الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العقل الأعمى.. كيف يتحرر الفكر الجمعى الغربى من الأيديولوجيات المتحجرة؟

حرف

- الرمز عندما يرتفع يشكّل عالمًا خاصًا يكون قادرًا على إنتاج المعنى

- ينظر العقل الأعمى إلى المرأة بوصفها ممثِّلًا للشرِّ

- أضحى العقل الأعمى لا يستطيع التمييز بين المحرّم الدينى والمحرّم الثقافى لأن قوّة المعرفة المطلقة فى الهيمنة لا تقلّ عن قوة الدين فى التأثير

- النص القرآنى حارب العقل الأعمى عندما جاء بتشريعات جديدة تُحارب هذا العماء

ما العقل الأعمى؟ اتفق النّاس على أن المرضَ شرٌّ يُصيب الإنسان، والشّفاء منه خيرٌ يسعى إليه الإنسان لكى يحيا حياة صحيحة يستمتع بها، ولكنهم تجاهلوا الاهتمام بأمراض المعرفة والفهم والإدراك والشعور التى طرحتها الفلسفة اليونانيّة القديمة فى كتابات أفلاطون وأرسطو، أو الفلسفة الإسلاميّة فى كتابات ابن سينا والفارابى وابن رشد، أو الفلسفة وعلم النفس الحديث فى كتابات فرويد وأَدْلَر ونيتشه. فهى أمراض لم ينتبه إليها الإنسان ولم يهتمّ بها العلماء، ربما لأنها تتعلّق بالجوانب الوجدانيّة والرّوحانيّة واكتفوا فقط الاهتمام بالجوانب الماديّة. قد يصحّ القول: إنّ كل عقل يتخذ لنفسه نظامًا فى التفكير خاصًا به، وهو ينظر إلى الآخرين بشىء من الريبة والشكّ وأحيانًا الاحتقار؛ ولهذا وجب علينا فتح الأفق الإنسانى لمعرفة هذا النوع من المرض وتداعياته ومخاطره؛ لأنه مرضٌ غير مرئى؛ ومن ثمّ يخدع صاحبه فيتصوّر زيفًا أنّه الأفضل وأنه يمتلك الحقيقة المطلقة والنهائيّة، وهنا مكمن الخطر. فالخطر يأتى دائمًا من الأشياء غير المرئيّة، وهذا هو العماء العقلى، أى العقل الذى لا يرى مصادر الخطر التى تهدّد وجود الإنسان. 

فى سبيل الاستناد إلى ركيزة معرفيّة لتناول موضوع العماء العقلى، سأحاول المقارنة بين العقل الأعمى والعقل المستنير، أى العقل الذى تخلّص من أفكاره غير النّاضجة؛ لسبب رئيسى وهو أنّ الدراسات الخاصّة بالعقل شحيحة فى الفكر العربى، لعلّ من أهمها وأبرزها مشروع محمد عابد الجابرى «تكوين العقل العربى، وبنية العقل العربى»، وردود جورج طرابيشى على مشروع الجابرى «نقد نقد العقل العربى»، ومشروع محمد أركون «تاريخيّة الفكر العربى الإسلامى، وقضايا فى نقد العقل الدينى، والعقل الإسلامى أمام تراث عصر الأنوار فى الغرب»؛ حيث قدّمت هذه المشاريع رؤى جديدة لفهم العقل العربى، وذلك من خلال وضع العقل العربى فى مقارنة مع العقل الغربى الذى أنتج مشروع الحداثة، أو وضع العقل العربى فى مقارنة مع الفكر الإسلامى؛ ولكنها لم تضع العقل العربى فى مواجهة مع جوانبه المظلمة والعمياء. 

ومن المعروف أن العقل يعمل فى سياق الجدل والقلق والتوتّر المعرفى، ويُصاب العقل بالعمى فى سياق الإعراض والتبعيّة والخوف من السؤال. يقول بشّار بن بُرد:

