كشف أدبى جديد.. رواية واحدة لنوال السعداوى تصدر باسمين مختلفين
- كيف جرى ما جرى على نص نوال السعداوى؟ وهل كانت تعرف بما حدث لنصها.. أم أنها فوجئت به بعد صدور الرواية فى العام 1974؟
- تزوجت نوال من أحمد حلمى والد ابنتها الدكتورة منى فى العام 1955 تمسكت به رغم رفض والدها له بسبب سفره إلى السويس للمشاركة فى أعمال الفدائيين ضد الجيش البريطانى
فى العام 1974 صدر للكاتبة الكبيرة نوال السعداوى رواية «الباحثة عن الحب» عن سلسلة «روايات مختارة» التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وفى العام 1983 صدرت لها رواية «امراتان فى امرأة» عن مكتبة مدبولى.
المعلومة عادية، فنوال السعداوى بدأت نشر أعمالها الأدبية والفكرية بداية من العام 1958، ومن يومها وإنتاجها يتوالى عبر دور نشر مختلفة.
لكن ما لا يمكننا اعتباره عاديًا، هو أن رواية «امرأتان فى امرأة» هى نفسها رواية «الباحثة عن الحب».
وقد تسأل: ما الذى دفع نوال إلى أن تُعيد نشر رواية لها باسم آخر بعد تسع سنوات كاملة؟، وهل أضافت لها شيئًا يستدعى أن تغيّر عنوانها؟ وهل ما فعلته يعتبر نوعًا من الغش التجارى..أم أنها كانت مضطرة لأن تفعل ما فعلته؟
تمسكت نوال فى النسختين من الرواية بالإهداء الذى قالت فيه: إلى كل فتى وفتاة فى ربيع العمر، لعلهما يدركان قبل فوات الأوان أن طريق الحب ليس مفروشًا بالورد، وأن الزهور المغمضة حين تتفتح فى ضوء الشمس لأول مرة تسقط فوقها خراطيم النحل تمتص ورقها الناعم، فإذا ما استسلمت الزهور انسحقت، وإذا قاومت واستبدلت الورق الناعم بشوك نافر مدبب، استطاعت أن تحيا وسط النحل الجائع.
تبدو نوال من المقدمة محرضة كعادتها، فهى تخلق، عبر بطلتها طالبة الطب بهية شاهين، معنى مختلفًا للحب، معنى متمردًا ورافضًا الأشكال التقليدية التى يفرضها المجتمع، حيث ترفض الزوج الذى فرضه عليها والدها بعد أن يمنعها من استكمال دراستها فى كلية الطب، فتقرر أن تخلق لنفسها عالمها الخاص حتى لو قادها إلى السجن.
بعد أن تنتهى من قراءة النسختين، للرواية الواحدة، ستكتشف أن اسم نسخة العام 1983 «امرأتان فى امرأة» هو الأنسب لحال البطلة من اسم نسخة العام 1974 «الباحثة عن الحب» الذى هو اسم ساذج يتناسب مع الروايات الرومانسية التى يمكن أن تكون الأكثر مبيعًا لا لشىء إلا لتفاهتها وسطحيتها، أما «امرأتان فى امرأة» فهو اسم عميق يعبر عن حالة الصراع التى عاشتها بطلة نوال بين أن تكون فتاة تقليدية تعيش فى مجتمع تقليدى، أو تكون حرة تعيش كما تريد وترغب وترتاح.
بحثت فى أرشيف نوال السعداوى عن هذه المفارقة، فلم أجد إجابة عن الأسئلة الكثيرة التى تناثرت حول هذا الاكتشاف.
لكن ما رأيكم أن نؤجل كل الأسئلة المحتملة حتى نقرأ معًا النسختين، لنعرف الفروق بينهما؟
دعك من الاختلاف الشكلى فى بداية الرواية.
فى نسخة «الباحثة عن الحب» تبدأ الرواية بـ«كان اليوم هو الرابع، وكان الشهر هو سبتمبر».
وفى نسخة «امرأتان فى امرأة» تبدأ الرواية بـ«اليوم كان الرابع، والشهر كان سبتمبر».
فالاختلافات كثيرة، والكلمات التى تم استبدالها كثيرة، والفقرات التى تم تغييرها كثيرة أيضًا.
فى «الباحثة» تقول البطلة: كانت تحملق فى صورة «الشيخ» الخرافى، وتدقق فى أصابعه الكبيرة وهى تسحق كل الأشياء بضغطة واحدة.
