الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

د. أيمن الغندور يكتب: الأنا والآخر في رواية «بونابرتة» لنشأت المصري

رواية بونابرتة لنشأت
رواية بونابرتة لنشأت المصري

الأدب والتاريخ وجهان لعملة واحدة فمن ناحية يبحث التاريخ عن الحقيقة ويحاول أن يوثقها بأسلوب أدبي يجذب القراء، ومن ناحية أخرى يتناول الأدب أحداثاً تاريخية ويعود بنا إلى عصور سالفة متكئاً على الخيال لفك طلاسم استعصت على التاريخ وأبت أن تبوح له بأسرارها.

الرواية التاريخية

وتعتبر الرواية التاريخية الابنة الشرعية لانصهار الأدب والتاريخ فهي تأخذ من الأول تقنيات السرد والوصف والقدرة على تقديم شخصيات خيالية من لحم ودم، كما أنها تستمد من الثاني الشخصيات التاريخية والحقائق والثوابت التي لا يمكن المساس بها. ويؤكد لوكاش أن "ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي". 

وتاريخ الأدب العربي والغربي مليء بروايات تاريخية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "الفرسان الثلاثة" لألكسندر دوما، و"البؤساء" لفيكتور هوجو، و"الأحمر والأسود" لستاندال، و"صحراء" لـ لوكليزيو، و"إخناتون أو الإله اللعين" لجلبير سينويه، و"ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، و"كفاح طيبة" و"عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"العائش في الحقيقة" لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ.

حقبة الحملة الفرنسية

وتعد رواية "بونابرتة" للكاتب نشأت المصري أحدث الروايات التاريخية الصادرة عن "دار النابغة" هذا العام، وهى تقع في مائة صفحة يرصد الكاتب من خلالها حملة نابليون على مصر، وهنا تكمن أهميتها حيث أنها تنتمي إلى أدب ما بعد الاستعمار؛ هذا المجال الخصب الراصد للأنا والآخر والثقافات المختلفة، كما أنها تلقي الضوء على حقبة مهمة وهى حقبة الحملة الفرنسية التي كانت بمثابة صدمة حضارية للمصريين الذين عرفوا من خلالها الأسلحة الحديثة والنظم الإدارية والقانون المدني والحياة النيابية. تلك الحملة التي تناولها العديد من الروائيين المصريين في أعمالهم. 

والتاريخ ليس بعيداً عن نشأت المصري، فقد تأصل لديه من خلال دراسته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومن خلال عضويته بكيانات معنية بكل ما يحدث في العالم بشكل عام وفي المنطقة العربية بشكل خاص، فهو عضو اتحاد كتاب مصر، ونقابة الصحفيين، وجمعية الأدباء ورابطة الأدب الحديث، ورابطة الأدب الإسلامي العالمي، واتحاد الجامعات الأفروآسيوية، ونادي القصة. 

ترجم المصري شغفه بالتاريخ وولعه به من خلال رواياته التاريخية: "أسطورة نفرتيتي" (٢٠٠٧)، و"تاوسرت" (٢٠٠٨)، و"بلباي" (٢٠١٦)، و"دماء جائعة" (٢٠١٩)، وأخيراً بونابرتة (٢٠٢٤)؛ تلك الرواية التي جعل منها الكاتب متحفاً خاصاً بحملة نابليون على مصر وقدم لنا إحدى عشرة لوحة؛ كل واحدة منها بمثابة فصل يلقي الضوء على أحداث كانت مصر شاهدة عليها. 

شخصيات متنوعة

ولأن السرد هو الركيزة الأساسية في البناء الروائي، فقد عهد الكاتب به إلى الراوي العليم المُلم بكل تفاصيل الحكاية، يعلم بدايتها ونهايتها، مُطلّع على بواطن الشخصيات وظواهرها لذلك لا يمكن الاستغناء عنه لأن بدونه لن تكون هناك عملية قص. 