شِفاءُ العَمى طولُ السُؤالِى وَإِنَّما تَمامُ العَمى طولُ السُكوتِ عَلى الجَهْلِ

فَكُن سائِلًا عَمّا عَناكَ فَإِنَّما  دُعِيتَ أَخا عَقلٍ لِتَبحَثَ بِالعَقْلِ

يشعر صاحب العقل الأعمى دائمًا بالرضا المؤقّت ويتغذّى على التناقض؛ لأن وعى صاحبه تشكّل فى سياق ثقافة الكسل والتبعيّة للمعهود الثقافى. فصاحب العقل الأعمى يشعر- على سبيل المثال- بالرضا الدينى وهو يمارس الكذب والغش والنفاق كل يوم، بل ويعتبرها أسلوبَ حياةٍ وحقًا من حقوقه! ويشعر بالرضا العلمى وهو يمارس تزييف الحقائق العلميّة والغش والسرقات العلميّة للحصول على أعلى الدرجات العلميّة! ويشعر الأب بالرضا الاجتماعى وهو يمارس أقسى أنواع القهر والتنكيل على الأبناء والزوجة لإرضاء غروره فى حب السيطرة والهيمنة. وتشعر الأم بالرضا عندما تُجبر ابنتها على الزواج من شخص لا ترغبه خوفًا من فكرة العنوسة! ويحافظ العقل الأعمى على استمراريته إمّا بالتناقض الفكرى؛ حيث يؤمن صاحبه بالحبّ والخيانة فى الوقت نفسه، أو التناقض بين الأفكار والممارسات، فيقول صاحبه ما لا يفعل فتجد التناقض الحادّ بين الأقوال والأفعال. وهناك تحذيرات فى القرآن الكريم «الآيات ٨ – ١٦ من سورة البقرة» من هذه التناقضات بين الأقوال والأفعال. والكارثة الكبرى أن يصبح هذا العقل عقلًا جمعيًّا؛ لأن العقل الجمعى الأعمى «سيكون لنا وقفة معه فى مقال لاحق بإذن الله» سيحمى العقل الأعمى الفردى ويُشرّع له كل ممارساته ويُبرّر لها؛ كأن تدافع المرأة عن زوجها الخائن إرضاءً للجماعة! ويُحتفى بالدّم فى قيمة الشرف!

وفى المقابل، فإن عمل العقل يؤدى إلى تنوير الإنسان، والتنوير لدى كانط هو خروج الإنسان من قصوره الذى اقترفه فى حقّ نفسه، وهذا القصور يتمثّل فى عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، وحذّر كانط من حالتى الكسل والجُبن ووصفهما بأنهما عِلّة رضاء طائفة كبيرة من النّاس بأن يبقوا طوال حياتهم قاصرين: لماذا أجهد نفسى ما دام هناك من يفكّر لى؟

ومن زاوية أخرى، يرى المفكر الفرنسى «إدجار موران» أن أنوار العقل تُكبت فى الأعماق، ومع ذلك يتقدّم الخطأ والجهل والعمى فى كل مكان فى نفس الوقت الذى تتقدّم فيه معارفنا! ويرى أيضًا أن السبب فى العماء لا يكمن فى الفعل «الإدراك الخاطئ» أو الخطأ المنطقى «عدم الانسجام» بل يكمن فى انتظام حركة المعرفة فى شكل نسق من الأفكار والنظريات والأيديولوجيّات. 

وفى ضوء ذلك نشير إلى أن فاعليّة العقل الأعمى تتمثّل فى تجريد المعرفة من خصائصها المتحرّكة والمتحوّلة لتنتظم فى شكل نسق ثابت أو أيديولوجيا جامدة؛ فيُصبح الفكر جامدًا، فيصاب العقل بالعمى، فلا يرى الحقائق فى صورتها المجرّدة، وإنما يخضعها لخبرته المعرفيّة المدرسيّة المؤدلجة. فصاحب العقل الأعمى قد يتحدث بلغة سليمة ومتقنة ولكنها تخلو من المحتوى المعرفى؛ لأن وظيفة العقل الأعمى تفريغ اللغة والأفكار من محتواها المعرفى. فالعقل الأعمى، هو العقل الذى يحجب الرؤى المتنوّعة للأشياء ويرتضى بالرؤية الأحاديّة، فيحيطها بسياجاته المعرفيّة المحدودة ويسبغ عليها هالة من القداسة؛ ومن ثمّة تَحُولُ ممارساته المعرفيّة دون بلوغ الحقيقة، هو عقل يركن للإجابات الجاهزة والحقائق المطلقة، تزعجه حركة الأفكار وتُسبب له قلقًا؛ لأنه يريدها فى قوالب جاهزة. إنه عقل لا يحفل بتحوّلات المفاهيم وارتحالاها من مجال معرفى إلى مجال آخر لاكتساب خبرات معرفيّة جديدة.

