كل من الخيال العلمى العربى والأنجلو أمريكى من الفانتازيا على مدى العقدين الماضيين. الهدف من الخيال العلمى، بالإضافة إلى سرد قصة مثيرة للاهتمام، هو ما يسمى «التغريب estrangement»، وهو مصطلح مستعار من المسرح التعبيرى الطليعى الألمانى فى ثلاثينيات القرن العشرين. يهدف التغريب إلى عكس ثقافة القارئ فى «مرآة مموهة»، إذ يجعلها غير مألوفة وبالتالى أكثر قابلية للنقد. لذا فإن ما هو غريب أو مغاير فى الخيال العلمى دائمًا ما يكون انعكاسًا مموهًا لما هو مألوف بالنسبة لنا. 

يقوم الخيال العلمى العربى المبكر بذلك طوال الوقت. على سبيل المثال، تدور أحداث رواية «السيد من حقل السبانخ» لصبرى موسى بمستقبل بعيد ديستوبى، حيث جعل تغير المناخ الأرض غير صالحة للسكن خارج القباب الواقية، ولكن إذا قرأنا الرواية بعناية، سنجدها تتحدث عن مصر فى أواخر الثمانينيات والاختيار بين نظام مبارك والإخوان المسلمين. لذا فإن ما يفيد الخيال العلمى فى العالم الناطق بالعربية هو تقديم هذا النوع من الانتقادات المموهة التى لا يمكن توجيهها بشكل مباشر. 

هناك شىء آخر كان يحدث فى الخيال العلمى باللغة العربية، خاصة فى العقود السابقة، وهو المقارنة بين التكنولوجيا المتقدمة، المستوردة عادة من الغرب، والهيمنة الطويلة للناطقين بالعربية على التكنولوجيا فى العصور الوسطى. كيف يمكن للثقافة التى قادت العالم لفترة طويلة أن تتخلف الآن؟ يميل الخيال العلمى العربى المبكر إلى التساؤل حول هذا الأمر، ومع ذلك، لم يعد ذلك شائعًا فى الخيال العلمى العربى بالقرن الحادى والعشرين، الذى صار يهتم أكثر بالخيال الديستوبى.

■ هل ثمة فجوة كبيرة بين الروايات العربية والغربية فى الخيال العلمى؟ 

- نعم ولا. استغرق الخيال العلمى وقتًا أطول فى الغرب ليصبح جزءًا عاديًا من الأدب، لذلك كان راسخًا فى الوقت الذى بدأ فيه الخيال العلمى فى العالم الناطق بالعربية. يتضح من الكثير من الأعمال النقدية الأولى حول الخيال العلمى باللغة العربية أن الخيال العلمى لم يكن مألوفًا جدًا للقراء والنقاد على حدٍ سواء فى ذلك الوقت. ولكن الآن اختفت هذه الفجوة فى الغالب.

بالنسبة للقراء العرب، فإن تأثير أفلام الخيال العلمى والتليفزيون الغربى هو المحرك الأكبر لزيادة الوعى بطبيعة الخيال العلمى، انظرى فقط إلى سلسلة «حرب النجوم» وكل ما تبعها. فى عام ١٩٦٥، كانت الاستعارات المعيارية للخيال العلمى قد حيرت معظم القراء العرب، ليس لأنهم أقل ذكاءً، بل لمجرد أنهم لم يروها أو يقرأوا عنها من قبل. الآن، يمكنك الحديث عن «الفضاء الفائق»، وسيفهم الجميع ذلك. فى عام ٢٠٢٤، يمكننا القول إن روايات الخيال العلمى العربى المميزة لا تقل جودة وتطورًا عن نظيرتها الغربية.

■ هل تعتقد بأن الأعمال النقدية الدارسة لروايات الخيال العلمى العربى ما زالت محدودة وقاصرة؟ 

- أعتقد أن نقد الخيال العلمى بالعالم العربى فى حالة ممتازة. حتى عام ٢٠٠٠ أو نحو ذلك، كان هناك نقد ساذج للخيال العلمى. على سبيل المثال، كان النقاد الغربيون أحيانًا يصنفون الخيال العلمى على أنه «صعب» أو «سهل»، أو بين هذين القطبين، إذ تشير كلمة «صعب» إلى أن كل الأشياء الجديدة المقدمة فى النص تستند إلى علم مثبت، و«سهل» يعنى أنه يتضمن عادةً عناصر من الفانتازيا أو يركز على الجوانب الاجتماعية بدلًا من الجوانب العلمية للتكنولوجيا. لكن الأمور الآن مختلفة تمامًا. هناك جيل جديد تمامًا من النقاد العرب للخيال العلمى الغربى والعربى، وهم على دراية جيدة بالنظرية والتطبيق، وأعتقد أنهم يقومون بعمل عظيم.

■ قلت إنك بصدد تقديم دراسة لاحقة عن أدب الخيال العلمى من منظور الدراسات ما بعد الكولونيالية.. ما الذى تأمل تحقيقه من خلالها؟

- لقد غيرتها قليلًا. أنا فى المراحل الأولية من العمل على دراسة جديدة، ولكن ما أصبح أكثر إثارة لاهتمامى هو سبب تركيز الكثير من الخيال العلمى العربى بعد عام ٢٠١٠ على الديستوبيا. هناك الكثير من النصوص الممتازة؛ رواية محمد ربيع «عطارد» واحدة منها، وهى توظف الديستوبيا فى سبيل النقد الاجتماعى. هل هى مجرد موضة أم أن هناك شيئًا مفيدًا للغاية فى الديستوبيا يجعلها سائدة جدًا فى الخيال العلمى العربى خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، بينما لا نرى قدرًا كبيرًا منها فى الخيال العلمى الأنجلو-أمريكى؟ هذا هو السؤال الذى أركز عليه حاليًا.

■لقد نُشرت مؤخرًا الترجمة العربية لكتابك فى مصر، وهو ما يسد فجوة كبيرة فى هذا المجال. كيف تشعر حيال ذلك؟

-أنا متحمس للغاية لذلك. الترجمة حديثة جدًا ولا أملك حتى نسخة منها حتى الآن. بالإضافة إلى الخيال العلمى العربى، فإن أحد اهتماماتى الأساسية هو نظرية الترجمة وممارستها، لقد حررت مجلدًا حول هذا الموضوع ونُشر فى عام 2021. كيف تترجم ليس فقط لغة الخيال العلمى وإنما أيضًا مجازات الخيال العلمى، إلى لغات وثقافات أخرى؟ كيف يمكن للناس من الثقافات المستعمرَة سابقًا «الرد» على الثقافات المستعمِرة واستخدام الخيال العلمى بشكل مختلف لتحقيق هذا؟ لذلك أنا فى انتظار قراءة النص المترجم لعملى، لأننى شغوف جدًا بمعرفة كيف تُرجِمت الأفكار التى أتحدث عنها إلى اللغة العربية.