الجواهر.. الشيخ طنطاوى يفسر القرآن بالموسيقى والعلوم الطبيعية
يعرف المهتمون بالحوار الدائر منذ سنوات حول تجديد الخطاب الدينى الشيخ طنطاوى جوهرى جيدًا، لكنها المعرفة العاقة، التى لا تزيد على ذكره فى سطور عابرة لا تمنحه حقه، ولا تنزله المنزلة الذى يستحقها، ولا تموضعه فى المكانة التى تليق به، وقد يلتسمون لأنفسهم العذر فى ذلك، لأن الاحتياج إلى التجديد يتجاوز عطاءاته العلمية والفكرية، وهى حجة بليدة، لأن ما قدمه لا يزال متجاوزًا لكثير مما نتحدث فيه بعد وفاته بما يقرب من 82 عامًا.
يمكنك أن تأخذ بنصيحتى وتذهب إلى محرك البحث «جوجل»، لتجد معلومات كثيرة عن العالم الذى تمرد على مناهج الأزهر وشيوخه، فخط لنفسه خطًا منفردًا ومتفردًا، جعله يشعر فى لحظة ما أنه يستحق جائزة نوبل فى السلام، وبالفعل يتقدم لينالها، لكن أحدًا لم يلتفت إليه، ربما لأنه لم يسلك الطريق الصحيح للحصول على الجائزة العالمية.
لن تغنيك كل محركات البحث عما ستجده هنا بينى وبينك، وهو حديث سيكون فيه الشيخ طنطاوى جوهرى طرفًا ثالثًا، نتحدث معه أنا وأنت، نزيل عن حياته بعض ما لحق بها من اتهامات وتقولات وربما اتهامات أيضًا، ونحاول الوصول به إلى شاطئنا الحائر، فما أكثر احتياجنا الآن لمن صارعوا الأفكار على طريقته، فقد كان ثائرًا من طراز رفيع، وتردينا الفكرى الآن يحتاج بالفعل إلى ثوار.
هل أتاكم حديث الشيخ طنطاوى جوهرى؟
ما رأيكم أن ندخل البيوت من أبوابها؟
نحن الآن أمام الشيخ طنطاوى جوهرى الذى ولد فى عام ١٨٧٠ فى قرية «كفر عوض الله حجازى» بمحافظة الشرقية، هناك من يشير إلى أنه ولد فى قرية «الغار»، وهى قرية قريبة من «كفر عوض الله حجازى»، إلا أن قرية «الغار» كانت موطن تعليمه الأول، حيث حفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة فى كُتاب «الغار»، وتعلم إلى جوار ذلك مبادئ الزراعة وأخلاقياتها من والده الذى كان يساعده فى عمله.
لا يعرف أحد الظروف التى انتقل فيها طنطاوى جوهرى إلى القاهرة، وإن كان المنطق يقودنا إلى أنه بعد أن أتم حفظ القرآن وهبه والده إلى التعليم الأزهرى.
درس طنطاوى فى الأزهر إلا أنه لم يركن إلى ما كان يقوم به شيوخه من حفظ المتون، والإنشغال بالشروح وشروح الشروح، واستظهار القواعد دون تبسيط، فضاقت روحه بما وجد نفسه مرغمًا عليه، فقرر أن يعود إلى القرية التى كانت تمنحه راحة هائلة، لكن والده أقنعه أن يعود مرة أخرى للدراسة الأزهرية، فعاد إلى القاهرة وقد أخذ قرارًا بأن يلتحق بكلية دار العلوم التى كان اسمها وقتها «مدرسة دار العلوم العليا».
فى عام ١٨٩٣ تخرج طنطاوى جوهرى فى دار العلوم، ليبدأ حياته العملية بالتدريس فى المدارس الثانوية بالقاهرة، ثم انتقل منها إلى المدرسة الخديوية بدمنهور، لكنه لا يطيق الحياة فى دمنهور، فيعود مرة أخرى إلى القاهرة ليباشر عمله مدرسًا فى كلية دار العلوم.
دخل طنطاوى جوهرى دار العلوم فى العام ١٩١١، وجاء ذلك عبر صديقه أحمد باشا حشمت الذى كان وقتها وزيرًا للمعارف المعموية.
بعد عام واحد، وفى ١٩١٢ وجد طنطاوى نفسه فى لحظة اختيار فاصلة، فقد تم ترشيحه لمنصب قضائى، وفى الوقت نفسه تم طلبه لتدريس الفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية التى كانت لا تزال جامعة أهلية، ولأن شخصية المعلم كانت متمكنة من طنطاوى، فقد حسم أمره وذهب إلى الجامعة مباشرة.