آليّات اشتغال العقل الأعمى:

يشتغل هذا العقل على تكوين اللارؤية، عندما يتجنّب الشك والمبادلات المعرفيّة. فالمعرفة لديه مجموعة من القيم المنغلقة تعادى كل جديد أو مختلف. والدين عنده مجموعة من الممارسات الشعبيّة التى اعتاد عليها؛ ولذا فهو عقل يُصدِّق كل ما يُقال بسذاجته المعهودة. يتقبّل الأشياء بمقدار ما تقترب من معتقداته الثقافيّة التى تُقصى كل مختلف من أجل إرضاء النموذج المعهود! واللافت للانتباه أن هذا العقل يستمد مرجعياته وقوّته من واقع اجتماعى تسيطر عليه ثقافة ولغة عوام الناس، ويقوم هذا العقل بوظيفته على الوجه الأكمل فى تهميش الوعى وتزييف الأفكار والحقائق، ولاءً لهذا الواقع؛ ليحافظ على بقائه واستمراريته. ومن الأضرار المباشرة لفاعلية هذا العقل، الفصل بين الفكر والفعل، وإعلاء ثقافة الجماهير على حساب ثقافة النخبة، وإحلال الخرافة محلّ العلم، والتقاليد محلّ الدين. فى هذا السياق، يسهل توجيه ثقافة الجماهير والتحكّم فيها؛ ولذا أعتبره مظهرًا من مظاهر الاستبداد السياسى أو الدينى؛ لأن الجماهير تصبح رهن إشارة السلطة السياسية، أو الدينيّة.

ولعلّ من المناسب القول: إن العقل الأعمى لا يفرّق بين التقاليد التى هى صناعة بشريّة، والدين الذى هو هدى سماوى؛ ولذا فإن من أهم الآثار السلبيّة لهذا العقل تقديس العادات والتقاليد والاحتكام إليها لتكون بديلًا عن العلم والدين؛ حيث يظل أفراد الجماعة مرتبطين بالطقوس التقليديّة للجماعة التى ينتمون إليها، ويرون أساليب التفكير غير المعهودة رموزًا غامضة، أو زندقات وهرطقات؛ إذ لا يشكّ الفرد فى صحّة تقاليده ونجاعتها؛ لأنها سبب انسجامه مع الواقع، فيُسخّر كل قواه للدفاع على هذا الواقع الذى نجح فى الانسجام معه.

ما مرجعيّات هذا العقل؟ كيف  يشتغل؟ وما أثره فى  المجمتع؟

يحتلّ مفهوما الأيديولوجيا، والعقل الخرافى موقعًا متميّزًا فى ثقافة العوام؛ ذلك أن الأيديولوجيا، بحُكم ارتباطها بالأنساق المعياريّة والأحكام المطلقة والعقل الخرافى بحُكم ارتباطه بالثقافة الشفاهيّة، يؤديان دورًا رئيسيًا فى تشكيل الوعى الجمعى العربى المعاصر، أضف إلى ذلك ارتباط الأيديولوجيا بالرمز ذى العلاقة الاعتباطية بالمطلق؛ حيث الاعتقاد بأن الرمزى يخرج من الواقعى، وهذه خدعة الرمز فى الأيديولوجيا؛ وذلك لأن الرمز عندما يرتفع، يشكّل عالمًا خاصًا يكون قادرًا على إنتاج المعنى. ومعروف الوظائف التى يقوم بها هذان المفهومان فى حجب العقل، أو تعطيل عمله؛ حيث يُستبدل الفهم الصحيح للأشياء بأوهام الانسجام، أو الوعى الحقيقى بالوعى الزائف. 

