البنية الجدلية فى رواية «سلامٌ على إبراهيم» للدكتور محمد عفيفى
تكمن صعوبة طرق أبواب التاريخ عند طرحه أنّه يستوجب من المؤرّخ أن يعتمد مناهج تقوم على الأمانة العلمية والدقّة كأدوات فى بحوثه التاريخية، كما يفرض التاريخ على علمائه ومؤرخيه أن يستندوا إلى البحث والتحقّق والتثبّت والتأكّد من أى معلومة قبل تبنّيها، لأنّ التاريخ حقل علمى يعتمد مناهج علمية ليصل إلى نتيجة مثبتة وحقائق دامغة. وفى هذا يتعارض مع حقول أخرى كالآداب والفنون، لأنّ هذه الأخيرة تمتطى المتخيّل والوهم فى كتابة المنجز الأدبى «الرواية أو القصة أو المسرح...»، ناهيك عن اعتمادها عالمًا متخيّلًا مسرحًا لحكايتها ولشخوصها؛ ومهما استدعى الأديب حدثًا تاريخيًا أو شخصية تاريخية يظلّ التاريخ هنا جزءًا يسيرًا فى المنجز الأدبى المُتخيّل. لذلك يختلف كتاب التاريخ عن كتاب الأدب وعن الفيلم السينمائى، فلكلّ منجز من هذه الإنجازات شروطه وخصوصيّته وميثاقه وسماته.
وهذا بالضبط ما طرحه الدكتور محمد عفيفى فى روايته سلام على إبراهيم الصادرة عن دار الشروق، لذلك فرضَ طرح الرواية علىّ أن أرصد المستوى الدلالى فيها، وأن أرقب الحقول المعجمية والبنية الدلالية التى نهضت عليها الرواية، منطلقة من فرضيّة وجود بنية جدلية تعارضية فى المستوى الدلالى للرواية بين التاريخ والفنّ، معتمدةً المنهج البنيوى التحليلى فى هذه الدراسة.
متسائلة عن الثنائيات الضّدّيّة التى شكّلت البنية الجدلية الدلالية، وما هى العلاقات التى نُسجت بين المستويات الدلالية من جهة وبينها وبين الشّخصيات والفضاء المكانى من جهة أخرى؟
الحكاية فى الرواية
تنطلق الأحداث فى عام ١٩٤٦، تقوم الحكاية فى الرواية على سعى حسنين باشا إلى إقناع الملك فاروق برغبته فى إنتاج فيلم عن حياة إبراهيم باشا خاصة أنّه بعد عامين «١٩٤٨» ستحلّ ذكرى مئوية وفاة إبراهيم باشا، الجدّ الكبير للملك فاروق، وبفضل التأثير الكبير لحسنين باشا رئيس الديوان الملكى على الملك فاروق، يقتنع هذا الأخير بضرورة توظيف الفيلم السينمائى فى خدمة القصر الملكى، كفيلم دعائى لتجميل صورة الملك فاروق لدى الرأى العام. نقرأ فى الصفحة ١١: «لكن حسنين باشا أعاد توظيف الفكرة إلى حدّ ما فى عام ١٩٤٤، يذكّر حسنين باشا مليكه فاروق كيف استغلّوا فيلم «غرام وانتقام» وصوت وجمال أسمهان، وكيف أقحموا فى هذا الفيلم العاطفى الأوبريت الشهير «مواكب العزّ» تخليدًا لمآثر الأسرة العلويّة فى مصر الحديثة...».
يموت حسنين باشا فى حادث سيارة، فيؤول المشروع نفسه إلى كريم ثابت المستشار الصحفى للديوان الملكى، يؤلف لجنة لتنفيذ هذا الفيلم وينقل الرغبة الملكية إلى حسنى بك نجيب مدير شركة مصر للتمثيل والسينما، ويوسف بك وهبى الممثل والفنان العظيم للقيام بدور إبراهيم، وأحمد رامى الشاعر والمثقّف لكتابة الحوار والسيناريو والأوبريت، وشفيق غربال المؤرّخ الشهير تلميذ أكبر مؤرخ فى العالم «توينبى».