وفى «امرأتان فى امرأة» تقول: كانت تحملق فى صورة «الإله» الخرافى، وتدقق فى أصابعه الكبيرة وهى تسحق الأشياء بضغطة واحدة.
فالإله الذى كان فى «الباحثة عن الحب» أزاح الشيخ وعاد ليحتل مكانه فى «امرأتان فى امرأة».
الأمر نفسه تكرر، ففى «الباحثة» تقول: امتلأت حجرة نومها بأشباح الأساطير والآلهة الخرافية يضغطون على جسدها ليسحقوها وهى تقاوم بكل قوتها، وفى «امرأتان» نجد الآلهة تختفى تمامًا، وتصبح الجملة: وامتلأت حجرة نومها بأشباح الأساطير الخرافية.
فى «الباحثة» نقرأ: «أما الرجل فهذا، وأمسك بطرفى الملقط شيئًا، ورأت قطعة جلد سوداء مجعدة».
وفى «امرأتان» نقرأ نفس الفقرة بـ «أما الرجل فهذا، أمسك بطرفى الملقط عضو الذكر، ورأت قطعة جلد سوداء مجعدة كقطعة براز قديم».
وعندما تصف بطلة «الباحثة» أمها تقول عنها: حين تحدق فى عينيها طويلًا تستطيع أن ترى قلبها قابعًا فى صدرها، وتلمح عضلاته وهى تنقبض وتنبسط.
أما فى «امرأتان» فالوصف يختلف تمامًا، تقول: حين تحدق فى عينيها طويلًا تستطيع أن ترى رحمها مكورًا وقابعًا فى قاع بطنها، وتلمح عضلاته وهى تنقبض وتنبسط.
وفى وصفها حال تحركات طلبة كليات الطب تقول فى «الباحثة»: وحينما يندب كوع الواحد منهم فى صدر طالبة تنفرج شفتاها فى حركة غير مرئية.
وفى «امرأتان» تقول: وحينما يندس كوع الواحد منهم فى ثدى طالبة تنفرج شفتاها فى حركة غير مرئية.
وفى وصف حالة إنسانية خاصة جدًا تقول فى «الباحثة»: ويضغط الواحد منهم، طلاب الطب،- بأسنانه عن غير وعى على حقيبة كتبه الجلدية يقطع منها قطعة يمضغها، وحين يكتشف أنها قطعة جلد يخجل من نفسه، ويخفى بكفيه الثقوب المنتشرة فى حقيبته، وفى غير قصد فى صدر امراة، وفى منتصف الليل يغلق كتب التشريح وينام فى السرير لكن جسده يأبى النوم.
فى «امرأتان» يختلف الوصف قليلًا، ونجد كلامها محذوفًا، يمكنك أن تتأكد من ذلك بنفسه.
تقول: وحين يكتشف أنها قطعة جلد يخجل من نفسه، ويخفى بكفيه الثقوب المنتشرة فى حقيبته، وفى الترام يصبح كل شىء فوق طاقته، ويجد نفسه مدسوسًا عن غير قصد بين ثديى امراة، وفى منتصف الليل يغلق كتب التشريح وينام فى السرير، لكن جسده يأبى النوم، فقد تجمع الترياق فى بؤرة محددة، وتكون برأس مدبب كرأس الدمل، وما هى إلا ضغطة واحدة باليد حتى تنفقئ.
ويختلف وصف «الباحثة» لعلاقة الناس بربهم عنه فى «امرأتان».
تقول فى «الباحثة»: يرفعون كفوفهم إلى السماء، متمتمين بآيات الحمد، متوهمين أنهم بهذه التمتمة يأمنون بطش الله، فلا يبطش بهم فى أى وقت وتظل رءوسهم فوق أعناقهم إلى الأبد.
وفى «امرأتان» تقول: يرفعون كفوفهم إلى السماء متمتمين بآيات الحمد، متوهمين أنهم يرشون الله بهذه التمتمة، فلا يبطش بهم فى أى وقت وتظل رءوسهم فوق أعناقهم إلى الأبد.
ومرة أخرى تستبعد فى «الباحثة» اسم الإله، تقول: تذكرت أحلامها الطفولية والأشباح الخرافية وأباها.
بينما تقول فى «امرأتان»: دهشت وتلعثمت، تذكرت أحلامها الطفولية، والإله الخرافى وأباها.