ينبغى لنا، قبل الشروع فى تقديم نقد لهذه المرجعيّة الثقافية، أن ندرك إدراكًا تامًا أهميّة عنصر اللغة فى استفحال هذه الثقافة. فمن الملاحظ الآن أن لغة العوام تهيمن على مواقع التواصل الاجتماعى؛ حيث تعبّر هذه اللغة الدارجة والمختلطة عن أفكار جماعتها، أو طبقتها الاجتماعيّة بأنظمة تعبيريّة، لا يستطيع أصحابها أنفسهم السيطرة عليها؛ وذلك لأنها مقولبة أيديولوجيًّا، والغريب أن أصحابها يزعمون السيطرة عليها، دون الوعى بأنهم أنفسهم يخضعون لمقتضياتها وتقودهم إلى المجهول. تتمثّل مخاطر هذه اللغة الجديدة فى قدرتها على التحكّم فى البنى الفكريّة للجماعة التى تتحدث بها، فتؤدى إلى أدلجة الفكر وتنميطه؛ لأن جمود الفكر مرتهن بجمود اللغة وعجز بنيتها عن التطور والانتخاب والاشتقاق، ومن المعروف فى الدراسات الفلسفيّة الحديثة أن اللغة تمارس فاعليتها فى سكون الفكر أو تحرّره؛ وذلك وفقًا لجمود نظامها البنيوى، أو مرونته. 

اللغة، هى مركز المعرفة الذى يجعل ماهية الخطاب حقيقة فاعلة، تُبرهن عليها أبنية الخطاب الموضوعيّة، والمعرفيّة، وهل الخطاب الإعلامى شىء آخر سوى الإرادة الحرّة التى تتجسّد فى التعبير بحيث يصبح المتلقى/ القارئ كائنًا فاعلاً؟ فالخطاب الإعلامى، جوهر حريّة الإنسان فى التعبير؛ لأن الإنسان يتحرّر بفعل الكتابة، أو القراءة؛ حيث تتحوّل الأفكار والرؤى الخاصة إلى محفّزات أو دوافع للحركة والإنتاج. فالخطاب الإعلامى يقوم بهذه الوظيفة فى الأزمات، والتحوّلات التى تشهدها البشريّة. 

لعل المتأمل فى لغة الخطاب الإعلامى فى البدايات الأولى لظهور الصحف والمجلات إبّان فترة الاستعمار وما بعده، يكتشف أنها- فى معظمها- لغة النخبة من المفكرين والأدباء والفلاسفة، وأن هذه اللغة اكتسبت الطابع الإصلاحى، كما يكتشف المتأمل أيضًا أن هذه اللغة أسهمت فى تشكيل وعى جديد لدى القارئ العربى بكثير من قضايا الوجود وعلاقته بالآخر. فهى فى معظم استعمالاتها فعل معرفة لا يُعكّر صفوة بعض الألفاظ العامية، أو أى أسلوب مختلف فى التعبير، أو حتى بعض الآراء الذاتيّة ضيقة الأفق. فالمقالات القصيرة أو العمود الصحفى، مثلًا، كانت تهدف إلى أن تجعل الخطاب الصحفى كشفًا عن أشكال معرفيّة جديدة تصحح الواقع، ووعيًا مختلفًا بإشكالات الكون. فعلى سبيل المثال، تكشف مقالات محمد زكى عبدالقادر «١٩٠٦ - ١٩٨٢م» فى عموده الصحفى المعروف فى جريدة الأخبار المصريّة «نحو النور» عن نزعة عقلانيّة وإنسانيّة تقاوم القوالب الفكريّة الجامدة، والأفكار الثقافية المعطِّلة للفكر التى تُفرض على لا وعينا فى خطاب العوام الشفاهى، كما أسهمت فى تطوّر خبرة القارئ المعرفيّة على امتداد أكثر من أربعة عقود «١٩٣٨- ١٩٨٢م» الأمر الذى طوّر من الأفق الاختبارى لمعارف القارئ لهذه المقالات.

كما أسهمت المقالات المطوّلة لكل من: زكى نجيب محمود، وطه حسين، والمازنى، والعقّاد، والرافعى فى ظهور الأدب بوصفه موضوعًا للمعرفة فى الصحافة العربيّة، رغم ما أثارته من جدل وإشكالات خرجت فى بعض الأحيان عن حدود آداب الحوار المنهجى. كما فتحت هذه المقالات المجال أمام الأفق المعرفى لاختراق اللغة؛ وذلك لأن اللغة كانت تدور فى فلك فقه اللغة، فأحالت هذه المقالات اللغة من قبضة النحو والصرف إلى سلطة التكلّم والمتكلّم؛ حيث تزامن هذا التحوّل مع المذهب الرومنطيقى الذى أحدث تحوّلًا فى الخطابات المقيّدة بطقوسها وشعائرها. اتخذ الأدب فى هذه المقالات منعطفًا جديدًا ابتعد فيه الخطاب الأدبى عن القيود الكلاسيكيّة التى حصرته فى مفاهيم تقليديّة مثل: الذوق، واللّذة، والخيال بمعناه التقليدى.. وأصبح الأدب منفتحًا على مفاهيم جديدة تجاوزت الفهم المحلّى لمفاهيم الإبداع، وانطلقت نحو الآفاق العالميّة. فأصبح الأدب مجالًا واسعًا لاستعمال اللغة، وأنقذها من حركة الدوران المستمر حول نفسها، فأضحت اللغة فى الخطاب الإعلامى موضوعًا للمعرفة، إلى جانب كونها كلامًا معروفًا.

