حاء «حرف»
قال الرّازى اللغوى المتوفّى عام ٦٦٦م «الْحَاءُ» حَرْفُ هِجَاءٍ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ. هو الحرْف السَّادس من حُروف الهجاء العربى. وهو صوت مهْمُوس، رخْو، ومخرجه من وسط الحلْق، يصعُب نطقه على كثير من الذين لا يتقننون اللسان العربى، كما صعُب على «هيلجا» نطق «موهامّاد» فى «النمر الأسود». بعض النّطق مشقّة، ومن الاشتقاق مشقّة، ومنه منفعة ومتعة. قد يكون تعلّم الحروف أوّل الأمر صعبًا، وهو كذلك بالفعل، لكنّه لا يستقيم من غير جهد ومجهود، وبقليل من الصّبر تنضبط الحروف من تلقاء أمرها، وتستقيم على اللسان والنّظر، وعلى النّطق والكتابة. تنتقل الحروف من مرحلة القدرة على القراءة والكتابة، من الحروف البسيطة إلى تلك المركّبة والمعقّدة، ثُمّ إلى مراحل شتّى من الإبداع والتجريب فى السّرد، والشّعر والمواويل، والمعلّقات، والأغنيات، والرواية «وكثير مما يُطرح من شِعر لا يعدو أن يكون نثرًا، وبعض ما يكون بلا تقفية موسيقى ونغمات تنساب»، ثُمّ انتقال من الشفهى، إلى المخطوط، والمصوّر، إلى المكتوب/ المدوّن، إلى الرقمى.
الحرف حدّ، حدّ الفّهم والكتابة والتعبير، والحروف والأحرف حدود وتحديدات وحقوق «وفى الأحرف جمع قلّة، بينما الحروف جمع كثرة». وما أصدق كلام الرسول، صلى الله عليه وسلمّ، وهو يقول «مَن قرأَ حرفًا من كتابِ اللَّهِ فلَهُ بِهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ آلم حرفٌ، ولَكِن ألِفٌ حرفٌ ولام حرف وميمٌ حرفٌ» «سنن الترمذى». ومن الحرف قد تكون بذرة، تصير كونًا واسعًا شاسعًا مكتمل الأركان؛ فى المعاجم «حَرْفُ» كُلِّ شَىءٍ طَرَفُهُ وَشَفِيرُهُ وَحدهُ. وَ«الْحَرْفُ» وَاحِدُ «حُرُوفِ» التَّهَجِّى– ألف باء تاء ثاء- وهلمّ على هذا الجرّ والسحب. هذه الأبجديّة فى لغات العرب والألفباء فى لغات الغرب. أبجد وألف باء أول كلّ شىء، ومنتهى كلّ شىء. والحرف رمز أو صوت أو كلاهما معًا– على هيئة من هيئات أو أشكاله، وفكرة، ومحتوى أى مضمون، وإشارة أو كناية.
ويشير أهل الإنجليزية إلى الخطاب أو المكتوب أو الرسالة وترجماته ومقابلاته. وهذا طى يتبعه نشر، واختزال قد يعقبه إسهاب. ومن ذلك أنّ «الحِرفة» صنعة واصطناع، والاحتراف امتهان وتمرّس؛ والحرّيف الماهر الحاذق وكذلك اللاذع. وتصير على ألسنة المرجفين وأقوالهم «تحريفًا» وتغييرًا أو تشويهًا، ويصير «التحرّف» كيدًا ومكيدة ««إلّا مُتَحَرِّفًا لقتال» - الأنفال، من الآية ١٦- أى يتحرّك مكيدة للقتال، ويصير «إحرافًا»، و«الانحراف» «انجرافًا» إلى ميل إلى حرف أو جانب، و«المُحرِف» هو من نما ماله وصلح، و«الانحراف» انصراف وميل وإبعاد.
ويقول أهل اللغة فى وصف حَرْفُ المعنى: «كَلِمةٌ تدُلُّ على معنى فى غَيرِها، وتربِطُ بَين أَجزاءِ الكَلامِ، فتربِطُ الأسماءَ بالأفعالِ، والأسماءَ بالأسماءِ، وتتركَّبُ من حرفٍ أَو أَكثَرَ من حُرُوفِ المبانى. بخِلافِ حُروفِ المبانى الَّتى هى كُلُّ واحِدٍ من حُرُوفِ المبانى الثَّمانِيةِ والعِشْرين الَّتِى تتركَّبُ مِنْها الكَلِماتُ، وَتُسَمَّى حُرُوفَ الهِجاءِ». وَبسبيل التلخيص حُروفُ المعانى أحدُ أَقسامِ الكَلِمةِ الثَّلاثةِ: اسْمٌ، وَفِعلٌ، وحَرْفٌ وبعبارة ألفية ابن مالك المشهورة: «كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كاسْتَقِم/ وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلِمْ». «الاسم ما دلّ على معنى فى نفسه، ولم يقترن بزمن»، والفعل «ما دلّ على معنى فى نفسه، واقترن بزمن»، والحرف « ما دلّ على معنى فى غيره».
نزل القرآن على سبع لُغات من لغات العرب، قيل: وليس معناه أَن يكون فى الحرف الواحد سبعة أَوجُه، ولكنّ هذه اللغات متفرّقة فى القرآن، فبعضه بلغة قُرَيْشٍ، وبعضه بلغة أَهل اليمن، وبعضه بلغة هوازِنَ، وبعضه بلغة هُذَيْل. لُغات ولهجات ولكنات أو لثغات شتّى. ولننظر كيف يتكلّم العرب هذه المفردة من المحيط إلى الخليج – «هكذا» و«كده» و«كدهوه» و«هيك» و«هكّه».
