السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسطورة.. أحمد خالد توفيق

أحمد خالد توفيق
أحمد خالد توفيق

اللَّيْلُ وقتٌ منَاسبٌ للكتَابَةِ وظهورِ العفَاريتِ، ويظنه أغلب الكتاب مناسبًا للإلهام. مِنْ بينِهِمُ الدُّكْتُور أحْمَد خالِدْ تَوْفِيق، الَّذِى اعتَادَ أنْ يكتُبَ لمُدَّةِ ٤ سَاعَاتٍ بعدَ مُنْتَصَفِ الليْلِ، تحديدًا بعدَ أنْ ينَامَ الجميعُ، ففِى اللَّيْلِ تسكُنُ حركَةُ البَيْتِ، تتوَقَّفُ السيَّارَاتُ عَنْ ندَاءَاتِهَا، يخْفُتُ صَوْتُ الجيرَانِ وأطفالِهِمْ، ومِنْ ثَمَّ تخْرُجُ شخوصُهُ آمنَةً مِنْ رأسِهِ إِلَى الورَقَةِ البيضَاءِ.
جلَسَ العرَّابُ أمَامَ مكتبِهِ شَاردًا. دقَّتِ السَّاعَةُ مُعْلنَةً الثَّانيَةَ عشرَةَ صبَاحًا، فَانتَبَهَ إِلَى أنَّ ثمَّةَ شيئًا طَارئًا. الْوَقْتُ يمُرُّ كحبَّاتِ رَمْلٍ بينَ أصبُعَيْهِ، بينمَا الأفكَارُ تُطلُّ مِنْ رأسِهِ مبتورَةً،. فسَدَّةُ الكَاتِبِ أو writer block الَّتِى أصَابَتْهُ، تجْعَلُ الأمْرَ فِى رأيِهِ «شبِيهًا بجفَاف عصَارَةِ الحيَاةِ فِى جسدَهِ».
استعَدَّ الدُّكْتُورُ أحْمَد خَالِد تَوْفِيق لِتِلْكَ الحالَةِ مُسْبَقًا. أعدَّ ملفًا للأفكَارِ عَلَى جهَازِ الكُمْبُيوتَر الخَاصِّ بهِ، سجَّلَ فيهِ ملَاحظَاتٍ كَانَ قَدْ دَوَّنَهَا فِى ورقَةِ لَا تفَارقُهُ أبدًا. ملَأهَا بجُمَلٍ قصيرَةٍ، كُتِبَتْ بخطٍّ سيِّئٍ، لَا يُمْكِنُ لغيرِهِ قرَاءَتُهَا، وربمَا لَا يستَطِيعُ هُوَ أيضًا إنْ مرَّ وقتٌ طويلٌ دُونَ نَقْلِهَا. الآنَ لمَّا أصَابَتْهُ سَدَّةُ الكَاتِبِ، انتبَهَ إِلَى كنزِهِ المُخبَّأِ فِى جهَازِهِ الخَاصِّ، فتحَهُ وأخَذَ يقرَأُ لسَاعَةٍ أُخْرَى، وعَلَى ضخَامَةِ الملَفِّ الَّذِى تجَاوَزَ المِئَتَىْ صفحَةٍ، إلَّا أنَّهُ لَمْ يُسْعِفْهُ.
بَقِىَ العرَّابُ يستَجْدِى الأفكَارَ، ينْظُرُ فِى سَاعتِهِ كانَّهُ عَلَى موعِدٍ، يَمْشِى فِى الغرفَةِ دُونَ وجهَةٍ، ثمَّ اتجَهَ إِلَى النَّتِيجَةِ المُعَلَّقَةِ عَلَى الجدَارِ، ليَنْتَزِعَ ورقَةً اليوم؛ ليقرَأُ الحكمَةَ المكتوبَةَ أسفَلَهَا، علها تَصْلُحُ مدخلًا لقصَّةٍ أوْ مقالٍ. لَكِنَّهُ وبعدَ أنْ نزَعَ ورقَةً يَوْمَ «الإثنَيْنِ» الْمُنْتَهِى مُنْذُ سَاعَاتٍ، فوجِئَ بأنَّ الورقَةَ التاليَةَ كَانتْ ليومِ الأربعَاءِ، دُونَ خطَأٍ فِى ترتِيبِ توَاريخِ الشَّهْرِ، فقَالَ بعدمَا تأكَّدَ انَّهُ اتنزعَ وَاحدَةً فقَطْ، إنَّ ورقَةَ «الثلَاثَاءِ» ربمَا سقطَتْ سهوًا أثنَاءَ إعدَادِ النتيجَةِ، فغيَابُ ورقَةِ اليَوْمِ لَا يَعْنِى شيئًا بالتأكِيدِ.