لقد نجح الخطاب الإعلامى، فى بداية عصر النهضة العربية فى إبراز الفكر العربى الحديث فى توتّره الدينامى مع العقل العربى فى مرحلة ما بعد الكولونياليّة؛ إذ نجحت النخب العربيّة فى تحليل سجال العقل العربى مع الفكر العالمى. فطرح شكيب أرسلان سؤال: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ فحدث التحرّر من أسر أيديولوجيات الفكر الإقطاعى؛ حيث نجح المثقف العربى فى إبراز الفن بوصفه قوّة اجتماعيّة نقديّة. فلا يمكن إنكار دور روايات نجيب محفوظ فى تقديم نقد اجتماعى أبرز الصراع الطبقى بين طبقات المجتمع، وكشف عن فساد البورجوازية العربيّة المثقفة. فشخصيّة محجوب عبدالدايم، مثلًا فى رواية القاهرة ٣٠، التى تقدّم نقدًا لاذعًا للمثقف الفاسد والانتهازى، الذى لا يعترف بمبدأ ولا دين، عقيدته هى مصلحته الشخصيّة، ويضحى بشرفه من أجل المنصب. 

العقل الأعمى وخيانة القيم الإنسانيّة

حدث صراع ثقافى- فى مرحلة ما بعد الكولونياليّة- فى الفكر العربى بين طبقة النُّخبة العربيّة وطبقة العوام، وهو صراع يكشف عن رغبة الطرفين فى السيطرة على البنية الاجتماعية القائمة، وقد انتبه إلى هذا الصراع جيل من الروائيين مثل: نجيب محفوظ فى رواياته: بداية ونهاية، والقاهرة الجديدة، والثلاثية.. ويحيى حقى فى رواية قنديل أم هاشم، وتوفيق الحكيم فى مسرحيّة عودة الروح، وتحوّلت هذه الروايات إما إلى أفلام سينمائية أو مسرحيات. ويمكننا وسم هذا الصراع بالصراع الطبقى بين طبقتى العوام والنخبة، وهو صراع يكشف- فى جانبه المأسوى- عن تخلّى الفكر العربى عن المعرفة، ومن أعباء موضوعاتها، وحصره فى الأعباء اليوميّة وهموم العوام الساذجة. فأضحى الفكر محصورًا فى مفاهيم وألفاظ جوفاء لا تحمل أى مضمون للمعرفة، وقامت لغة العوام «العاميّة» بدور مهم فى ترتيب الألفاظ الجوفاء والإعلاء من شأنها، حتى بلغ فكر العوام هدفه فى إحلال منطقه الهش وانسجامه مع الواقع بدلًا من أفكار النّخب ولغتها. فى ظل هذا الفراغ المعرفى، أصبحت لغة العوام هى الأشياء، وأصبح منطقهم الساذج هو منطق التاريخ نفسه، فحدث حصر للمعرفة فى لغة العوام التى لا تخلو من الإحالات على الخرافة والسخرية من العلم، أو عدم جدوى المعارف الجديدة، ثم تحوّلت أخيرًا هذه اللغة إلى أداة فاعلة للمعرفة بفضل التكنولوجيا على وسائل التواصل الاجتماعى! فى هذا السياق الفكرى تراجع فكر النخبة، بل أصبح كثير منهم يفكر بمنطق العوام ويستوعب المعارف فى قوالب أيديولوجيّة جاهزة ثم يدافع عنها؛ ليحظى بمكانته وسط ثقافة العوام. إنها الخيانة الكبرى التى تمارسها النخبة الآن، نفاق العوام، وهى خيانة لا تقل أهميّة عن خيانة الوطن؛ لأنها خيانة للإنسانيّة، وللأخلاق، وللقيم.