كانت بطلة نوال السعداوى «بهية شاهين» مشغولة بكينونتها، فى «الباحثة» جاء الحديث متحفظًا، تقول: كلمة أنثى حين تصل إلى سمعها ترن فى أذنيها كالسبة، كأول عورة رأتها فى حياتها، كانت تخجل حين تخلع ملابسها فى الحمام، ولا تستطيع النظر إلى جسدها فى المرآة، وحين تقترب أصابعها وهى تستحم تبعدها بسرعة كمن مست يده منطقة مكهربة أو محرمة.
أما فى «امرأتان» فيذوب هذا التحفظ قليلًا، تقول: كلمة أنثى حين تصل إلى سمعها ترن فى أذنيها، كالسبة، أو كالعورة العارية، كأول عورة رأتها فى حياتها، كانت تخجل حين تخلع ملابسها فى الحمام، ولا تستطيع النظر إلى جسدها العارى فى المرآة، وحين تقترب أصابعها من عورتها، وهى تستحم تبعدها بسرعة كمن مست يده منطقة مكهربة أو محرمة.
وبنفس التحفظ تقول فى «الباحثة»: ترى سيقانهن السمينة الملتصقة وعيونهن المتكسرة، كعينى الجثة الراقدة فوق المنضدة، والمشرط فى أصابعهن يرتجف حين يقترب من تلك الأعضاء.
أما فى «امرأتان» فتتخفف قليلًا من هذا التخفف، وبدلاً من أن تقول: والمشرط فى أصابعهن يرتجف حين يقترب من تلك الأعضاء، تقول: حين يقترب من الرحم وعضو الذكر.
وللمرة الثالثة تبتعد فى «الباحثة» عن الإله، فتقول: حين كانت ترى الشبح الخرافى يضغط على الشىء ثم يفتح يده فإذا هى فارغة، لكنها تقترب منه فى «امرأتان»، فتقول: حين كانت ترى الإله الخرافى يضغط على الشىء ثم يفتح يده فإذا هى فارغة.
من بين الخلافات الدالة بين النص الواحد الذى يحمل عنوانين مختلفين ما جاء فى حوار بين البطلة وأمها.
فى «الباحثة» نقرأ: وأصبحت تكره اليوم الذى تستحم فيه، وحين تخلع ملابسها تصوب نحو أعضائها نظرة كراهية، وفى يوم سألت أمها عن حقيقة أعضائها، فنهرتها قائلة: لا تسألين عن هذا.
وردت وهى تبكى: إنها أشياء سيئة.
فنهرتها ثانية وهى تقول: إن الله قد خلقها وهو لا يخلق إلا الأشياء النافعة.
فقالت وهى تمسح دموعها: ولماذا خلق الله تلك الأعضاء السيئة؟
أما فى «امرأتان» فقد جاءت هذه الفقرة مختلفة وأكثر جرأة، تقول: أصبحت تكره اليوم الذى تستحم فيه وحين تخلع ملابسها تصوب نحو أعضائها نظرة كراهية، بل إنها كرهت الله لأنه هو الذى خلقها، وكانت قد سمعت من أبيها مرة أن الله هو الذى خلق أجسامنا وأعضاءنا، وذات يوم قالت لأمها إنها تكره الله، فشهقت أمها وضربتها على وجهها قائلة، كيف تقولين هذا؟
وردت وهى تبكى: لأنه يخلق أشياء سيئة.
فضربتها مرة أخرى وهى تقول: إن الله لا يخلق إلا الأشياء الجميلة.
فقالت وهى تمسح دموعها: فمن إذن الذى خلق تلك الأعضاء السيئة؟
وبهدوء وحذر فى «الباحثة» تقترب بطلة نوال من الرغبة الجنسية، تقول: تصورت أن الرغبة الجنسية غير طبيعية، فأصبحت تتقزز حين يلمسها أحد وهى واقفة فى الترام، كانت تكرههم، وتكره عيونهم المدببة النهمة.
فى «امرأتان» تصبح بطلة نوال أكثر صراحة، فتقول: تصورت أن الرغبة الجنسية غير طبيعية، فأصبحت تتقزز حين تلمح أعضاء الرجال بارزة من تحت سراويلهم، وتشعر برغبة فى القىء حين يدس الواحد منهم كوعه فى صدرها، وهى واقفة فى الترام، كانت تكرههم وتكره سراويلهم وأعضاءهم القبيحة البارزة وعيونهم المدببة النهمة.
وفى حوار بهية شاهين مع الرجل الذى تزوجته بضغط من أبيها، يدور الحوار فى «الباحثة» على النحو التالى:
بعقل الأزواج البطىء بدأ يدرك أنها ترفضه، فاتسعت عيناه فى ذعر وصاح بصوت غاضب: كيف ترفضين؟
ردت بغضب أشد: لست مثلهن.