فى الجامعة بدأت بشائر مشروع طنطاوى جوهرى الفكرية، ففيها ألقى مجموعة من المحاضرات على طلابه، جمعها بعد ذلك فى كتابه «أين الإنسان؟»، وهو الكتاب الذى حاول فيه معالجة بعضًا من المشاكل الفلسفية التى تعترض العقل البشرى.
فيما كتبه طنطاوى جوهرى فى كتابه تتجلى لنا حقيقته وما كان يسعى إليه.
يقول: «بينما أنا أجيل هذا السانحات فى نفسى، وأنظر فى العالم بقلبى، قلت: يا ليت شعرى لو أن امرأ ركب متن هذا الكوكب، وساح العوالم العظيمة، وباحاتها الشاسعة، وساحاتها الواسعة، فدرس نظامها وقرأ علومها، ثم رجع فروى لنا أخبار الأمم العظيمة، وشرح لنا السياسات الكبيرة، لأفاد الإنسان، وعلمه البيان».
ويستند طنطاوى جوهرى إلى ما قاله الفيلسوف الألمانى «كانت» فى كتابه «التربية» حيث ذهب إلى أن الإنسان لم يتسن له تلقى العلم إلا عن بشر مثله، ولو أنه أتيح له عالم آخر، فأتاه علمًا وأهداه فهمًا، لكان ذلك أقرب لسعادته، وادعى لراحته، وأسرع لارتقائه فى مدنيته، والمعلم إذا لم يكن أوسع دائرة، وأحد بصرًا، وأقوى بصيرة، وأرقى عقلًا، وأسمى نظرًا من التلميذ، لم يتسن انتشاله من وهدته، وإسماؤه إلى أعلى درجته.
يعود طنطاوى جوهرى إلى نفسه فيقول: «كل هذه الخواطر السانحات جالت بخاطرى، وقد أخذتنى سنة من نوم، وبينما أنا نائم إذا بشخص دخل غرفتى وهى موصدة الأبواب، مقفلة الشبابيك، محبوكة الستائر، فوكزنى برجله، وسمعت وأنا مغمض الأجفان، غائبًا عن عالم العيان، قائلًا يقول: قم أيها الإنسان، فلم أفتح عينى لمقالته، بل ظننته من أضغاث الأحلام، وخطرات المنام، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فعاد الوكز، وعاودت الاستعاذة».
لا أدرى هل كان ما قاله طنطاوى جوهرى أمر واقعه حقيقة، أم كان حكاية من حكاياته التى كان يقرب بها المعانى إلى من يتحدث معهم أو يكتب لهم.
لا يهمنا فصل الخطاب فى ذلك على أية حال، يهمنى ما أكمل به حكايته، يقول: لما كانت الثالثة فتحت عينى، إذا نور مشرق فى ظلام الحجرة الحالك، فدهشت من هجمته، بل ذعرت من هيبته، وأخذتنى هذه الرعدة، لا هزة الطرب، ثم استجمعت قولى، وشددت فؤادى، وقلت: ما هذا؟ أنا فى يقظة أم فى منام، إن هذا إلا أضغاث أحلام، ثم أغمضت عينى، فإذا صوت أسمعه من ذلك النور الساطع والضوء اللامع، يقول بلسان فصيح عربى متين، لا تخف إنى صديقك، وعاشق للحكمة مثلك، اتحدت روحى وروحك، قم لأحل لك معضلات المسائل، وأضع لكم يا أهل الأرض قانونًا مسنونًا، وصراطًا مستقيمًا، ولكننى قبل ذلك أسألك: أين الإنسان؟
فتح طنطاوى جوهرى- كما يقول- عينه، فإذا شخص لم ير مثله فى هذا العالم المشاهد، كأنه شاب فى سن العشرين، لم يتبين شكله لمكان الظلام المحيط بنوره، متوسط القامة، عليه حلل مرصعة بالماس، منظومة بالذهب، محلاة بأنواع من الجواهر والأحجار الثمينة، لا يعرف لها فى الأرض نظيرًا، ولا يكاد يميزها للدهشة وظلام الليل، فأعاد السؤال مرة أخرى وقال: أين الإنسان. فرد طنطاوى: نحن بنى آدم نوع الإنسان، فقال: أو هذا منتهى ما تصل له يد استطاعتكم فى الكمال والأدب والنظام والمدينة والفضل؟ وهل تجاريبك العلمية ومباحثك العقلية أرشداك إلى أن هذا هو الكمال فى الإنسان؟
وضع طنطاوى جوهرى حيرته أمام محدثه.