يُحِبُّ العَرَّاب التَّشَكُّكَ، يُؤْمِنُ بأنَّ الثقَةَ الكَاملَةَ هلَاكٌ كَامِلٌ، ومِنْ ثَمَّ جلَسَ يمَارسُ لعبَةَ الِاحتمالَاتِ، فقَدْ يكُونُ غيَابُ ورقَةِ النتيجَةِ صُدفَةً، أو رُبَّمَا مزَّقَهَا شَخْصٌ وهوَ يَعْبَثُ فِى مكتَبِهِ، لكِنَّهُ لَمْ يمنَعْ نفسَهُ مِنَ الشعورِ ببَعْضِ القَلَقِ. فالصُّدَفُ تُخْبِرُنَا بأشيَاءَ لَا ندركها إلَّا بَعْدَ فوَاتِ الأوَانِ، فثمَّةَ علَاقَةٌ بَيْنَ الصُّدَفِ واللَّيَالِى الَّتِى تَحْمِلُ أنبَاءً غَيْرَ سَارَّةٍ.
رَنَّ هَاتِفُ المنزِلِ، نظَرَ إِلَى سَاعَةِ الحَائِطِ، فوجَدَهَا الثَّانِيَةَ صبَاحًا. لَمْ يَعْتَدْ أنْ يتَّصِلَ بهِ أحدٌ فِى وَقْت مُتَاخِّر مِنَ اللَّيْلِ، تردَّدَ لحظَاتٍ ثمَّ سرعَانَ مَا وضَعَ السمَّاعَةَ عَلَى أذُنِه:
- ألُو
- إزيك يا دكْتُور أحْمَد
- مينْ حَضْرِتَك؟
- أنت مَا تِعْرَفْنِيشْ، لكِنْ أنَا أعْرَفَكْ كوَيْس
- طيِّبْ مُمْكِن أعرَفْ مِين حضْرِتَكْ ومتَّصِلْ ليهْ فِى الْوَقْتِ دَا؟
- التِّليفُونْ مِشْ مكَانَ منَاسِب نِتْكَلَّمْ فيهْ، بكرَةْ هَسْتَنَّاك بعْدَ أذَانِ العَصْرِ عندَ استَادِ طنطَا.. مكَانْ مَا بِتُقَفْ بعرَبِيتَكْ لوَحْدَكْ
- وأنْتَ لِيهِ مُتَأكِّد إِنِّى هَاجِي
- هتيجي.. الأمْر خَطِيرْ يا دكتور، ولَازِمْ نتقَابِل فِى أسرَعْ وَقْتِ.
شَعَرَ الدُّكْتُور أحْمَد أنَّهُ يَعْرِفُ صوتَ المُتَّصِلِ، وإنْ لَمْ يُمَيِّزْ صَاحِبَهُ، لكِنَّ ذلكَ لَمْ يُطَمْئِنْهُ إِلَى الذهَابِ فِى المَوْعِدِ المُحَدَّدِ. قالَ إنَّهُ لَنْ يذهَبَ للقَاءِ شخصٍ يَجْهَلُ هُوِيَّتَهُ، لَكِنَّ المُتَّصِلَ أكَّدَ لهُ أنَّ الأمْرَ خطيرٌ، وحضورُهُ ضرورِىٌّ، كذلِكَ فلَنْ يُعَطِّلَهُ كثيرًا، فغيَابُ يَوْمٍ عَنْ عمَلِهِ الجَامِعِىِّ لَا يَعْنِى نهَايَةَ العالَمِ. انتَبَهَ العَرَّابُ إِلَى معرفَةِ الآخِرِ بموَاعيدِ عَمَلِهِ، لكنَّ هذَا أيضًا أمرٌ معروفٌ بالنسبَةِ للكثِيرِينَ، فمَا كَانَ مِنَ العَرَّابِ إلَّا أنْ قَالَ لَهُ فى توجس:
- أكيدٌ أنَا مِشْ فَاضِى لهزَار حَضْرِتَكْ.. وأتمنَّى مَا تِتِّصِلْش فِى وَقْتِ مُتَأخِّر تَانِى.