صار كثير من النخب يلوى الحقائق العلميّة، أو الدينيّة؛ ليُرضى الفكر المسيطر، فكر العوام؛ حيث قامت نخبة لا بأس بها من دُعاة الإسلام السياسى بهذا الدور لكسب ودّ طبقة العوام، ومعروف تأثير هذه الطبقة فى الانتخابات، وكان نتيجة هذه الخيانة ما نراه من عنف دموى، وعنف رمزى بين أفراد المجتمع. أسوق شاهدًا على دور النخب فى التأسيس للعقل الأعمى الذى يحجب النور، فأذكِّر بموقف طوائف من النخب الدينية فى مصر والسودان من ختان الإناث، عندما ألبسوه لباس الدين «تحت مقولة العفّة»، متأثرين فى هذا بثقافة العوام، وتجاهلوا الوعى بأن هذه عادة من عادات وتقاليد حوض النيل، ولا علاقة لها بالدين! وهذا مثال صارخ على تغييب العلم أمام ثقافة العوام، ولهذا التغييب دلالته الأيديولوجيّة، فكثير من الحقائق العلميّة والدينيّة مُدانة فى عُرف ثقافة العوام. ومن المعروف أن ثقافة العوام تستعين دائمًا بكل ثقافة أو أيديولوجيا تساعدها فى تعزيز موقعها فى العقل الجمعى. كما تتسلّح هذه الثقافة بآليّات أيديولوجيّة ترتقى إلى منزلة القدسيّة لمهاجمة أى فكر حرّ يُخالف النسق السائد وإقصائه، إضافة إلى أنها تتبنّى الأحكام المطلقة التى لا تقبل النقاش والجدل.

أضحى العقل الأعمى لا يستطيع التمييز بين المحرّم الدينى، والمحرّم الثقافى؛ لأن قوّة المعرفة المطلقة فى الهيمنة، لا تقلّ عن قوة الدين فى التأثير، بل تتفوّق عليها فى ثقافات العوام، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعدّ ولا تحصى مثل قضايا: الثأر، والميراث، والمرأة، والرِّبا.. لأن لغة العوام وأفكارهم تعتمد على الرموز والعلامات؛ ومن ثمّ تُفصح عن ممارسات تقف خلفها أفكار، وهذه الأنساق محكومة بالدور الذى تؤديه فى النظام الاجتماعى السائد فى فترة تاريخية ما، ويتم استهلاكها من قِبَل الأفراد، حتى ما إن فقدت صلاحيتها- بأثر من أنظمة أخرى- تخفّت وتحوّلت فى صورة أخرى، نذكر على سبيل المثال، فكرة وأد البنات فى الجاهليّة، عندما حرّمها النظام الحضارى الجديد- الإسلام- تبدّلت فى عقول العوام إلى شكل آخر من أشكال حرمان الأنثى وتجريدها من حقوقها التى كفلها لها النظام الجديد، فالمعلومات المتصلة بحقوق المرأة الجديدة فى الإسلام، جرى توزيعها بين جمهور العامة بقدر من التفاوت؛ حيث تختفى العلامة والممارسة، ولكن تبقى الفكرة كما هى؛ لتتحوّل إلى علامة أخرى وممارسة أخرى يتوهّم فيها العقل الأعمى بالحفاظ على قِيَمه القديمة واستجابته للقِيَم الجديدة!. ويُعدّ خبر المواريث الذى رواه الطبرى عن موقف عوام المسلمين من حقوق المرأة بعد نزول آية المواريث خير برهان على ذلك، حيث أورد الطبرى فى كتابه جامع البيان أنه بعد نزول آية المواريث قال الناس: «تُعطِى المرأة الربع والثمن، وتُعطى الابنة النصف، ويُعطَى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يُقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغيّره» (جامع البيان فى تأويل القرآن، ج٣ ص ٦١٧).

يكشف هذا الخبر عن التناقض الحادث فى العقل العربى إثر تلقيه الإسلام، ويجعلنا نقف على تمركزات العقل العربى حول الثقافة؛ حيث أعطاها الأولويّة على حساب النصّ القرآنى الجديد الذى أتى بقيم وتعاليم وأفكار تختلف مع المزاج الثقافى العربى آنذاك، لعل من أهمها وأبرزها تعديل وضع المرأة فى الحياة العامة!.