سأله: خبرنى أيها السيد.. من أين أقبلت؟
فقال له: لى اسمان، الحقيقة والوجدان، وقد أقبلت من مذنب هالى، وأنا روح من الأرواح السائحة فى العالم، وإنى أحبك حبًا جما لحبك لنوع الإنسان، واهتمامك بنظامه العام، ولما اقتربت من الأرض ونظرت إليك نظر المحب المشفق، والوامق الصديق، فجئت لأسامرك الليلة، وأجاذبك أطراف الصداقة والخلة، ثم ارجع من حيث أقبلت، وقد سألتك: أين الإنسان؟ فتلكأت فى الجواب، وأوجبت بما لا يزيل اللبس، فأجب بالحقائق المعروفة لديك، واختصرا اختصارًا، وليكن قولك إيجازًا، وإذا لم تفد الحقيقة فضع بدلها مجازًا.
وضع طنطاوى جوهرى فى كتابه «أين الإنسان» بعضًا من خلاصة أفكاره، مستعينًا فيه بآراء عدد من الفلاسفة مثل الفارابى وابن طفيل وتوماس مور، ورغم أنه ليس أكثر من خواطر إنسانية، إلا أن هناك من يصنفه على أنه رواية فلسفية.
الأزهرى المتمرد يبحث عن نفسه
تمرد طنطاوى جوهرى مبكرًا على العلوم الأزهرية ومنهجها ومناهجها، دفعه إلى طريق مختلف، قرر أن يحدد ملامحه بنفسه.
فى كتابه «عباقرة ومجانين» الذى صدر فى عام ١٩٩٠، كتب الناقد الكبير رجاء النقاش عن طنطاوى جوهرى، ومن بين ما قاله، أن الشيخ الأزهرى لم يكن يعرف لغة أجنبية، ولكنه أدرك بفهمه العلمى السديد وتطلعه إلى المعرفة ضرورة الاهتمام بإحدى اللغات الأجنبية، فاتجه إلى اللغة الإنجليزية، ودرسها دراسة واسعة حتى أتقنها، معتمدًا فى ذلك على جهده الذاتى وإرادته القوية، بعد أن استعان فى بداية الأمر ببعض المدرسين، وقد ساعده إتقانه لهذه اللغة على أن يقوم بترجمة بعض الأشعار والنصوص الأدبية الإنجليزية، مما يدل على أنه قد وصل فى إتقانه لهذه اللغة إلى درجة جيدة.
فيما يبدو كانت شخصية طنطاوى جوهرى مستفزة لرجاء النقاش، الذى بدأ يبحث عن تلاميذه، ولما وجد أحدهم وهو أحمد عطية الله، عرف منه جانبًا يمكن أن نعتبره غريبًا فى شخصية طنطاوى.
قال عطية الله- الذى لم يقل لنا رجاء النقاش شيئًا عنه أكثر من أنه تلميذ لطنطاوى- أن شيخه كانت عنده جاذبية غريبة للرياضيات والطبيعيات، للدرجة التى جعلته يعتبر تعليم الكيمياء من الواجبات والفروض التى لا يتم إيمان المسلم إلا بها.
من بين ما ينسب لطنطاوى جوهرى كذلك أنه كان يتابع ما ينشر فى الصحف والمجلات من اكتشافات علمية، ويعتبرها دليلًا على التطور الحضارى، وهو ما دفعه أحيانًا إلى بعض الشطط، ففى عام ١٩٣٠ رفع مذكرة إلى الحكومة المصرية أثناء غارات الجراد التى اجتاحت البلاد، يقترح فيها جمع الجراد وبيضه لاستخراج زيت قال إنه أجود زيت يصلح للطائرات.
لم يتلق طنطاوى جوهرى ردًا على مذكرته، ولم يلتفت إليها أحد، فقد كان ما قاله مجرد فكرة لا علاقة لها بالعلم ولا التجربة.
حمل طنطاوى جوهرى هذه المعارف والعلوم وهو يضع مؤلفاته، التى كان منها: «التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم»، و«ميزان الجوهر فى عجائب الكون»، و«جواهر العلوم»، و«سوانح الجوهرى»، و«الفرائد الجوهرية فى الطرق النحوية».
من عناوين كتبه يمكننا أن نمسك بملمح نفسى مهم فى شخصية طنطاوى، فقد كان معجبًا بنفسه للدرجة التى جعلته يضمن عناوين كتبه بعضًا من اسمه، فقد كان يرى فى نفسه عالمًا فذًا تفوق على أقرانه، وهو ما دفعه إلى أن يطالب بجائزة نوبل فى السلام لنفسه عام ١٩٣٨، أى قبل وفاته بعامين فقط.
لغز جائزة نوبل فى حياة الشيخ طنطاوى
الفكرة غريبة لكنها حدثت.. وهنا تقابلنا روايتان.