لَكِنَّ الآخرَ أنْهَى المكالمَةَ مَعَهُ قَائلًا: هستناك بكرَة يا دكتور.. أهُو عَلَى الأقلِّ أردُّ لَكَ ورقَةَ النتيجَةِ.

- آسِف يَا دُكْتُور.. عَارِفْ إنَّك بِتْحِبْ الالتزَامْ بالموَاعيد.
بعْدَ أذَانِ العَصْرِ، كَانَ العَرَّابُ يَقِفُ أمَامَ استَاد طنطَا. لَمْ يَقْطَعْ شُرودَهُ سِوَى ذلكَ الصوتِ. الَّذِى سَرْعَانَ مَا استدَارَ نَاحيتَهُ، عَلَى وجْهِهِ ابتسَامَةٌ انزَوَتْ تَحْتَ هَوْلِ المفَاجاةِ. فهُوَ لَمْ يَجِدْ أمَامَهُ وحشًا قبيحًا، أوْ عِفْرِيتًا تخرُجُ النَّارُ منْ أُذُنَيْهِ. لكِنْ حَسَبَ قَوْلِهِ فِى «أسطورَةِ رِفْعَتْ»، إنَّ «أشنَعَ مسخٍ يُمْكِنُ للمَرْءِ أنْ يلقَاهُ هُوَ نفْسُهُ» وهذَا بالضَّبْطِ مَا وُجِدَ!
كَانَ يُشْبِهُهُ تمَامًا، بأنْفِهِ الكُمِّثْرِيَّةِ الَّتِى تَحْمِلُ نظَّارَةً سميكَةً، وعَيْنَيْهِ الضيقَتَيْنِ اللتَيْنِ يعلُوهُمَا حوَاجبُ عَرِيضَةٌ، حَتَّى تَسْرِيحَةِ شَعْرِهِ الَّتِى تُشْبِهُ موظَّفِى المصالح الحكومية، وكذلك هيئَتُهُ الَّتِى تنَاسبُ مدرِّسَ أوَّل لغَةٍ عربيَّةٍ. الآنَ عرَفَ أحْمَد خَالِد تَوْفِيق أنَّ الَّذِى وَصَّلَهُ عبرَ الهَاتِفِ كَانَ صوْتُهُ، لكِنَّهُ خرَجَ منْ حنجرَةِ رَجُلٍ آخَرَ.
- أنت مين؟
لَمْ يَتْرُكْ العَرَّابُ نَفْسَهُ كثيرًا أمَامَ تِلْكَ الحيرَةِ، فسرعان ما خرج سؤاله عفويًا،
فالسؤَالُ عَنْ هُوِيَّةِ ذلكَ الشخص ِكَانَ بَدِيهِيًا، حَتَّى إنَّهُ خَرَجَ عفويًا مُنْدَفِعًا: إنْتَ مِينْ؟
فجَاءَهُ الرَّدٌ غيرَ متوَقَّعٍ: أنَا أحْمَد خَالِدْ تَوْفِيق.