فالمقصد القرآنى/ الحضارى واضح فى هذه القضيّة، ويتمثّل فى مقاومة العقل الأعمى، والعمل على تغيير خبرة الوعى الإنسانى بالموضوعات الإنسانية المهمة، ومنها المنزلة الجديدة للمرأة والطفل فى الحياة، وكان ينبغى للمفسرين والفقهاء الوعى بهذه المبادئ الإنسانية الجديدة، واستيعاب الوضع الحضارى الجديد للمرأة والأطفال والذى طرحه النص القرآنى بوضوح، وبناءً عليه كان يجب أن تأتى تأويلات المفسرين استجابة لدوافع إنسانية وحضاريّة جاء بها النصّ، تسعى إلى الارتقاء بالسلوك الإنسانى، بدلًا من أن تأتى استجابة لضرورات ثقافيّة وأيديولوجية أملتها الرغبة فى الحفاظ على السلوك الثقافى واستمراريته، وقد نبّهنا المولى عزّ وجلّ فى آيتين مختلفتين على خطورة انحرافات العقل الأعمى «مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» الأنبياء/٢. وقوله أيضًا: «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» الشعراء/٥. ولكن المفسرين والفقهاء، رغم ما بذلوه من جهد وعناء فى سياق ما توفّر لهم من معارف شحيحة مقارنة بالمعارف الآن، لم ينتبهوا إلى أهمية النص الدينى فى التأسيس لفكر حضارى جديد، يقبل المختلف ويستوعب المتغيرات، فسُنّة الله فى الأرض هى الاختلاف، ونحن نختلف لنتكامل باختلافنا. فجاء خطابهم مدجّجًا بأنظمتهم الثقافيّة، ورؤاهم المحليّة الضيّقة لقضايا العالم؛ حيث قبلوا ما اعتادوا عليه، ورفضوا كلّ محدث، مما ترتب عليه فشل المسلمين فى تحويل المبادئ القرآنية إلى قِيَم سلوكية تسهم فى ارتقائهم الحضارى. 

إن تداول الأفكار بهذه الآليّة الثقافيّة يرفع الثقافة إلى منزلة التقديس، وهذا ما يسعى إليه العقل الأعمى؛ لأنه يرفض حركة الأفكار وحيويتها، يريدها فى قوالب جاهزة ثابتة وراسخة، رغم مرور الزمن وتطوّر الحياة! وفى سياق التأسيس لجمود الفكر وثبات الأفكار، مارس العقل الأعمى فاعليته بتمثيل أفكاره المطلقة اجتماعيًا، ووضعها فى إطار موازٍ للدين الحضارى الجديد، دون الوعى بمنطلقات كل من الاثنين. فالدين ينطلق من مبدأ تحقيق إنصاف الأنثى وحمايتها؛ وذلك بتعديل خبرة الوعى من أجل حياة سعيدة، يسعد بها الإنسان فى الدنيا. أما الثقافة فتتأسس على التمييز العنصرى، بين الذكر والأنثى؛ حيث تعبِّر فى تمثيلاتها الاجتماعيّة عن أفضليّة الذكر على الأنثى؛ ومن ثمّة أدرك العوام المعنى فى سياق الخبرة الثقافيّة، وليس فى سياق المعرفة الجديدة التى يطرحها النص القرآنى للموضوع، وهو المنزلة الجديدة للمرأة والأطفال فى السياق الحضارى الجديد. وهذا يكشف عن خطورة ارتباط تداول معنى ما بنظام الثقافة. ففى ظل هذه الممارسات التفسيريّة، حدث الخلط بين المقصد القرآنى الكونى والحضارى للموضوع، والمقصد الثقافى الإقليمى للموضوع وتمثيلاته الاجتماعيّة، أو بين المعنى الدينى والحضارى لموضوع ما، والمعنى الثقافى للموضوع نفسه.