الرواية الأولى صاحبها رجاء النقاش، الذى يجزم أن طنطاوى جوهرى راسل الأكاديمية السويدية وزكى نفسه لها، معتبرًا أنه يستحق الجائزة لأنه فى كتاباته التى كان منها بالتحديد: «نظام العالم والأمم أو الحكمة الإسلامية العليا»، والنظام والإسلام» و«جمال العالم» و«نهضة الأمة وحياتها»، كان يحمل على كتفيه دعوة إنسانية واسعة، فكان يدعو إلى السلام والتضامن الإنسانى، اللذان يؤديان إلى انتشار العدل وارتقاء البشر جميعًا، وكان فى هذه الكتب يهاجم الدول الكبرى التى تعمل على أن تفرض سياستها بالقوة، وتحاول أن تحقق مصالحها على حساب الآخرين من أبناء المجتمعات الإنسانية الضعيفة، وكان يرى أن الإخاء الحقيقى بين البشر هو الحل المثالى الصحيح لأزمات الإنسان المختلفة، ولم تكن دعوته لهذه المبادئ الإنسانية سطحية بل كانت عميقة وقائمة على شعور غامر بالمسئولية، كما أنه كان يشرح دعوته بأسلوب جميل واضح أو مؤثر، وكانت كتبه مليئة بالحقائق والمعلومات الواسعة فى سائر مجالات المعرفة الإنسانية.
الغريب أن طنطاوى جوهرى كان يأخذ من نظام حياة الحشرات والجوارح والضوارى وممالك النحل والنمل والهوام والمعادن والأحجار ما يدلل به على أن الله ما خلق خلقه إلا من أجل أن يعيشوا فى سلام، ودعا فى كتابه «أحلام فى السياسة وكيف يتحقق السلام العام؟» العالم كله للأخذ بنظام الحيوانات ليعيشوا فى سلام عام.
يحاول طنطاوى جوهرى توضيح فكرته أكثر، ففى «أحلام السياسة» نقرأ: كيف تكون للعوالم التى تعيش من حولنا هذا الجدول المنظم، وتكون بينها هذه النسب البديعة، ولا يكون للإنسان هذا النظام؟، كلا... إن العقل ينكر هذا، وها هنا تحل مشكلة العالم، ها هنا عرفنا سبب النزاع القائم بين الأسرات والممالك، هآنذا عرفت سبب الجمال فى الحقول والسماوات ليلًا ونهارًا، فأما أسباب الشقاء والنزاع بين الإنسان فالبحث جار فيها.
بحث طنطاوى فى الأمر، ونجده يعود ليقول لنا: هل فى شرعة الإنصاف أن نعتبر أفراد الإنسان فى هذا العالم كمية مهملة لا نظام يجمعهم، ولا قانون يكبحهم، وقد رأينا النسب والقوانين لم تذر ذرات الأيدروجين مع ذرات الصوديوم، ولا ورقات التفاح مع ورقات الأعشاب، ولا حركات سقوط الأحجار، كلا... كلا إن قوى نوع الإنسان وعقوله لها نسب خفية، وكل امرؤ فى الأرض له نسب إلى غيره فى أمته وفى غيرها، ولما خفى ذلك على الناس حاروا فى أمرهم، فلم يجدوا مناصًا من الحرب، لأنهم لم يهتدوا إلى نظامهم، فكل يزعم أن له عند الآخر حقًا يريد أخذه بالقوة.
ويعلق رجاء النقاش على محاولة طنطاوى جوهرى الحصول على جائزة نوبل بقوله: هو الأزهرى الذى وجد فى فكره وعلمه وآرائه الإنسانية ما يؤهله لطلب جائزة نوبل فى السلام لنفسه، وقد كان على حق فيما تصوره، وإن كانت الجائزة العالمية قد فاتته، فلم يفته التقدير الكبير عند أى باحث منصف يدرس تاريخه ويتعرف على إنتاجه الفكرى والدينى، ولا يستطيع هذا الباحث المنصف إلا أن يقول: إن طنطاوى جوهرى كان واحدًا من أعظم العقول التى عرفها الفكر العربى المعاصر، بل لقد كان واحدًا من أعظم العقول الإنسانية فى هذا العصر، بالإضافة إلى ما اتصفت به نفسه من نبل وصفاء، وإخلاص لرسالة الإسلام الحقيقية فى دعوته إلى مبادئ العدل والسلام والعلم والحرية والتقدم.
الرواية الثانية: صاحبها الدكتور محمود الجوادى الذى كان واحدًا من أهم من كتبوا سيرة الشخصيات العامة فى مصر والعالم العربى، قبل أن تجرفه الجماعة الإرهابية فى طريقها بعد ٣٠ يونيو، فيصبح واحدًا من أبواقها.