ضَحِكَ العَرَّابُ بِصَوْتٍ عَالٍ، وهُوَ يحَاولُ استجمِاعَ الرَّدَّ المنَاسِبَ، لكِنَّ سُعَالَهُ الَّذِى خرَجَ مُتَحَشْرِجًا جعَلَهُ يَضْحَكُ ضحكَاتٍ متقطعَةً، وهُوَ يَقُولُ: عمَلْتَهَا قَبْلَكْ.. أظنُّ هَتْقُولْ إِنَّ «ضخَامَةَ حَجْمِ الكَوْنِ غَيْرُ المتنَاهيَةِ، خَلَّتْ مجرَّاتٍ عَدِيدَةً تَمُرُّ بِنَفْسِ الظرُوفِ اللِّى مَرَّتْ بيهَا مجَرَّتُنَا، والمَجَرَّات دِى فيهَا شُمُوسٌ، وحَوْلَ كُلِّ شَمْسٍ كَوَاكبُ، يُمْكِنُ كَوْكَبٌ فِيهِمْ مَرَّ بِنَفْسِ ظُرُوفِ الأرْضِ، وبكدَة بَقَى فِى الكون ألْف «رِفْعَت».. أقْصدْ ألْفَ أحْمَد خَالِد تَوْفِيق فِى الكَوْنِ فِى اللحَّظْةِ دِى.
- دا بالظبط اللى كنت هقوله.. بس مش غريبة.. ما إحنا يعتبر واحد.
الردّ الآخَرُ جَعَلَ الدُّكْتُور أحْمَد خَالِد تَوْفِيق يَضْحَكُ مرَّةً أُخْرَى، وهُوَ يَقُولُ: خَلِّينِى أقُول لَكَ عَلَى حَاجَةٍ.. القِصَّةُ اللِّى انْتَ بِتْقَلِّدْهَا دِلْوَقْتِى أنَا اللِّى كتَبْتهَا، مقَابلَةُ رِفْعَت إِسْمَاعِيل لِنَفْسِهِ فِى العَامِ ١٩٧٠، كَانَتْ فِكْرَتِى فِى الأسَاسِ، أنَا اللِّى خلِّيتِ الشَّخْص يتِّصِلْ بِيهِ عَلَى الهوَاءِ فِى الإذَاعَةِ، ويقُولْ إنَّهُ هُوَ رِفْعَت الْحَقِيقِى، ويَحْكِى ذِكْرَيَاتِهِ، وأنَا اللِّى نسَجْتُ الصرَاعَ والمشَاكِلْ اللِّى اتْعَرَّضْ لهَا رِفْعَتْ، وأنَا بَرْضُو اللِّى خَلَقَتْ لهَا الحَلَّ.. فهَلْ تِفْتِكِرْ إنِّى هَصَدَّقْ كِذْبِتَكْ دِى؟
- مِشْ هنِخْتِلِفْ فِى كُونِكْ إنْت اللِّى كَاتِبْ القصَّة.. لَكِنِ اللِّى مَا تِعَرْفُوشْ إنَّهَا فِكْرِتِى فِى الأسَاس.. كَانتْ مُحَاولَةْ للتوَاصُلْ معَاك.. كِتِيرْ كُنْت بَمَلِّى عَلِيكْ الأفكَارْ وأنْتَ نَايِمْ، علشَانْ تقبَلْ بَعْدَ كدَا فكرَةْ وُجُودْ عَوالِمْ موَازيَةْ، ووُجُودُ نُسْخَةٍ مِنْ كُلِّ شَخْصٍ، وإِنّ مُمْكِنْ نُسْخَة مِنَ النُّسَخْ دِى تِيجِى فِى أيْ وَقْت وبِأى شَكْل، وتحَاوِلْ تِسْتَبْدِلْ الْعَوَالِمْ مَعَ نسخَةْ تَانيَةْ!