قال بصوت المالك: أنت زوجتى.
سألت بدهشة: مَن قال لك هذا؟
رد بدهشة أشد: أبوك وأنا والمأذون.
صاحت بغضب: أكبر صفقة فى التاريخ.
فى: امرأتان» ظل الحوار كما هو تمامًا، تغيّرت كلمة واحدة، فبينما وصفت الزواج بأنه أكبر صفقة فى التاريخ، عادت لتصفه بأنه أحط صفقة فى التاريخ.
وعندما حاول أستاذ بهية فى كلية الطب أن يقيم معها علاقة عابرة دار بينهما حوار، جاء على النحو التالى فى «الباحثة»:
قال: يبدو أننى أخطأت، كنت أظن أنك تحبيننى.
ردت بدهشة: من أين أتاك هذا الظن؟
قال بلهجة الأستاذ: أنا أفهم المرأة.
سألت: وبأى عقل تفهمها؟
وأشار بإصبعه نحو رأسه وقال باسمًا: الرجل له عقل واحد فى رأسه، ألم أعلمك ذلك فى المشرحة؟
ردت بصوت ساخر: المشرحة شىء والحقيقة شىء آخر.
قال: ما هى الحقيقة؟
قالت: عقل الرجل ليس فى رأسها.
سألها: وأين يكون؟
رمقته بنظرة حادة لها معنى.
فى «امرأتان» اختلفت نهاية الحوار، فعندما سأل الأستاذ: وأين يكون عقل الرجل؟
ردت بهية بجرأة: بين ساقيه.
ما رصدناه سويًا ليس اختلافات بين نسختى الرواية، ولكنه تدخل واضح، حذف بعض الكلمات وإضافة كلمات أخرى.
والسؤال هو: كيف جرى ما جرى على نص نوال السعداوى؟ وهل كانت تعرف بما حدث لنصها.. أم أنها فوجئت به بعد صدور الرواية فى العام ١٩٧٤؟ وهل وافقت على هذه التعديلات.. أم أنها تمت من وراء ظهرها؟
ما حدث قد يكون طبيعيًا.
فالنسخة الأولى من الرواية التى صدرت بعنوان «الباحثة عن الحب» صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهى دار نشر حكومية، لها تقاليدها وأعرافها فى النشر، وقد تكون لديها القيود والقواعد التى تضعها على النشر، على اعتبار أنها دار نشر حكومية ولا يليق أن تكون مصدرًا لنشر ما يخالف الأعراف والتقاليد الاجتماعية التى توافق عليها الناس وأصبحوا يتمسكون بها.
أما «امراة فى امرأتان» فصدرت عن مكتبة مدبولى وهى دار نشر فوق أنها خاصة فهى أيضًا دار النشر الأكثر جرأة فى تاريخ مصر على الإطلاق، ليس فى مستوى ما تنشره فقط ولكن فيما توزعه من كتب أيضًا.
لكن ما الذى جرى على وجه التحديد؟
بحثت فى أرشيف نوال السعداوى فلم أجد ذكرًا لهذه الواقعة.
وجدت فقط حديثًا لها عن روايتها «الباحثة عن الحب».
عندما نفتح الجزء الثالث من مذكراتها «أوراقى.. حياتى» نجدها تقول: صيف عام ١٩٦٣ بدأت كتابة رواية أعطيتها عنوان «الباحثة عن الحب»، فى أعماقى حنين غامض لشىء أكثر غموضًا، لا أعرف بالضبط عما أبحث، بلغت الثانية والثلاثين من العمر، أصبحت طبيبة ناجحة وأديبة معروفة، فى حياتى كثير من الأصدقاء والصديقات، نساء ورجال أتبادل معهم الحديث على شاطئ النيل، نتحاور فى الطب والأدب والفلسفة.
وتحكى نوال كواليس كتابتها الرواية، تقول: فى يوم حار من صيف ١٩٦٣ كنت أهبط فى الصباح الباكر من بيتى فى شارع مراد، أمشى مسافة دقيقة أو دقيقتين لأصبح فى شارع الجيزة أمام باب حديقة الحيوان، لم أكن أدفع رسوم الدخول، أصدر الطبيب البيطرى للحديقة أمرًا بإعفائى من الرسوم، قلت له إننى أكتب رواية طويلة جديدة، وأن الوحى لا يهبط على إلا وأنا أتمشى فى ممرات الحديقة، كان رسم الدخول خمسة قروش فقط، لا قيمة لها الآن، كانت تبدو لى منذ سبعة وثلاثين عامًا، وقت كتابة مذكراتها فى العام ٢٠٠٠، مبلغًا كبيرًا لا يمكننى دفعه كل صباح.