فى بورتريه مطول كتبه الجوادى على مدونته «أبو التاريخ» يذهب إلى أن الدكتور على مصطفى مشرفة باشا هو من رشح الشيخ طنطاوى لجائزة نوبل فى عام ١٩٣٩، بمجموعة كتبه إلى الدوائر الغربية لنيل جائزة نوبل للسلام، وقد رشحه الدكتور مشرفة بوصفه عميدًا لكلية العلوم، واشترك فى الترشيح الدكتور عبدالحميد سعيد عضو البرلمان، والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين، ودعمت وزارة الخارجية هذا الترشيح، وتولت إجراءات تقديمه مع مؤلفات الشيخ إلى لجنة الجائزة والبرلمان النرويجى مشفوعة بتقرير عن جهوده فى سبيل العلم والسلام، وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا فى قيمة هذه المؤلفات، لكن وفاة الشيخ طنطاوى جوهرى فى مطلع ١٩٤٠ حالت دون اتمام الأمر لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا للأحياء.
لم يقدم لنا محمد الجوادى دليلًا واحدًا موثقًا على روايته، إلا أنها الأقرب إلى المنطق، ويبدو أنه كتب ما كتبه بقناعة أن الشيخ طنطاوى لو كان حيًا لفاز بجائزة نوبل للسلام، ولأصبح بذلك أول عربى يحصل على الجائزة فى أى فرع من فروعها، دون أن ينتبه إلى أن الشيخ طنطاوى كان صاحب دعوة نظرية للسلام، وهو ما يتساوى فيه مع كتاب ومؤلفين كثيرين حول العالم، ولا تمنح الجائزة فى فرع السلام لمن يكتبون داعين ليسود السلام العالم، ولكن من يقومون بجهد حقيقى على الأرض لتمكين السلام فى الأرض.
تخليص طنطاوى جوهرى من شوائب الإخوان
وعلى ذكر محمد الجوادى، فقد وقع فى مغالطة أخرى، يمكننا أن نعتبرها جريمة تاريخية.
يقول الجوادى إن حسن البنا عرض على الشيخ طنطاوى جوهرى أن يكون مرشدًا عامًا للإخوان، لكن الشيخ رفض، واكتفى بأن تولى رئاسة تحرير جريدة «الإخوان المسلمون» والتى صدر العدد الأول منها فى ١٥ يونيو ١٩٣٣، وكان يلقى درسًا فى تفسير القرآن الكريم فى المركز العام للإخوان المسلمين فى الحلمية.
وينسب الجوادى للشيخ طنطاوى جوهرى- ما نقله من أدبيات جماعة الإخوان- أنه قال عن حسن البنا: لو تعلمون عن هذا الشخص ما أعلم ما ملكتم إلا أن تبايعوه على نصرة الإسلام، إنه فى نظرى مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسى، إنه قلب على وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوة اليقظة عنصر الجندية، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر الإسلامية».
لكن لماذا أصف ما قاله الجوادى بالمغالطة؟
لدينا هنا أكثر من شاهد على أن ما قاله ونسبه الجوادى لطنطاوى جوهرى ليس إلا بعضًا من التدليس.
فما كان لعالم وفيلسوف مثله يعتز بنفسه وبمنهجه أن يخدعه حسن البنا، وحتى لو احتج أحد عليه وعلينا بأنه قبل رئاسة تحرير «الإخوان المسلمين»، فإن هذا لا يعنى أن هواه كان يتوافق مع هوى الجماعة، فالأزهرى الذى رفض التعليم الأزهرى لأنه كان أسيرًا للمتون القديمة، ما كان له أن يركن لجماعة ترفع فى وجوه أتباعها مبدأ السمع والطاعة وتطالبهم أن يبايعوا على ذلك فى المنشط والمكره، ولذلك فإننى أستبعد تمامًا أن يكون طنطاوى جوهرى بايع حسن البنا على شىء.
وما لا يعرفه محمد الجوادى غالبًا أن حسن البنا كان يحاول استقطاب كبار المفكرين إلى جماعته، من خلال دعوتهم ليكونوا مرشدين لها، دون أن يوضح هل كان يعنى ذلك أنه سيتنازل لهم عن مكانه ومكانته، أم أنه كان سيبحث لنفسه عن مكانة أخرى تجعله يعلوهم، فيحتفظ بحق الأمر والنهى فى الجماعة؟
فعل ذلك مع محمد حسين هيكل باشا، حيث كان يرافقه فى رحلة حج فى بدايات الثلاثينيات، وأكد له أنه يتلقى دعمًا خارجيًا هائلًا، لكن هيكل نفر منه ولم يستجب لدعوته، وفعل ذلك أيضًا مع الكاتب الكبير أحمد أمين، عندما دعاه إلى الانضمام للجماعة ليكون مرشدًا له، لكن أحمد أمين لم يرد عليه بالإيجاب أو السلب، وإن كان أخبر ابنه حسين بسبب رفضه للجماعة التى انحرفت بالدين وتريد أن تصل به إلى الحكم.
ويبقى لدى شاهد يؤكد أن الشيخ طنطاوى جوهرى لم يقترب من أفكار الإخوان أبدًا، ولا دعا للانخراط فى صفوفهم، وهو أن منهجه كان يختلف مع منهجهم، فقد كان يعلى من شأن العقل وهم يحتقرونه، وكان يدعو إلى التجديد وهم يميلون إلى التقليد، وكان يدعو إلى السلام بينما لا يؤمنون هم به.