قَطَّبَ العَرَّابُ جَبِينَهُ غَاضبًا، هُوَ قَدْ يَقْبَلُ بوجُودِ نسخَةٍ تطَابِقُهُ، تشَارِكُهُ الملَامِحَ، أو تقْتَرِبُ منْ طبَاعِهِ، أمَّا الحَدِيثُ بشأْنِ أنَّهُ يُمْلِيهِ أفكَارَهُ فهذَا مرفوضٌ. حذَّرَهُ مِنْ تَكْرَارِ كلَامِهِ مرَّةً أُخْرَى، فلَمْ يحَاوِلِ الآخَرُ تأكيدَ القَوْلِ أو نَفْيَهُ، بلْ تجَاوزَهُ متسَائلًا:
- دُكْتُوْر أحْمَد.. أنت بتُؤْمِنُ بِوُجُودِ عَوَالِمَ موَازيَةٍ ولا لأ؟
- آهْ أؤمِنُ بِوُجُودِ عَوَالِمَ أُخْرَى غَيْرِ عَالَمِنَا.. لكِنْ مَبَدَوَّرْش عَلِيهَا.
- يِبْقَى مُمْكِن تُؤْمِن إِنَّ فِى بَشَر عَايْشِين هنَاك، عَارْفِين بوُجُودِكم وبِيِّدَوَّرُوا علِيكُمْ.. وأنَا عشْتِ سنِينْ بَدَوَّرْ علِيكْ.. أنَا بسْ عَايِزْ أكِّدْ لَكْ إنِّ وُجُودِى مَالُوشْ علَاقَة بفرضيَّة التَّوْأمْ أو التَّوْأمْ السِّيَامى، وإنْ كَانَتِ النسخَةُ الجينيَّةُ هِىَ الفرضيَّةُ الأقرَبُ للصَّحْ.
تحرك العراب خطوات نحو سيارته، ثم التفت له قائلًا:
- فَلْنَفْتَرِضْ إنِّى اقتنَعْت بكلَامَكْ.. أنتَ عَايِزْ مِنِّى إِيه؟
نظَرَ الآخَرُ فِى عينَى أحْمَد خَالِد تَوْفِيق لثوَانٍ. اقترَبَ منْهُ كأنه يتحَسَّسَ موضِعَ الكلَامِ فِى نفسِهِ، ثمَّ سرعَانَ مَا أدَارَ ظهرَهُ مَاشيًا بِضْعَ خطوَاتٍ، وهُوَ يَقُولُ:
- بُصْ يَا دُكْتُور أحْمَد، كُلُّ وَاحِد فينَا بيعِيشْ حَيَاةْ مُمِلَّةْ، حَيَاة أُسْرِيَّةْ عَاديَّة جدًا، ويُوم وَظِيفِى بِيِتْكَرَّرْ.. حَتَّى الكتَابَة بقَتْ فِعْل مُمِلّ.. لكِنْ فِى نَفْس الْوَقْت كُلّ وَاحِدْ فينَا بالنسبَة للتَّانِى حيَاةْ مُخْتَلِفَة، عالَمْ جَدِيد، فيهْ مفَاجَآتْ وَاختيَارَاتْ غَرِيبَة.. عَلَشَان كدَا فكَّرْت إننَا نبدِّلْ الأدوَار، أنْتَ هَتْسَافِر للعَالَمْ بتَاعِى هتْعِيشُه بكُلّ اللِّى فِيهْ مِنْ مغَامرَات.. وأنَا هفْضَلْ مكَانَكْ هنَا.. وبكدَا نِقْدَرْ نِكْسَرْ حالَة المَلَلْ اللِّى عَايشِينْهَا.
وقَفَ العَرَّابُ مَشْدُوهًا ممَا سَمِعَ، قَدْ فَارقَتِ البسمَةُ وَجْهَهُ، ولمْ يبقَ غيرُ الغَيْظِ يَكْسُو ملَامِحَهُ. تذَّكَر أنَّهُ فِى عَام ١٩٩٨ جَعَلَ رِفْعَت إِسْمَاعِيل يوَاجِهُ نَفْسَ الْأَمْرِ، أرسَلَ إِلَيْهِ نسخَتَه تطالِبُهُ بالرَّحِيلِ إِلَى عالَمٍ آخرَ، فرفَضَ، وَهُوَ لَا زوجَةَ لَهُ ولَا أبنَاءَ. فكيفَ يتخيَّلُ ذلِكَ الآخَرَ، إنَّهُ سَيَتْرُكُ أُسْرَتَهُ ويسَافِرُ؟
- لكِنَّ نسخَةَ العالَمِ الآخَرِ منْ رِفْعَت إِسْمَاعِيل مَا نِجْحِتْش فِى خُطَّتِهَا، وفِى النهَايَةْ كُلُّ وَاحِدْ منهُمْ فِضِلْ فِى العالَمْ بتَاعُهُ. 