والراوي هنا ليس الروائي، ورغم ذلك نجده ذاتاً ثانية له. تأثر أسلوبه بشاعرية الكاتب الذي قدم العديد من الدواوين: "النزهة بين شرائح اللهب" (١٩٧٩)، و"القلب والوطن" (١٩٨٦)، و"الحلم المعاند" (١٩٩٦)، و"إلا هذا اللون الأحمر" (٢٠٠٤)، و"الحفر إلى أعلى" (٢٠١٦)، ويبدو ذلك جلياً من خلال سرد يخيم عليه الحزن حيث يقول الراوي: "مع لحظة الغروب الملونة العاتية احمر جفن الأفق غضباً من أجل ألوف الفراعنة الجدد الذين فاضت أرواحهم وكتبت الطيور الحزينة في الهواء: وماذا بعد؟" (ص ٤٥). هذه الكلمات نجد صداها لحظة إعدام الشيخ محمد كريم زعيم المقاومة، فمع انطلاق الرصاص في قلبه، "تأوهت الريح، وتأوه النور، وتأوهت الأرض تحت قدميه، ولم تتحمل الطيور جنون المشهد فصبغت الفضاء بولاولاتها" (ص ٦٥). ويستمر نفس المشهد بعد هزيمة المقاومة في معركة البحيرة حيث "صار ندى الحقول دموعاً، وزهرات تزين أحلام الناس." (ص٩٤).

قدّم الكاتب شخصيات متنوعة شكلت مثلثاً أضلاعه الاحتلال والمقاومة والخيانة. تواجد في ضلعه الأول بونابرتة وعشيقته بولين فوريس، فوفليه، ألكسندر برتييه قائد الأركان، كليبر، مينو، ديزيه والقنصل شارل ماجالون، وضم الضلع الثاني الشيخ محمد كريم، مصطفى الخادم، زوجته وابنته بهية. وتواجد في الضلع الثالث الجاسوسان حافظ ويعقوب اللذان استعان بهما بونابرتة لمعرفة أسماء المتمردين، بالإضافة إلى الشيوخ الذين تجاهلوا انتقام المدافع الفرنسية الوحشي وقطع رقاب المعتقلين في القلعة وذهبوا إلى بونابرتة لتقديم فروض الطاعة والولاء و"قبلوا يديه وهو في غاية الدهشة". (ص ٨١)

تبدو معظم الشخصيات ثانوية بلا عمق فلم نشعر بوجود كليبر ومينو، وهذا يرجع بالطبع إلى طبيعة الرواية التي تحمل اسم بونابرتة، فهو الشخصية الرئيسية، حاضر في كل الفصول، محور الأحداث ونقطة التقاء الآخرين. والكاتب أشار إلى عمر نابليون لحظة مجيئه إلى مصر قائلاً إن "فارس أوروبا الأول بدأ اليوم وهو في التاسعة والعشرين من العمر رحلته لاستعمار الشرق" (ص ٦) وهذا يتسق مع المسافة الزمنية بين تاريخ ميلاده في الخامس عشر من أغسطس عام ١٧٦٩ ومجئ الجملة الفرنسية إلى مصر عام ١٧٩٨. 

ونجح الكاتب في إبراز بعض سمات نابليون الشخصية فهو مغامر من الطراز الفريد يرى أن المغامرة هى الركيزة الأساسية للبطولة، ألم يسأل فوفليه: "كيف تكون بطلاً دون مغامرة؟" (ص ٥٦)، يؤمن بأنه يجب أن يكون الفعل وليس ردة الفعل، وبدا ذلك جلياً حينما ذهب إلى بيت الشيخ البكري للاحتفال بالمولد النبوي وقرر أن يأخذ المبادرة: "أنا المبادر دائماً، لا بد أن أقول كلمة لأحرك الرياح كما أهوى في مسارات أقصدها" (ص ٥٨). 

استطاع الكاتب أن يمسك بكل خيوط الشخصية فيأخذنا تارة إلى بونابرتة الإمبراطور الداهية الذي يرغب في الهيمنة على العالم بأسره، ويأخذنا تارة إلى نابليون العاشق الذي يقر أنه كان شاعراً في صباه ويبرهن الكاتب على ذلك من خلال استخدامه للتناص في رسالة كتبها بونابرتة إلى جوزفين: "إن روحي في جسدك والأرض لا تبدو جميلة إلا لأنك تسكنيها، ألف قبلة على عينك" (ص ٦٨). ورداً على خيانتها له، انفتح نابليون على نساء أخريات. نجح الكاتب في إلقاء الضوء على علاقته ببولين فوريس والتي جاءت متنكرة إلى مصر برفقة زوجها أحد ضباط حملة نابليون وهى رسامة وموسيقية فرنسية توفيت عام ١٨٦٩. واكتفى الكاتب بالتنويه إلى علاقة نابليون بزينب البكري بشكل مقتضب. "في أثناء العودة قال الداهية مونج: هل توضأت قبل الصلاة يا قائدنا؟ وهل صليت لكي أتوضأ؟! وفي منتصف الليل كانت زينب".(ص ١٠٢)

الأنا والآخر

كنت أود أن يعطي الكاتب مساحة أكبر لتلك العلاقة وأن يطلق العنان لخياله لرصد الأنا والآخر، أو بشكل أدق الشرق والغرب وهذا ما فعله صنع الله إبراهيم في رواية "العمامة والقبعة" عندما تناول باستفاضة العلاقة الغرامية التي جمعت الفتى الأزهري ببولين فوريس والتي امتدت إلى تبادل المعرفة بينهما، علمته أسس الموسيقى وعلمها مفردات اللغة العربية. 