تعامل العقل الذكورى «الأعمى» مع المرأة والأطفال تعاملًا طقوسيًا وثقافيًا، أى بوصفهما كبش فداء، وهو طقس مارسته المجتمعات الجاهليّة مع المرأة والأطفال قبل نزول القرآن، وتحوّلت هذه الظاهرة فى اللاوعى الثقافى الجمعى- آنذاك- إلى طقس ثقافى يمارسه عوام الناس بانتظام للمحافظة على قِيَمها وتماسكها «ثقافة المجتمع الذكورى» وتوجيه طاقاتها العدوانيّة وعنفها- ظاهرة وأد الأنثى قديمًا وختان البنات فى دول حوض النيل حديثًا- فبعد التضحية بالمرأة «الوأد» فى الثقافة القديمة، يحلّ الغنى على المجتمع، وكأنها المسئولة عن الفقر!. وبعد التضحية بالبنت فى الثقافة الحديثة وفى القرن الحادى والعشرين! تحلّ العفّة والطهارة على المجتمع، بعد أن تتجرّد الأنثى من جميع زوائد المتعة. والنص القرآنى بوصفه نصًا تشريعيًا يُعيد بناء المجتمعات على أسس حضاريّة جديدة، لفت انتباهنا إلى خطر هذه الممارسات ضدّ المرأة. قال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» سورة الأنعام/ ١٥١ « وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» سورة النحل الآيتان ٥٨ و٥٩. وقال تعالى فى سورة التكوير: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ»، الآيتان ٨ و٩.

ولكن فى المقابل، ينظر العقل الأعمى إلى المرأة بوصفها ممثِّلًا للشرِّ؛ لأنها تجلب الفقر والعار، ووأدها قديمًا، وختانها حديثًا، يُعيد الشرف لأهله!، وعملية الوأد أو الختان، هى كلّ الخير؛ لأنها أخذت معها الفقر والشر وذهبت. وهكذا ينظر اللاوعى الأعمى إلى الضحيّة «المرأة» بأن وأدها، أو ختانها، أو حرمانها من الميراث، يجلب له الغنى، والعفة، والمال بعد عمليات الوأد، والختان، والحرمان.

يكشف هذا العماء الفكرى عن الجانب المظلم فى الطبيعة البشريّة، عندما ينخفض مستوى الملكة العقليّة؛ حيث تتحوّل الظاهرة الاجتماعيّة- بمرور الزمن- إلى عقيدة ثقافيّة تكتسى حُلّة دينيّة تضعها بمنأى عن أى مساءلة!. الفكر هنا مؤسَّس على بنية تراتبيّة هرميّة تشكّل فى سياق ثقافات المنع، والحرمان، ووضع الحدود والفواصل بين بنى قطبى البشريّة، ويتمثل خطر هذا الفكر فى اعتقاد أصحابه وثقتهم المطلقة بأن الفوضى والخراب والعار ستلحق بالمجتمعات إذا لم تطبّق هذه الممارسات. وجاء الدين الإسلامى رافضًا لحالة العماء الفكرى التى سيطرت على السلوك والممارسات آنذاك. فالآية الكريمة التى يقول الله تعالى فيها: « وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» سورة النحل الآيتان ٥٨ و٥٩، تفضح العماء المستتر خلف الأفكار، والكراهية للمختلف فى اللاوعى الثقافى العربى ضدّ المرأة. والاستفهام فى الآية الكريمة «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ» سورة التكوير الآيتان ٨ و٩، يكشف عن وجهة نظر الضحيّة المضطهدة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، يظهر براءة الضحيّة التى تخلّى عنها الجميع وصارت كبش فداء. وخطبة الرسول الأخيرة «خطبة الوداع» جاءت تتويجًا لما ورد فى النص القرآنى، ومخالفة لما هو سائد ومألوف قال الرسول «ص» فى خطبة الوداع: استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرًا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. 

يمكننا القول أخيرًا: إن النص القرآنى حارب العقل الأعمى عندما جاء بتشريعات جديدة تُحارب هذا العماء، وتُعيد النظر فى مفهوم العنف والتمييز الثقافى ضدّ المرأة؛ وذلك بإبراز المخفى الذى كببته الجماعات، ومن هنا كشف النص القرآنى عن الحقيقة التى ينبغى أن يكون عليها العالم، وهى العدل بين قطبى الإنسانيّة؛ وليفضح بعض القيَم الوهميّة للشرف والأخلاق المزعومة التى يتشدّق بها العقل الأعمى؛ حيث تنبنى هذه القيم على ممارسات الإقصاء والتمييز بين النساء والرجال، أو بين الأولاد والبنات، أو بين الأشراف والعبيد. لماذا يرتبط الشرف دائمًا بالدم لدى العقل الأعمى؟ أين شرف العقل؟