قالهَا الدُّكْتُور أَحْمَد خالِدْ تَوْفِيق، وهُوَ يحَاوِلُ مجَارَاتَهُ فِى الحديثِ. حينهَا انفرجَتْ أسَاريرُ الآخَرِ وهُوَ يقولُ: صَحِيح، وأنَا اتَّعَلِّمْت مِنْ أَخْطَائِه.. علشَانْ كدَا اختَرْت أقْصَرِ الطُّرُقِ عَلَشَانْ أوصَلْ لَكْ. مَا حَاوِلْتِشْ تَدْمِير حيَاتَكْ زَىْ مَا عمَلَ قَرِينْ رِفْعَتْ.. وخلِّينَا نتِّفِقْ عَلَى مُسَمَّى القَرِين، وإنْ كُنْتِ شَايِفْ إنّ أقرَبْ توصِيفْ هُوَ الآخَرُ، فأنَا أحْمَد خَالِد تَوْفِيق زَيَّكْ بالظَّبْط.. عَلَى أىِّ حَالْ أنَا مِشْ حَابِبْ أَجْبِرَكْ عَلَى حَاجَة، وشَايِفْ إنّ الأفْضَلْ نِحْتِكِمْ للعَقْل.
سَأَلَهُ العَرَّابُ عَنْ سِرِّ تأكُّدِهِ مِنْ قَبُولِهِ ِبالسينَاريُو الَّذِى رسَمَهُ، فقَالَ لأنَّهُ ليسَ أمَامَهُ غَيْرُ هذَا، كمَا أنَّهُ الأَحَقُّ بحيَاةِ أحْمَد خَالِدْ تَوْفِيق. فَفِى العالَمِ الآخَرِ، سبَقَهُ وقتُ الميلَادِ بدقَائِقَ، أىْ إنَّهُ قرينُهُ الأَكْبَرُ وحَرِىٌّ بِهِ أَنْ يُطِيعَ أوَامرَهُ، فَإِنْ شِئْنَا الدِّقَّةَ فَهُوَ الدُّكْتُور أحْمَد خَالِد تَوْفِيق الحَقِيقِى. أَحَسَّ العَرَّابُ أنَّ المَسْألَةَ أكبَرُ منْ تَبْدِيلِ الأمَاكِنِ فِى عوالِمَ مختلفَةٍ، بَلْ هُوَ صرَاعٌ عَلَى الهُوِيَّةِ، أَىُّ مَنْ فِيهِمْ الْحَقِيقِىُّ ومَنِ المُزَيَّفُ.
رَغْمَ طيبَةِ قَلْبِهِ، طالَتْهُ نيرَانُ الغَضَبِ، وهُوَ مَا ظهَرَ عَلَى عينَيْهِ الجَاحظَتَيْنِ، وقبضَةِ يدِهِ المضمومَةِ استعدادًا للقتال، لولَا أنَّ نُصْحَهُ الآخَرَ أنْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أخطَاءِ رِفْعَت إِسْمَاعِيل أمَامَ قِرينِهِ، فخُطَطُ القَتْلِ بالخَنْقِ والرمىِ بالرصَاصِ، والقَتْلِ مِنْ عَلٍ، أو حَتَّى بالسُّمِّ، لنْ تُجْدِىَ نفعًا. لَا سيمَا وأنَّهُ يَقْرَأُ أفكَارَهُ بمجرَّدِ النظَرِ إِلَى عينَيْهِ.
- لَا.. أنتَ مُجَرَّد شَخْص نصَّابْ.. وأنَا هَبَلَّغْ الشُّرْطَة.