ولو افترضنا جدلًا أن الشيخ طنطاوى رأى فى الإخوان أى خير، فذلك لأنه مات فى العام ١٩٤٠، أى قبل أن يظهر الوجه القبيح للجماعة، وتقدم على الاغتيالات وأعمال العنف التى جعلت الجميع ينفر منها ويهرب من صفوفها.
الأهم من كل ذلك، أننى أرى فيما قاله عن حسن البنا ذمًا وليس مدحًا، هذا على افتراض أنه قال ما قاله من الأساس، فأن يصفه بأنه يجمع بين قلب على وعقل معاوية، فهو رجل متناقض لا خير فيه.
لماذا سخر طه حسين من طنطاوى جوهرى؟
وإذا كنا قطعنا الطريق على المتقولين على طنطاوى جوهرى بأنه كان من أنصار الإخوان، فإن من حقه علينا أن نخلصه مما ألحقه به طه حسين فى الجزء الثالث من كتابه «الأيام».
يقول الدكتور العميد عنه: «كان الأستاذ الآخر الذى ملأ الجامعة فكاهة ودعابة، وملأ الطلاب عبثًا به واجتراء عليه، وملأ بطون الطلاب من طعامه، هو الشيخ طنطاوى جوهرى رحمه الله، الذى كان يدرس لنا الفلسفة الإسلامية، وكان يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا، وكانت كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق أكثر الكلمات جريانًا على لسانه، منذ يبدأ الدرس إلى أن يتمه، وكان لا ينطق بكلمة منها إلا مد ألفها فأسرف فى المد، وربما أخذه شىء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب فى ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم الآخر، ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك فيلوم الطلاب، لا على أنهم يضحكون، بل على أنهم لا يشاركونه فى الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على صفحة النيل، ويمد ياء النيل فيسرف فى مدها ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متواصل».
ويستكمل طه حسين رسمه لصورة طنطاوى جوهرى عنده، يقول عنه «وفى ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام، وقرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسانهم فى شكر الأستاذ على دروسه القيمة، واشترطوا عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم، واشترط عليه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو جملة من حديث الشكر هذا الذى يجب أن يكون طويلًا من إحدى هذه الكلمات الست: الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق، وقَبِل الفتى هذه الشروط كلها، فخطب وأجاد، ولكنه لم يقل شيئًا، ورضى الأستاذ كل الرضا، وقال للفتى: لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك رومى، ولكنك لن تأكله وحدك، وإنما يشاركك فيه زملاؤك جميعًا، فإذا كان يوم الجمعة فأنتم تعرفون أين أقيم».
وينهى العميد كلامه عن أستاذه بقوله: «ولم يكن الأساتذة المصريون وحدهم هم الذين يملأون الجامعة فكاهة ودعابة، ويتعرضون لعبث الطلاب وجراءتهم الماجنة، وإنما كان الأساتذة مصدرًا من مصادر الفكاهة وموضوعًا من موضوعات العبث، كانت لهجتهم العربية تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذتهم الإيطاليين أو الألمان». الغريب أن رجاء النقاش وبعد أن نشر مقاله عن طنطاوى جوهرى، وكان عنوانه «أزهرى يطالب بجائزة نوبل» لأول مرة فى مجلة الشباب قبل أن يضمه إلى كتابه «عباقرة ومجانين»، تسلم رسالة من القارئة مها محمد الهنداوى من دمياط، قالت له فيها: قرأت لكم ما كتبتموه عن الشيخ طنطاوى جوهرى، أو الأزهرى الذى طالب بجائزة نوبل، وأود أن أحيطكم علما بأننى درست هذا العام الجزء الثالث من رائعة «الأيام» لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وفيه يذكر الشيخ طنطاوى بأوصاف قبيحة، ويصف كيف كان الشيخ مثار سخرية الدكتور طه حسين وزملائه.
وبعد أن ذكرت مها الهنداوى ما قاله طه حسين عن طنطاوى جوهرى، قالت: أرجو من سيادتكم الرد، فكلامكم أوقعنى فى حيرة شديدة، فهل الشيخ طنطاوى جوهرى الذى يتحدث عنه الدكتور طه حسين فى الجزء الثالث من كتاب «الأيام» هو نفسه من يتحدث عنه سيادتكم أم شخص آخر؟».