واعتمد الكاتب على تقنية المونولوج ليكشف ما يدور بداخل شخصية نابليون وما يشعر به إزاء المصريين: "الأرض أرضهم والنيل نيلهم وهم من علموا العالم، ما هذه التخاريف لقد كانوا كانوا كانوا، هم الآن أشباه بشر" (ص ٧٨). جسدت شخصية نابليون نظرة الغرب المتدنية للشرق، فهو يرى نفسه الأرقى والأذكى والفاعل في حين أن الآخر أدنى وأقل ذكاء ومفعول به. لذلك انتهج الغرب سياسة الاستشراق الذي يراه إدوارد سعيد أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق وهو"أسلوب يتسم بالاتساق على هذا التفوق المرن في الأوضاع، ومعناه وضع الغربي في سلسة من العلاقات التي يمكن أن تنشأ مع الشرق بحيث تكون له اليد العليا في كل علاقة منها".

وغالباً ما يبحث المستشرق عن أسباب أخرى لتبرير الاستعمار الأوربي وهذا ما أشار إليه الكاتب على لسان بونابرتة: "إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من أيد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، أحترم نبيه والقرآن العظيم" (ص ١٦). ويمسك الكاتب بمشهد أخر يبين أن كلمات بونابرتة لم تكن إلا شعارات تلفظ بها ليخدع المصريين. عند مغادرته إلى فرنسا، "مد نابليون يده في جيبه، فاصطدمت أصابعه بالسبحة التي استخدمها في احتفالات المولد، التصق بالنافذة وطوحها إلى بعيد" (ص ١٠٢). ترك مصر في مشهد الفينال ولم تزل أصداء كلماته عالقة في أذن القراء، كلمات تكشف عن نظرة الغرب المتدنية لكل ما هو شرقي: "هؤلاء المصريون الرعاع لا يتعلمون" (ص ٢٣)، "اقتلهم بلا رحمة، وعندما تلتقيهم ابتسم كثيراً كأنك رجل طيب محبوب" (ص ٢٩).

رغم صغر حجم الرواية، استطاع الكاتب أن يبرز في أكثر من موضع وحشية الفرنسيين المخالفة للقيم الإنسانية ولمبادئ الثورة الفرنسية: الحرية، المساواة والإخاء. في شارع صغير متفرع من شارع حكمت باشا أمر نابليون جنوده باقتحام بيت صوب أهله طلقات الرصاص عليهم "وخلال دقائق نشر الموت أجنحته الكئيبة في البيت، بعض الضحايا ينزف دماً من فمه، وطفل فجرت جمجمته، وامرأة مزقت الطلقات بطنها، وشاب قتلته طلقة في الصدر، ويده لا تزال قابضة على خنجر في موضع النزال، ابتسم أحد العساكر، وسحب الخنجر ثم غرسه في عين الشاب قائلاً: لقد أصبحت بعين واحدة أيها المحارب القديم" (ص ٢٣).

 ولم يكتف بونابرتة بقتل المصريين بل أمر جنوده بالسطوعلى بيوتهم: "فليسط الجنود على أي بيت وأي مكان، ويجمعوا زاداً لهم وللجيش في المرحلة المقبلة" (ص ٤٥). عار يضاف إليه عار أخر وهو اغتصاب جنود الحملة للمصريات، يعهد الكاتب بهذا إلى بهية إحدى الشخصيات التي تخبرنا: "لن أنسى أن المتوحشين قتلوا صديقتي الأولى ليلى بعد أن اغتصبوها" (ص ٥٣). وتقر فتاة أخرى نفس الواقعة: "الكل يعرف أنهم اغتصبوا ابنة عمي، وتركوها بعد أسبوع، والمؤسف أنها خلعت الآن الحجاب وتمشي سافرة في الشوارع" (ص ٧٠). 