وفى َقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ - الحجّ، ١١ - قِيل عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ عَلَى السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ. وقال الزجّاج: «على حَرْف أَى على شَكّ»، قال: «وحقيقته أَنه يعبد اللَّه على حرف أَى على طريقة فى الدين لا يدخُل فيه دُخُولَ متمكّن»، «فإن أَصابه خير اطمأَنّ به»، «وإن أَصابته فِتْنَةٌ انقلب على وجهه». يسمعون الخبر المبهج فيطيرون، ويسمعون الخير المقبض هنا فيتطيرون. هلع عنا وجزع هناك. وفى الحالين تشويه وتحريف، وهذا ديدنهم، «يُحرّفون الكَلم عن مواضعه» «النّساء، من الآية ٣٦»، وبسبيل التوكيد «يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «البقرة، ٧٥». ولأنّ بعضهم «محارفون» فقد يكونون مَنْقُوصُى الْحَظِّ لَا يَنْمِى لَهُم مَالٌ. وَيُقَالُ: «انْحَرَفَ» عَنْهُ وَ«تَحَرَّفَ» وَ«احْرَوْرَفَ» أَى «مَالَ وَعَدَلَ».
وهذه اشتقاقات أخرى طريفة. «حرَّف النَّصَّ: صحَّفه وشوَّهه وأخطأ فى قراءته» و«حرَّف الحقيقةَ أى الوقائعَ، فلان على حَرْفٍ من أَمره: ناحية منه إِذا رأَى شيئًا لا يعجبه عَدَلَ عنه». و«وقَّع بالأحرف الأولى»: أعلن الاتِّفاق مبدئيًّا»، «اِنْحَرَفَتِ السَّيَّارَةُ: مالَتْ عَنِ الطَّريقِ»، «اِحْتَرَفَ الرَّجُل: اِتَّخَذَ حِرْفَةً لَهُ»، «اِحْتَرَفَ لأهْلِهِ: كَسَبَ»، «اِحْتَرَفَ اللاَّعِبُ: صَارَ مُحْتَرِفًا، أى مُتَفَرِّغًا لِلَّعِبِ»، «اِحْتَرَفَ مِهْنَةً جَدِيدَةً: اِتَّخَذَهَا حِرْفَةً». ومن المقابح المكروهة «تهمة تحريفيّة النصوص وخيانة الأمانة».
ويقولون: «تَرْجَمَ نَصًا إلى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّة: أَىْ نَقَلَهُ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ»، و«يُنَفِّذُ الأَوامِرَ حَرْفيًّا: كَما هِى بِحَذافيرِها»، «تُطلق على كلام منقول من كلام آخر بحذافيره نقلًا تامًّا» أو «ترجمة لا تصرّف فيها» و«تقليد حَرْفى»، وحَرْفيًّا: بصورة حرفيَّة، نصًا». الحرف هنا «وهو كذلك الاسم والفعل» وسط بين طرفين، بين إفراط وتفريط، بين جمود وتسيّب، فالترجمة الحرفيّة أمانة، لكنّها قد تنتهى إلى الركاكة والرداءة إذا بولغا فيها. يصدق هذا على الترجمة الدينيّة والأدبيّة والإعلامية والقانونيّة والطبيّة والنّصوص الغنانية والترجمة الشفهيّة والتحريرية والترجمة بالنّظر وغير ذلك من ضروب الترجمة.
بعض الترجمة تتعلّق به مصائر بشر، هذا بعض ما سلف من نصوص تكون فيها المعلومة هى العنصر الحاسم الفارق، فالخطّا فى ترجمة حكم قانونى أو شهادة شاهد قد يغيّر مصير متّهم، والخطأ فى ترجمة تحليل طبّى قد يغيّر مصير مريض. وفى بعض المواقف السياسيّة قد ينتهى الخطأ فى الترجمة إلى حرب كُبرى، كما تروى القصص عن الحرب العالميّة الثانية التى كانت كلمة واحدة هى الكلمة اليابانية «Mokusatsu» عاملًا حاسمًا فيها. من معانى الكلمة «الامتناع عن التعقيب» و«الصمت» ومن معانيها «التجاهل والاحتقار». وهذا المعنى الأخير هو الذى بلغ دول الحِلف على لسان رئيس وزراء اليابان «بل لسان المُترجم إذا شئنا الدِقّة» ردًّا على طلب الحلف استسلام اليابان من غير قيد أو شرط. لقى أكثر من سبعين ألف يابانى مصرعهم بسبب خطأ فى الترجمة.
لكن ما الذى يحدث إذا اختلف مترجمان فى ترجمة هذا السطر الشعرى من شكسبير «ShalI I compare thee to a summer›s day» فاختار الأول «الصيف» واختار الثانى «الربيع»؟ لن تندلع حرب، ولن يتغيّر مصير إنسان. إذًا، يتناسب الإصرار على الأمانة فى الترجمة تناسبًا طرديًّا مع خطورة محتوى النّص موضع الترجمة وخطورة العواقب التى تنجم عن الخطأ فى الترجمة.
لكنّ الخطأ فى الترجمة يظلّ خطأ ولو لم تظهر عواقبه على المدى القريب. وكم أخطأ العرب فى نقل النظريّات النقديّة واللغويّة الغربيّة! وكم تأسّس على أخطائهم من تطبيقات فاسدة لا يتحمّل أصحاب النّصوص الأصليّة مسئوليّتها! يظلّ الإخلاص للنّصّ الأصلى فضيلة محمودة، فكلّما ابتعدت الترجمة من الأصل صارت نصًا جديدًا لا يتحمّل مؤلّفه الأول عواقب ما يقع فيه من أخطاء، بل تنتفى مسئولّيته عنه فلا ينبغى لأحد أن يُحاسبه على ما يرد فى الترجمة.