قالَهَا الدُّكْتُور أحْمَد خَالِد تَوْفِيق محَاولًا تهدِيدَهُ، فرَدَّ الآخَرُ فِى ثبَاتٍ:
أظنُّ إنَّكْ محتَاجْ تِهْدَا يَا دُكْتُور.. تِفْتِكَرْ هيَصَدَّقُوك.. وحَتَّى لَوْ الشُّرطَةْ صَدَّقِتَكْ هتِعْمَلْ إِيهْ مَعَ الصَّحَافَة والتِّلِيفِزْيُون.. مَا أظُنِّشْ إنَّك هتِبْقَى مَبْسُوطْ بِخَبَرْ التَّشْكِيكْ فِى قُوَاك العقليَّةْ.. تقدَرْ تقُولْ لِى هَتِقْنِعْهُمْ إزَّاى؟ هتُطْلُب تحلِيلْ دِى إِنْ إيهْ مثلًا، هيِلَاقُوهْ مُتَطَابِقْ.. هتْأَكِّدْ لهُمْ إنَّكْ الشَّخْص اللِّى هُمَّ يِعْرَفُوهْ وهتِحْكِى لهُمْ عَنْ ذِكْرَيَاتِكْ معَاهُمْ، بسيطَةْ، سبَقَ وَقُلْت لَكْ إِنِّى أعْرَفْ كُلّ حَاجَةْ عَنَّكْ.. كُلّ وَاحِدْ فينَا يِعْرَفْ عَنْ التَّانِى اللِّى مَا حدِّشْ يِعْرَفُهْ غيرُه، دَا بِاستثنَاءْ رِفْعَت إسمَاعيل، طبعًا هُوَ أَكْتَرْ شَخْص يِعْرَفْ أحْمَد خَالِدْ تَوْفِيقْ.
لمَعَتْ عَيْنُ الآخَرِ، وكانَّهُ اكتشَفَ الْحَلَّ لِتَوِّهِ، ثُمَّ قَالَ: عِنْدِى فِكْرَةٌ.. إِيه رَأْيَكْ لَوْ خَلِّينَا الشَّخْصيَّةْ الرِّوَائيَّةْ هِىَّ اللِّى تقرَّرْ مَصِيرْ كَاتِبْهَا ولَوْ لِمرَّةْ وَاحدَةْ؟
- مِشْ فَاهِمْ؟
- أقُول لَكْ.. دَايمًا إِحْنَا اللِّى بِنْحَدِّدْ مَصِيرْ أَبْطَالْنَا، نِخْلَقْهُمْ عَلَى الوَرَقْ ونِصْنَعْ لهُمْ العالَمْ اللِّى إحنَا شَايفِينُهْ منَاسبْ لِيهُمْ، نكُونْ لهُمْ أسرَة.. أَوْ نِخَلِّيهمْ يِعِيشوا فِى وحدَةْ، ومُمْكِنْ كمَان نِقْتِلْهُمْ لَوْ حَابِّين.
- بَرْضُو مَفْهِمْتِشْ تقصُدْ إِيْه؟
- بِبسَاطَةْ.. إِيهْ رَأْيَكْ لو خَلِّينَا الحَلَّ فِى إيدْ رِفْعَت إِسْمَاعيل؟ وهُوَّ اللِّى يقَرَّرْ مينْ فِينَا يَسْتَحِقّ إنُّهُ يِفْضَلْ فِى العالَمْ الأَرْضِى، ومِينْ اللِّى يِرْحَلْ للعالَمْ الآخَرْ.
بدَا علَى العَرَّابِ استِحْسَانُه الفكرة، رغم أنْه يخَافُ رِفْعَت إِسْمَاعِيل وتَصَرُّفَاتِهِ الحمقَاءَ. قالَ الآخَرُ إنَّهُمَا سيتفقَانِ عَلَى موعِدٍ يذهبَانِ فيهِ إِلَى منزِلِ رِفْعَت، يَعْرِضَانِ علَيْهِ الأَمْرَ، ويطلبَانِ مِنْهُ أنْ يُقيمَ لهمَا منَاظرَةً، أىْ يَطْرَحُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أسئلَةً متعلقَةً بحيَاةِ أَحْمَد خَالِد تَوْفِيق، يستَطِيعُ مِنْ خلالِهَا أنْ يحَكُم بينَهُمَا.