امتدت وحشيتهم إلى الأماكن المقدسة وأمر نابليون جنوده بدك جامع الأزهر الذي صار "بحيرة من الدماء والأشلاء" (ص ٧٩). وفي تحد سافر لا يحترم عقائد الأخرين، قام جنود الحملة بهدم مسجد الرويني وبناء خمارة تحمل نفس الاسم، وتوالى هذا الفعل مع بليار الذي أمر "بهدم العديد من المساجد في أماكن متفرقة وأقام مكانها خمارات كما حدث مع مساجد البنهاوي والطرطوشي والعدوي" (ص ٧٣).

رغم دهائه وحيله الدائمة، فشل بونابرتة في إقناع المصريين بأنه جاء ليخلصهم من بطش المماليك. بدا ذلك جلياً عندما وزع عثمان أغا منشور نابليون على عامة الشعب، قال أحدهم: "هو السم في العسل. وعلق رجل أخر شاحب الوجه: لا عسل ولا حاجة" (ص ١٩). أبى المصريون البسطاء أن يخضعوا لبونابرتة وأن يصدقوا كلمات شيوخهم الجوفاء، آمنوا أن الأعمال أوقع من الكلمات فكانوا على قلب رجل واحد ضد جنود الحملة، وهذا ما أعلنه برتييه في رثاء: "أهل دمنهور تحركوا معاً، في وقت واحد كأمواج بحر غاضب، وأجبروا جيشنا على الفرار والعودة، بعضهم يبكون وأخرون رحلوا" (ص ٣٥). وبلغت المقاومة ذروتها مع ثورة القاهرة حيث "أحرق الثوار بعض مراكز الفرنسيين، وهاجموها أينما ساروا، وكان أول قتلاهم قومندان (حاكم) القاهرة الجنرال ديبوي" (ص ٧٧). 

واستطاع نشأت المصري أن يشير إلى أن المقاومة لم تكن حركة فردية متمثلة في الشيخ محمد كريم، بل كانت حركة جماعية ساهمت فيها كل أطياف الشعب: مصطفى الخادم الذي قال عنه كليبر: "إنه أكثر من شبح" (ص ٩٢)؛ ابنته بهية التي ألقت ابتسامة ماكرة لأحد جنود نابليون وعندما هم بها، "تبدلت ملامحها وهى تستل خنجرها، وتضربه في صدره بقوة" (ص ٧١)؛ الطفل الذي تسلل إلى معسكر الفرنسيين وسرق بندقية حتى لا يقتلوا أهله بها. ويخبرنا الكاتب بتواجد المسنين بين صفوف المقاومة، إذا كان يعقوب المسيحي خائنا، فإن أباه قد استشهد بعد انضمامه إلى حشود الثائرين، "رغم تجاوزه السبعين" (ص ٨٠).

وختاماً يمكننا القول إن نشأت المصري الروائي ليس مطالباً بأن يصبح مؤرخاً من خلال روايته. رغم دقة ما قدمه من حقائق، أسقط بعض الأحداث التاريخية وتناول بعضها في عجالة مثل ثورتي القاهرة وحملة نابليون في بلاد الشام. عودة الكاتب إلى الماضي لم تكن إلا ستاراً نقد من خلاله سلبيات الحاضر، فإزاء ما يحدث من انتهاكات إثيوبية أضرت مصر وأدت إلى انخفاض منسوب مياه النهر، يقول الكاتب على لسان بونابرتة: "مصر في قبضة النيل، لو أنني كنت شريراً كما يدعون لخططت لمنع مياه النيل عن مصر، لكنني لست شيطاناً قذراً إلى هذا الحد، لأن السماح بمنع مياه النيل ضربة قاضية لمصر" (ص ٩١). 

ويرى الكاتب أن العلم هو الخلاص الوحيد لمصر من كل المعوقات. يقول في حوار بين الشيخ محمد كريم وتلميذه مصطفى الخادم: "لم نُعلم الشعب، ولم نجعل مصر قلعة صناعية. ولم نبتكر سلاحاً [...] الوالي لا يريد ذلك، ويحارب الحرية، ونحن ندفع الثمن من دمنا وكرامتنا التي يدهسها هولاء المجرمون السفلة" (ص ٢١). فلولا جهل المصريين ما جاءت حملة نابليون إلى مصر تحت ستار نشر الحضارة ولولا ضعف العراقيين ما استطاعت أمريكا أن تغزو بلاد الرافدين مرتين، مرة بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل ومرة لتخليص العالم من حركة داعش.