ويرد رجاء النقاش على سؤال القارئة بقوله: أحب أن أؤكد للقارئة الفاضلة أن الشيخ طنطاوى الذى تحدثت عنه هو نفسه الشيخ طنطاوى جوهرى الذى يتحدث عنه طه حسين فى الجزء الثالث من كتابه، وبالطبع فإن الصورة التى رسمتها للشيخ طنطاوى جوهرى تختلف عن الصورة التى رسمها طه حسين، فما السبب فى هذا الختلاف الكبير؟
ويجيب رجاء النقاش على سؤاله بقوله: السبب فى ذلك يعود إلى طه حسين نفسه ولا يعود– فى تقديرى – إلى الشيخ طنطاوى جوهرى، فقد كان طه حسين يتميز بصفة لا أستطيع أن أسميها إلا باسم الشقاوة، وهذه الصفة لازمته فى النصف الأول من حياته، بل أكاد أن أقول إن صفة الشقاوة قد لازمته أكثر من نصف حياته، وظلت تلازمه فى كل حياته وإن كان حاول فى سنواته الأخيرة أن يخفيها ويخفف منها إلى حد كبير.
ويعدد رجاء النقاش صور نفور طه حسين من رجالات الأزهر، ليقول بعد ذلك: فى الجامعة التقى طه حسين وهو طالب بأستاذه طنطاوى جوهرى، وكان طنطاوى شيخًا أزهريًا معممًا، انتدبته الجامعة لتدريس الفلسفة، فهل كان بالإمكان أن يسلم هذا الشيخ الأزهرى من شقاوة طه حسين؟ لقد هرب طه حسين من الأزهر وها هو يلتقى مرة أخرى بشيخ أزهرى يجىء إلى الجامعة للتدريس، ومن هنا كان لابد أن يصب طه حسين على أستاذه الأزهرى ألوان السخط والسخرية الحادة، لأنه يذكره بالأزهر وبمشاكله الكثيرة مع شيوخ الأزهر.
ويصل النقاش إلى القول الفصل، فيقول: القصة التى يرويها طه حسين عن الشيخ طنطاوى جوهرى لا تسىء إلى الأستاذ فى حقيقتها، ولكنها تكشف عن شقاوة التلميذ طه حسين وميله الدائم إلى مشاغبة أساتذته الأزهريين، والحقيقة أن الشيخ طنطاوى جوهرى لم يكن أزهريًا بالمعنى التقليدى، بل كان عالمًا عظيمًا مجددًا.
طريق الشيخ طنطاوى إلى تفسير «الجواهر»
لا يزال لدينا من القول فصلًا، لقد عاش طنطاوى جوهرى حياته كلها حلقة واحدة، فلم يكن اطلاعه على العلوم الكونية، ولم تكن كتاباته إلا تمهيدًا لتفسيره الكبير «الجواهر» وهو التفسير الذى أنجزه على مراحل، وكان متأثرًا فيه بقراءاته وواسع اطلاعه، ومحبته إلى الموسيقى.
فمن بين ما نقله رجاء النقاش عن تلميذه أحمد عطية الله قوله: امتد شغف الشيخ طنطاوى من الرياضيات إلى الموسيقى، باعتبارها فرعًا من فروع الرياضيات، وكان يقول إن الموسيقى المسموعة باب من أبواب الموسيقى المعقولة، أى التى توجد فى العقل عن طريق المعادلات الرياضية، وأورد فى تفسيره للقرآن كثيرًا من النوادر والحوادث الشخصية، التى كانت الموسيقى فيها حافزًا له على ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكرى، بل إنه عزا توسعه فى تفسير القرآن وهدفه من تضمين هذا التفسير كثيرًا من حقائق العلوم الطبيعية إلى حادث من الحوادث الفردية التى لعب فيها «الفونوغراف» دورا فى تطوير أفكاره وشحذ عزيمته.
أما كيف انتهى طنطاوى جوهرى من تفسيره للقرآن؟... وكيف عمل عليه؟ ولماذا لم يلتفت له أحد، فهذه قصة طويلة تستحق أن تروى للعلم وللتاريخ ولحق الشيخ طنطاوى نفسه علينا.
الصورة تبدو أمامى هكذا، فكأن الله نذر الشيخ طنطاوى جوهرى لإنجازه الأكبر فى حياته «تفسير الجواهر».
غلاف الطبعة الأولى من التفسير يكتب بطاقة هويته.
اسم التفسير كاملًا هو «الجواهر فى تفسير القرآن الكريم... المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات» من تأليف الأستاذ الحكيم الشيخ طنطاوى جوهرى، المدرس بالجامعة المصرية ومدرسة دار العلوم سابقًا، متع الله المسلمين بحياته... آمين.
وعلى الغلاف يقابلنا تنبيه يقول فيه طنطاوى: «إن شاء الله بعد تمام طبع التفسير سنتبعه بملحق لتفصيل ما أجمل فيه من العلوم الكونية والأحكام الشرعية واختلاف المذاهب فيها».
وقد طبع بمطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر وباشر طبعه محمد أمير عمران.