كان الطبيب البيطرى لحديقة الحيوان يتابع ما تنشره نوال من قصص ومقالات.
سألها: وإيه عنوان الرواية الجديدة يا دكتورة نوال؟
فردت: «الباحثة عن الحب» يا دكتور.
وتضيف نوال إلى حديثها عن كواليس روايتها: هناك كانت المنضدة التى أجلس إليها كل يوم وأكتب الرواية، أتسلى بمراقبة البط فى البحيرة الصغيرة، يسبح تحت أشعة الشمس الذهبية، يفرد أجنحته ويطير فوق سطح الماء ينفض عن ريشه الرذاذ، تتناثر من حوله القطرات اللؤلؤية، تشع ضوءًا مثل ذرات تتساقط من الشمس.
فى كلام نوال ما توقفت عنده قليلًا.
فبعد ما يقرب من ٣٧ عامًا على كتابة نوال روايتها وبعد ما يقرب ٢٦ عامًا على نشرها أجدها تكتب: كنت أكتب الفصل الأخير من الرواية، كانت البطلة قد أعلنت لبطل القصة أن ما بينهما قد انتهى، وسألها بدهشة: كيف ينتهى الحب؟ قالت: الحب ينتهى مثل زهرة تموت ولا تعود، مثل فراشة تطير فوق الزرع يقبض عليها الأطفال وتموت فى أيديهم، سألها: هل فى حياتك رجل آخر؟ قالت: ليس فى حياتى رجل آخر، لكن فى حياتى نساء ورجال كثيرون، بعد أن خرجت من خندق الحب إلى الحياة الواسعة.
أما لماذا توقفت عند ما قالته نوال، فلأن هذا الكلام ليس موجودًا فى الرواية المنشورة، لم أجد له أثرًا، وأغلب الظن أن هذا ما كان فى مسودة الرواية، وأن نوال عادت وشطبته قبل أن تدفع بها إلى النشر.
ما لا يمكن أن أتجاهله أن رواية نوال « الباحثة عن الحب» كانت من وحى زواجها الأول من الطبيب أحمد حلمى، والدليل على ذلك أنها جاءت بمشهد حقيقى من حياتها معه، وجعلته مشهدًا أساسيًا من مشاهد روايتها.
فى الرواية يمكننا أن نقرأ الآتى:
حين حركت رأسها إلى الناحية الأخرى ابتسم، تلك الابتسامة الغريبة، لم ترها فى تلك اللحظة، همس بصوت خافت: بهية شاهين؟
فاجأها السؤال، فتلعثمت لكنها تداركت الخطأ بسرعة، ورأت الاسم فوق اللوحة البيضاء، فردت بصوت متردد: نعم، ومد يده إليها وصافحها قائلًا: سليم إبراهيم.
وبعد قليل، نجدها تقول: همس وهو واقف إلى جوارها دون أن يتحرك: بهية.
انتفضت لصوته حين لامس أذنها، واسم بهية أصبح شديد الخصوصية، ليس كاسم بهية، أية بهية، ولكنها هى بالتحديد، هى دون الآخرين، دون الملايين، بكيانها الخاص هذا الواقف إلى جواره، وبحدود جسمها الواضحة المنفصلة عن الفضاء الخارجى، وخطوط يدها فوق اللوحة، تصنع معالمها وحركتها الخاصة، حركتها الإرادية تنتزعها من بين فكى الإرادات الأخرى.
وفى مذكراتها «أوراقى.. حياتى» نقرأ معا:
كنت أمشى فى طريقى من البيت إلى الكلية فى خط مستقيم، لا أحرك رأسى هنا أو هناك، وأعود من الكلية إلى البيت مباشرة دون أن أتطلع إلى هذا أو ذاك، كل يوم أروح وأجىء فى الطريق ذاته، كالبقرة العمياء معصوبة العينين تدور فى الساقية، وفجأة التقيت أحمد حلمى، كنت أمشى فى فناء الكلية حين استوقفنى ونادانى باسمى: نوال، توقفت عند سماع اسمى بهذا الصوت، كأنما لم ينادنى أحد باسمى من قبل، أو كأنما كلمة نوال لم تكن اسمى، أصبح اسم امرأة جديدة ولدت لتوها فى هذه اللحظة، ربما هما العينان وليس الصوت، عيناه وهو واقف أمامى فى الفناء، عيناه فقط رأيتهما، ربما لم تكن هما العينان، بل شىء آخر لم أره تمامًا؛ لأننى لم أملك القدرة على النظر إليه، فقدت شجاعتى قبل أن ترتفع عيناى إليه.