استَنَدَ الدُّكْتُور أحْمَد خَالِد تَوْفِيق إِلَى سيَّارَتِهِ، صمت لدقائق، ثم سأَلَ عَنْ وسيلَةِ السَّفَرِ إِلَى العالَمِ الموَازِى. قالَ الآخَرُ إنَّهُ سيَتَدَبَّرُ الأمر َوَقْتَهَا. رَاحَ العَرَّابُ يُفَكِّرُ فِى عوَاقبِ قرَارِهِ، فإنْ رفَضَ لَا يدرِى مَاذَا سيفعَلُ ذلكَ المخبولُ فِى حيَاتِهِ، وإنْ قَبِلَ فَقَدْ يفقِدُ هُوِيَّتَهُ إِلَى الأبدِ. كمَا أنَّ هَزِيمَتَهُ فِى المنَاظرَةِ تعنِى خسَارَتَهُ لحيَاتِهِ فقَطْ، أمَّا رَفْضُهُ فقَدْ يُعَرِّضُ أبنَاءَهُ وزوجتَهُ للخَطَرِ. أيضًا تذَكَّرَ السَّاعَاتِ الَّتِى قضَاهَا يُعَانِى سَدَّةَ الكَاتِبِ، وَاحتيَاجَهُ لمغَامرَةٍ تَصْلُحُ أنْ تكُونَ عملًا أدبيًا. فتحَرَّكَتْ دَاخِلَهُ روحُ المغَامرَةِ، وأحَسَّ برغبَةٍ فِى كَشْفِ سرِّ القَادِمِ مِنْ عَالَمِهِ الموَازِى.
سأل العَرَّابُ عَنْ مَوْعِدِ المنَاظرَةِ، فقالَ الْآخَرُ: يُومِ التَّلَاتْ.. يَعْنِى بَعْدَ أُسْبُوعْ مِنْ دِلْوَقْتِى.
اتفَقَ الِاثنَانِ عَلَى أنْ يَلْتَقِيَا يَوْمَ الثلَاثَاءِ فِى نَفْسِ المكَانِ، لِيَذْهبَا معًا إِلَى رِفْعَت إِسْمَاعِيل وتعَاهدَا عَلَى ألَّا يذهَبَ أَحَدُهُمَا بمفرَدِهِ، ثمَّ انصَرَفَ كلٌّ منهمَا فِى طَرِيقِهِ. رَكِبَ أحْمَد خَالِد تَوْفِيق سيَّارتِهِ عَائدًا إِلَى منزِلِه، بينمَا رفَضَ الآخَرُ أنْ يَنْقِلَهُ إِلَى محلِّ إقَامتِهِ، قَائلًا إنَّهُ سيَتَدَبَّرُ أَمْرَهُ بنفسِهِ. ولكِنْ قَبْلَ أنْ يتحرَّكَ أحْمَد خَالِد تَوْفِيق، نظَرَ إِلَى الآخَرِ متسَائلًا:
- فِينْ ورقَةِ النَّتِيجَةْ؟
فأجَاب الْآخَرُ: خليهَا للمرَة الجَايَّة.
فِى الطَّرِيقِ بَقِىَ العَرَّابُ يُفَكِّرُ فِى ذِكْرِيَاتِهِ الَّتِى قَدْ يسْأَلُهُ عنهَا رِفْعَت إسمَاعيل، عَازمًا عَلَى أنْ يَسْتَعِينَ بذَاكرَةِ مَنْ عَرَفُوهُ. هُوَ يَعْرِفُ أنَّ مَصِيرَهُ الآنَ أصبَحَ فِى يدِ رجلٍ ثرثَارٍ لَا يَمَلُّ الكلَامَ عَنْ نفسِهِ، فعصَا مِكنسَةٍ صلعَاءَ تدخِّنُ كَبِرْلِينَ حِينَ دخَلَهَا الحلفَاءُ، هِىَ مَنْ ستُقَرِّرُ وجودَهُ أو فنَاءَهُ.