البنية الجدلية فى الرواية
تقوم الرواية على حقلين معجمييْن متعارضيْن شكّلا البنية الجدلية فيها:
الحقل الأول هو حقل الفنّ، نرصد فى ألفاظه وتعابيره ما يلى: «السينما التى أسرت بسحرها الناس، لماذا لا توظّف السينما فى حملة العلاقات العامة للقصر؟ ص ١٠، أدرك القصر أهمية هذا الاختراع العجيب فى الدعاية السياسية ص ١١، حاول القصر عام ١٩٢٥ إنتاج أفلام تاريخية لتأكيد مشروعيّة الملكية المصرية الوليدة ص ١١، هذا المجد سيتأكد عبر سلسلة من الأفلام التاريخية التى ستساعد على إعادة صياغة الرأى العام ص ١١، السينما من جديد يا مولانا، فيلمان تاريخيان فى ذكرى إبراهيم باشا ومحمد على، أمجاد الأسرة العلويّة.. هل سمعتَ عن فيلم عن «سعد زغلول»؟ لا، السينما فى خدمة الوطن والملك ص ١٣، يدرك كريم ثابت أنّه أحكم السيطرة على الإذاعة والكثير من الصحف لصالح القصر.. ولكن ماذا عن السينما؟ إلى أين وصل مشروع فيلم إبراهيم باشا؟ ص ٢٧، عظمة الفنّ تكمن فى كيف يمكن تجسيد الشخصية التاريخية سواء فى مسرحية أو فيلم وتجذب المشاهد.. ص ٣٢، الفن فى خدمة التاريخ والسياسة كمان ص ٤٢، تصدح موسيقى تصويرية فى شكل مارشات عسكرية تذكر إبراهيم باشا بواجبه العسكرى كقائد ص ١٠٨، لقطة مقرّبة على وجه إبراهيم الذى تبدأ الإضاءة تسلّط عليه وكأنها نور ربانى استعدادًا للحظة الرحيل ص ١١٣، تنزل صورة الملك فاروق على الشاشة وتصدح الموسيقى بالسلام الملكى ص ١١٤.
التحام المستوى الدلالى بالفضاء المكانى
ترافق مع هذا الحقل المعجمى مكانان غلبا عليه الأول هو القصر، والثانى هو استديو مصر، بالإضافة إلى فضاء مكانى ثالث أقل ظهورًا من سابقه وهو منزل يوسف بك وهبى حين كان يتصوّر السيناريو ويكتبه. ورد: «اجتمعت اللجنة من جديد ولكن هذه المرة فى مكتب نجيب فى استديو مصر. نجح نجيب فى إقناع كريم ثابت بنقل مكان الاجتماع من القصر إلى استديو مصر.. ص ٣٩».
وفى الصفحة ١٠٧ «وهبى على مكتبه يبدأ فى وضع لمساته على ما تبقّى من السيناريو...».
التحام المستوى الدلالى بالشخصية
نلحظ أنّ حقل الفنّ ارتبط ارتباطًا وثيقًا بشخصيات محددة فى الرواية، وجميعها شخصيات فنّية مثل يوسف بك وهبى، وحسنى بك نجيب، لينقل هذا الحقل الخلفية الفكرية لكلّ من هذه الشخصيات ورؤيتها الفنية لهذا الفيلم ومدى خدمته للصورة الدعائية للملك فاروق وكيفية تجميل صورته لدى الرأى العام المصرى. وهنا انحازت هاتان الشخصيتان للفنّ وشروطه فى نسج التاريخ بحسب أهواء الفنانين ومصالحهم، حتى لو اقتضى ذلك تكذيب التاريخ وتزوير حقائقه.
وبالتالى إنّ ظهور أحد صوتى الشخصيتين يوسف بك وهبى أو حسنى بك نجيب، يستدعى حضور الرؤية الفنية لمشروع الفيلم، كما يستدعى ظهور الفضاء المكانى الدالّ عليهما، مما أدّى إلى تشابك ورباط بين هذه المستويات الثلاثة فى الرواية «حقل الفن، والمكان، والشخصية» لتتجلّى العلاقات الخفيّة بينها جميعها.
الحقل المعجمى الثانى هو حقل التاريخ، نرصد فى ألفاظه وتعابيره ما يلى: ص ٤١ «اتّجهت الأنظار كلها نحو غربال، هو المؤرّخ العليم بشخصية إبراهيم ومن غزله سيتمّ نسج الفيلم، وحده غربال غارق فى أفكاره يحاول أن يقيّم هذا المشهد بميزان التاريخ» ص ٥١، ثم نقرأ فى الصفحة نفسها: «إنّ فكرة النبوءة دائمًا مثيرة وأجدها كثيرًا فى الأفلام التاريخية بل أحيانًا فى كتب التاريخ، لكن إبراهيم باشا لا يمكن أن يطلق اسم إسماعيل على ابنه بسبب نبوءة، حقائق التاريخ تكذّب ذلك...»، وفى ص ٥٢» هل تعتقد أنّ الجمهور يدرى أنّ هناك أخًا لإبراهيم باشا يُدعى إسماعيل؟ أقسم لك أنى أنا شخصيًا لا أعرف هذه المعلومة وأقسم لك أنّ الجمهور سيصدّق النبوءة ويكذّب كتب التاريخ، نظرات غربال تتجه إلى داخله، يحاول أن يوازن بين ضميره كمؤرخ وبين طبائع السينما...»، «هنا تخلّى نجيب عن دبلوماسيته المعهودة وراح يشرح أن الهدف ليس إعداد كتاب فى التاريخ، بل فيلم تاريخى بمناسبة مئوية وفاة إبراهيم باشا، وأنّ الهدف الحقيقى هو هدف دعائى لاستدعاء التاريخ لخدمة استمراريّة الأسرة العلوية... ص ٥٣ -٥٤.