أخذت نوال من قصتها مع زوجها الأول إذن إطارًا لروايتها « الباحثة عن الحب» ويبدو أنها كانت تريد أن تتحرر من قصتها معه، فقد أحبته وتزوجته رغمًا عن رغبة أبيها، لكنها قبل أن تكتب روايتها كانت قد حصلت على الطلاق منه.
تزوجت نوال من أحمد حلمى والد ابنتها الدكتورة منى فى العام ١٩٥٥، تمسكت به رغم رفض والدها له بسبب سفره إلى السويس للمشاركة فى أعمال الفدائيين ضد الجيش البريطانى، لكنه بعد أن عاد أصبح مدمنًا وحاول قتلها ولم يتوقف عن إدمانه- كما حكت هى- فتركته.
كانت الرواية محاولة للاستشفاء، تقول نوال فى مذكراتها: رفعت وجهى من فوق الأوراق، كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، أسراب البط عادت إلى بيوتها، رأيت إلى جوارى شخصًا واقفًا، كان يرتدى قميصًا أبيض، نظارة سوداء تخفى عينيه، ابتسم قليلًا، تذكرته على الفور: أهلًا يا أحمد، فرد إزيك يا نوال.
وتضيف: لم تعد كلمة نوال تهزنى، لا شىء يدق تحت ضلوعى، لعب الزمن دوره فى نسيان الألم والحزن والفرح والحب، قميصه الأبيض أصبح مثل أى قميص، نظارته السوداء مثل أى نظارة سوداء، واسمه أحمد حلمى أنطقه كأى اسم، جلس معى بعض الوقت قبل أن ينصرف، طلبت له كوب شاى، قال: أتذكرين حين جلسنا هنا فى أول لقاء لنا منذ اثنى عشر عامًا، كنت أذكر اللقاء الأول، لم تعد الذكرى تؤلمنى أو تفرحنى، جلست معه أشرب الشاى كما أجلس مع أى زميل أو صديق، أتكلم معه بحرية وسهولة، أصبحت العلاقة بيننا أكثر إنسانية، لم تعد علاقة بين رجل وامرأة، تحررنا من ثقل التاريخ والإرث العبودى القديم، جلست معه ودار الحوار بيننا أجمل مما كان، نكهة الشاى أصبحت أحلى مما كانت، أصبح أحمد إنسانًا بعد أن كف عن أن يكون زوجى.
لم تذكر نوال شيئًا فى مذكراتها عن النسخة المعدلة من الرواية «امرأتان فى امرأة»، وكأن الأمر لم يحدث من الأساس.
سألت الدكتورة منى حلمى ابنتها عما حدث، قالت إنها تعرف أن هناك اختلافات بين النسختين بالفعل، لكن فى النهاية ليس لديها معلومات كاملة عما جرى، ووعدتنى أن تبحث فى أوراق الدكتورة نوال الخاصة، لأنها تعرف أنها كانت تدون كل شىء، وربما تجد شيئًا يفسر لنا لغز هذه الواقعة.
مسئول سابق بالهيئة العامة للكتاب حكى لى ما يحدث فى كواليس نشر الكتب.
فهناك لجان قراءة تقرأ وتدقق وتراجع وتضع خطوطًا حمراء تحت بعض الكلمات والعبارات والفقرات، وفى هذه الحالة يتم استدعاء الكاتب لإطلاعه على التعديلات المطلوبة فى النص قبل النشر، ويكون هو صاحب الاختيار، فإما أن يقوم بالتعديلات المطلوبة، أو يسحب النص ويذهب به إلى دار نشر خاصة.
وهناك حالة أخرى، لكنها فى الغالب نادرة، وهى أن الهيئة تقوم بإجراء التعديلات التى تراها ضرورية، وتقوم بالنشر دون الرجوع إلى الكاتب، وهناك حالات محددة اعترض أصحابها على ما جرى، لكن تمت تسوية الموضوع دون ضجيج.