عندما نعيد النظر فى تكوينه العلمى والدينى، سنجد أن طنطاوى جوهرى كان يسير فى طريق، لم تكن له نهاية إلا هذا التفسير، فمنذ طفولته وهو لا يزال فى قريته «كفر عوض الله حجازى» ندهته الطبيعة بحقولها وأشجارها ونباتاتها وحيواناتها، فاهتم بها وهجر لهو الأطفال الصغار، ثم عزف عن المناهج التقليدية فى الأزهر، فمال إلى دراسة العلوم الطبيعية وتتبعها عبر الصحف التى تنشر عنها، ولأن تتبع العلوم يستلزم تعلم لغة، فقد أقبل على تعليم اللغة الإنجليزية وأتقنها.
الثابت عن الشيخ طنطاوى جوهرى أنه وبعد أن وصل إلى الستين من عمره، أى فى العام ١٩٣٠، بدأ فى كتابة تفسيره الذى انتهى منه فى خمس سنوات، حيث صدرت الطبعة الأولى منه فى العام ١٩٣٥، وهو كلام لا يمكننا أن نقبله منطقًا ولا عقلًا، ثم إن هناك من الوقائع ما يشير إلى أن طنطاوى جوهرى ومنذ شبابه وهو يعمل على مشروع تفسيره الكبير.
فى المقدمة القصيرة التى كتبها طنطاوى كمدخل إلى تفسيره، يضع أيدينا دون أن يكشف عن كثير من تفاصيل عما جرى.
يدخل بنا إلى ما وجد نفسه عليه، يقول: «إنى خلقت مغرمًا بالعجائب الكونية، معجبًا بالبدائع الطبيعية، متشوقًا إلى ما فى السماء من جمال، وما فى الأرض من بهاء وكمال، آيات بينات، وغرائب باهرات، شمس تدور، وبدر يسير، ونجم يضىء، وسحاب يذهب ويجىء، وبرق يأتلق، وكهرباء تخترق، ومعدن بهى، ونبات سنى، وطير يطير، ووحش يسير، وأنعام تسرى، وحيوان برى، ومرجان ودر، وموج يمر، وضياء فى مخارق الأجواء، وليل داج، وسراج وهاج، وكتاب من العجائب مسطور، فى لوح الطبيعة منشور، وسقف مرفوع، إن فى ذلك لبهجة لذوى البصائر، ونورًا وتبصرة لصادق السرائر».
تأمل طنطاوى جوهرى ما وجد نفسه عليه، فقرر أن يسير فى طريقه لا ينحرف به أحد عنه، يقول: «ثم إنى لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، ألفيت أكثر العقلاء، وبعض أجلة العلماء، عن تلك المعانى معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر فى خلق العوالم، وما أودع فيها من الغرائب». من هنا بدأت الرحلة، يقول عنها: «أخذت أؤلف لذلك كتبًا شتى، كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب، ومزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحى مطابقة لعجائب الصنع وحكم الخلق، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتقبلها أجلة العلماء قبولًا حسنًا، وترجم منها الكثير إلى اللغة الهندية المسماة بالأوردية، وإلى لغة القازان بالبلاد الروسية، وإلى لغة جاوه فى الأوقيانوسية، ولكن كل ذلك لم يشف منى الغليل، ولم يقم على غنائه من دليل، فتوجهت إلى ذى العزة والجلال، أن يوفقنى أن أفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم فى خلاله، وأتفيأ فى بساتين الوحى وظلاله، ولكم طلبت منه جل جلاله بالدعوات فى الخلوات، وابتهلت إليه وهو المجيب، فاستجاب الدعاء».
استجاب الله لدعاء طنطاوى جوهرى، فكان ابتداء التفسير إذ كان مدرسًا بمدرسة دار العلوم فكان يلقى بعض آيات على طلبته، وبعضها كان يكتبه فى مجلة «الملاجئ العباسية».
يقول: وها أنا ذا اليوم أوالى التفسير مستعينًا باللطيف الخبير، مؤملًا بما وقر فى النفس، أن يشرح الله به قلوبًا، ويهدى به أممًا، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية، وإنى لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليقرأن فى مشارق الأرض ومغاربها مقرونًا بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية، والبدائع الأرضية: الشبان الموحدون، وليرفعن الله مدينتهم إلى العلا، وليكونن هذا الكتاب داعيًا حثيثًا إلى درس العوالم العلوية والسفلية، وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة فى الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك وغيرهم من العلوم والصناعات؟ كيف لا، وفى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، فأما علم الفقه فلا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية». وضع طنطاوى جوهرى فى هذا التفسير ما يحتاجه المسلم، من الأحكام والأخلاق وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق مما يشوق المسلمين والمسلمات، إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البينات، فى الحيوان والنبات والأرض والسموات».