«تتضارب المصادر التاريخية فى رسم ملامح وتطور هذه العلاقة، كانت أول صدمة تلقاها غربال فى هذا الشأن هى مسألة التشكيك فى بنوّة إبراهيم ونسبه إلى محمد على، ص ٥٦»، تكرّرت لفظة «تؤكد» وعبارة «المصادر التاريخية» فى الصفحات من ٥٦ إلى ٦١ خمس مرات، حين كان غربال يدقق ويقرأ ويبحث عن العلاقة بين محمد على الأب بابنه إبراهيم باشا. على سبيل المثال نذكر: «تؤكد المصادر التاريخية أنّ محمد على لم يتزوّج إلا مرة واحدة.. أغلب المصادر تؤكد أنّ من وراء هذه الإشاعة..».
وفى الصفحة ٦٤ نقرأ: «رامى إلى جانب كونه شاعرًا، فهو قارئ جيد للتاريخ، لذلك لم يرتحْ كثيرًا إلى رواية غربال، أحسّ أنّهم يكتبون قصة أسرة من الأنبياء أو من القدّيسين»، «التاريخ حمّال أوجه ص ٦٩، رامى: سارع بالردّ: أعلم أن التاريخ رمادى، لم يأخذ غربال وقتًا للرد..: لكنّنا اخترنا الأبيض.. ص ٦٩». «أى تاريخ؟ المهزوم لا يكتب التاريخ والموتى كذلك ص ٧٠»، «رامى الشاعر الحالم يعتذر عن عدم استكمال كتابة السيناريو والحوار للفيلم، لماذا؟ لأنّ ضميره الأدبى والفنى لا يسمح له بتزوير التاريخ! «ص ٩٣».
التحام المستوى الدلالى بالفضاء المكانى
ومن اللافت أنّ هذا الحقل بنى علاقة قوية بفضاء مكانى يقوم على ثلاثة أمكنة أولها استديو مصر، وثانيها مكتبة غربال فى منزله ومكتبة رامى فى منزله كذلك، حيث ظهر جليًا الحقل فى هذا الفضاء المكانى، ليوطّد علاقته بالمكان من جهة وبالشخصية الثقافية والفكرية التى مثّلت وجهة نظر التاريخ لشخصية إبراهيم باشا.
التحام المستوى الدلالى بالشخصية
ارتبط حقل التاريخ بشخصيتيْن محددتين هما: المؤرخ غربال، والشاعر المثقف رامى اللذيْن انحازا للتاريخ بما يحمله من حقيقة مثبتة ومؤكّدة من دون التلاعب فيه أو تكذيبه لخدمة السلطة أو الملك. فقد رفضا كتابة سيناريو للفيلم بعدما دقّقا فى المصادر التاريخية حول إبراهيم باشا وعلاقته بوالده محمد على.
وبالتالى إنّ ظهور أحد صوتى الشخصيّتين يؤدّى إلى ظهور الرؤية الفكرية والتاريخية لمشروع الفيلم السينمائى، من خلال فضاء مكانى حرّ «المكتبة- المنزل» بعيد عن ترهيب القصر وما يفرضه هذا الأخير من قمع فى التعبير عن الأفكار، وكذلك يحمل الصوتان السابقان الحقل المعجمى للتاريخ كما ذكرْنا سابقًا. وبناءً عليه، تتشابك العلاقات بين المستويات الثلاثة فى الرواية، المستوى الدلالى المتمثل بالحقل المعجمى، والفضاء المكانى والشخصية.
المصادر والمراجع
■ بوث «وين»، بلاغة الفن القصصى، نقله من الإنجليزية إلى العربية أحمد خليل عردات، على بن أحمد الغامدى، الطبعة الثانية، السعودية، جامعة الملك سعود: 1994.
■ سويدان «سامى»، فى دلالية القصص وشعرية السرد، الطبعة الأولى، بيروت: دار الآداب، 1991.
■ عفيفى «محمد» سلام على إبراهيم، الطبعة الأولى، مصر: دار الشروق، 2023.