والسؤال: ما الذى جرى مع نوال؟
هل تم إطلاعها على التعديلات المطلوبة فقامت بذلك بنفسها، ومنحت الراوية جواز المرور؟ أم أن الهيئة تصرفت من نفسها وأجرت التعديلات التى تراها مناسبة وفاجأت نوال بالنشر؟
أغلب الظن- الذى هو ليس إثما بالمرة- أن نوال هى من قامت بالتعديلات، فليس معقولًا أبدًا أن تسمح لأحد بتعديل نصها، أو نشره بتعديلات دون أن يكون لديها علم بذلك، والدليل على ذلك أن نوال رغم حديثها المتكرر عن الرقابة التى تعرضت لها كتاباتها لم تتحدث عما جرى.
قد يكون هذا واحد من الأسرار التى ستظل مخبوءة فى عالم نوال السعداوى.
فقد ماتت وهى تحمله فى قلبها، ومات الحاج محمد مدبولى أيضًا ناشر الرواية فى نسختها الثانية، والتى يمكننا اعتبارها النص الأصلى الذى كتبته، ومثله مثل غيره من أسرار حياتنا الثقافية التى ترحل مع أصحابها دون أن نعرف عنها شيئًا.
السؤال الذى حتمًا يلح عليك هو لماذا استسلمت نوال السعداوى؟
وهل كانت أقل حدة وتمسكًا برأيها فى شبابها؟
أعتقد أن الأمر لا يتعلق بحدتها أو تمسكها برأيها بقدر ما يرتبط بتصورها فى العام ١٩٧٤، فروايتها تحمل فكرة من أفكارها الجرئية المقتحمة، ونشرها من الهيئة العامة للكتاب يعد اعترافًا بها، ولا ينتقص منها بعض الحذف الذى لم يخل بالمعنى، وهو أمر أقدره لها تمامًا، فأحيانًا نكون فى حاجة لبعض المواءمة، أما لماذا عادت ونشرت النص الأصلى مرة أخرى؟ فهى كمبدعة وأديبة فى النهاية لا تتخلى عن حقها فى توثيق ما قامت به ونشره كما هو.
وهنا أعتقد أن الحاج محمد مدبولى كان صاحب فكرة تغيير العنوان، فليس من الطبيعى أن ينشر رواية سبق وطبعتها الهيئة، ورغم أن هذا يحدث كثيرًا، إلا أنه وببراعته فى التسويق كان يميل إلى نشر عمل جديد، وهو ما لم تخالفه فيه نوال أيضًا، وأعتقد أنها وفقت فى العنوان الثانى الذى جاء أكثر تعبيرًا عن مضمون روايتها.
هناك ما يجعلنى أميل إلى أن نوال هى من قامت بتغيير عنوان روايتها.
ففى العام ١٩٦٤ عرض لأول مرة فيلم «الباحثة عن الحب» كتبه عزت الخطيب وأخرجه أحمد ضياء الدين ولعب بطولته رشدى أباظة ونادية لطفى، وهو اسم يتشابه مع اسم رواية نوال، ولن أقول إنها اقتبست من الفيلم اسمه، فهى بدأت كتابة الرواية واستقرت على اسمها من العام ١٩٦٣، لكن بعد ظهوره قد تكون نوال رأت أنه ليس مناسبًا أن تبقى على اسم روايتها، وإذا قلت إن الرواية صدرت للمرة الأولى فى العام ١٩٧٤ وإن نوال كانت حتمًا تعرف باسم الفيلم، إلا أنه من الوارد أن تكون أصدرت الرواية دون أن تنتبه إلى الفيلم، وعندما انتبهت غيرت اسم روايتها فى نسخة العام ١٩٨٣.
لكننا لابد أن نتوقف قليلًا عند ما قامت به الهيئة العامة للكتاب مع نوال، ولا تزال تفعله مع الأعمال الأدبية التى تنشرها فيما أعتقد.
سأعود بكم إلى العام الذى نشرت فيه الهيئة رواية نوال الأولى «الباحثة عن الحب»، وهو العام ١٩٧٤، وفيه كانت التيارات الدينية قد بدأت تستعيد سطوتها وتكون لها مساحاتها المتزايدة فى المجال العام، ومن بين ما كانت تفعله هذه الجماعات هو التربص بما تنشره وزارة الثقافة تحديدًا، وتشعل النار من حولها إذا ما وجدت منشورًا فيه حديث عن الجنس أو يتعرض للأمور الدينية.
كان لدى التيارات الدينية تكنيكها الخاص، حيث كانت ترفع شعار أن وزارة الثقافة تمول من أموال دافعى الضرائب، ولا يجب أن تضيع أموال المصريين فى نشر هذه الكتب والروايات التى تخالف ما توافق عليه المجتمع.
كانت هذه التيارات تمارس نوعًا من الإرهاب الفكرى الممتد.
وكانت الهيئة تخضع فى كل مرة.
وأعتقد أنه لا داعى الآن لأن يحدث شىء من هذا، إلا إذا كان هناك من يعتقد أن الأمور لم تتغير.
لن أحكم على القيمة الأدبية لرواية نوال، ولن أدعى أننى دخلت إليها بأى مدخل نقدى، كنت أرصد معكم ما جرى فى واقعة مهجورة لم يقترب منها أحد من قبل فيما أعلم.
وحتى لا يعتقد أحد أن نوال كانت تروج للجنس من خلال روايتها، أو أنها كانت تحرض على ما يخالف أعراف المجتمع وتقاليده، أو أنها كاتبة إباحية، بدليل أن هناك من تدخل بالحذف والإضافة، فإن الرواية وعندما تنتهى منها تدرك أهمية نوال فى مسار فكرنا العربى، وتدرك أهميتها كذلك فى مسار الفكر الإنسانى.
لم تكن نوال كاتبة إباحية، وإذا أردتم دليلًا واحدًا على ذلك من هذه الرواية، فإننى أقدم لكم ما قالته فى وصف العلاقة الحميمة بين بطلى الرواية.
تقول بهية شاهين بطلة نوال: «ضحكت مرة أخرى بغير سبب، وحين سمعت صوت ضحكتها بأذنيها، تساءلت بينها وبين نفسها أتكون هذه اللحظة هى السعادة، وهل السعادة معناها أن يغيب العالم بكل ما فيه ومن فيه، ولا يبقى من الكون أجمع إلا تلك المساحة الصغيرة من الكنبة التى تجمع جسديهما متجاورين غير متلامسين بعد، تفصلهما مسافة من الهواء لا تزيد عن مليمتر؟».
«حاولت أن تمسك بلحظة السعادة، لتعرف مذاقها الحقيقى، لكنها كانت رقيقة شفافة كطبقة رقيقة من الهواء، ما إن ترفع يدها وتلمسها حتى تتمزق، كانت يدها بجوار يده فوق الكنبة، تفصلهما شعرة من الهواء، لكن أحدًا منهما لم يحرك يده، وكل منهما يخشى لو تحرك أن تتمزق شعرة الهواء وتتمزق معها لحظة السعادة الرقيقة كالغلالة».
«لكن كلًا منهما كان يضيق بهذه اللحظة، يتعجل نهايتها، فالسعادة إحساس لا يحتمله الإنسان إلا لحظة واحدة، تصبح معلقة فى الزمن كذرة هواء سابحة فى الكون، لا الأرض تجذبها ولا السماء تشدها، معلقة وما أشق على الإنسان أن يصبح معلقًا بين السماء والأرض، وما أشد رغبته فى أن تطأ قدماه سطح الأرض أو سطح أى جسد صلب يؤكد وجوده الحقيقى بثقله المعهود».
«بتلك الرغبة العنيفة فى الذوبان فى الكون، وفقدان الإحساس بالجسد وثقله والفناء الكامل والتلاشى فى الجو كذرات الهواء، كالموت إذا استطاع أحد أن يموت ويصحو ثم يصف لنا الموت، ولكنه أيضًا ليس كالموت تمامًا، فالموت موت، وربما فقد الإنسان الإحساس حقيقة، ولكن أن يفقد الإنسان الإحساس ولا يفقده، وأن يتلاشى جسده ويظل موجودًا، وأن يفنى العالم من حوله ويبقى حيًا، وأن نصبح السماء كالأرض والأرض كالسماء، وكل الأشياء تتشابك وتتداخل وتمتزج فى شئ واحد أو نقطة واحدة، فى منتصف الرأس تنبض بحركة محسوسة كنبض القلب، بل أشد».
لم أجد لفظًا واحدًا خادشًا، أو كلمة خارجة يمكن أن يمسك بها أحدهم، فيوجه بها لنوال اتهامًا من الاتهامات الكثيرة التى تطاردها، وهو ما يجعلنا نراجع الكثير مما يحيط بها، حتى ما أعادته إلى النص فى نسخة الرواية الثانية، لا يمكن أن نعتبره فجًا أو متجاوزًا.
لقد رفعت الغطاء عن الواقعة فقط، وأنا أعرف أن هناك ما جرى فى الكواليس، وربما تمنحنا الأيام ما يمكننا أن نعرف به ما جرى، لكن على أى حال نحن أمام واقعة تشير من طرف خفى إلى أن نوال لم تكن الكاتبة التى رسموا لها صورة شيطانية، بل كانت على العكس من ذلك تمامًا.