صناع الفيلم الوثائقى «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية» يتحدثون لـ«حرف» (1-2)
تستعد قناة «الوثائقية» لعرض الفيلم الوثائقى «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية»، من الإنتاج الوثائقى بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، قريبًا، حيث يوثق العمل رحلة المفكر المصرى الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيرى، منذ ميلاده فى ثلاثينيات القرن العشرين حتى وفاته عام 2008. ويتناول الفيلم أهم المحطات الفكرية فى حياة «المسيرى»، ويستعرض الفيلم 40 عامًا من حياة «المسيرى»، قضاها باحثًا ومنقبًا فى الجذور الصهيونية، ونشأتها، وتطوراتها، وأهدافها.
فى السطور التالية يكتب صناع الفيلم، لـ«حرف»، عن رحلتهم مع «المسيرى» من الفكرة إلى التنفيذ.
سيد خميس: أفكاره ما زالت سلاحًا لكل من يريد مواجهة المزاعم الصهيونية ودحضها
ما هو الفرق بين اليهودى والإسرائيلى والصهيونى؟
سؤال وُجه إلينا كطلبة فى الأسبوع الأول من الدراسة بقسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وطُلب منا إجراء بحث صغير عن المصطلحات الثلاثة لتطوير مداركنا البحثية، وبعد انتهاء المحاضرة ذهبنا متدافعين نحو مكتبة الكلية محاولين العثور عن مصادر نجد فيها ضالتنا، ووسط أرفف متراصة بالكثير من المراجع والمصادر وهدوء يستلزمه المكان الجلل، ظلت عينى تنقب بين العناوين الكثيرة على مؤلف أنجز به مهمتى، إلى أن وقعت على رف مرتفع يزدان بثمانية مجلدات معنونة بـ«اليهود واليهودية والصهيونية»، فلمع بريقها فرحًا بالعثور على منقذى لإنجاز هذا البحث. نعم إنها موسوعة الدكتور عبدالوهاب المسيرى، ومن هنا بدأت الرحلة مع مفكرنا المتبحر فى دراسة الحركة الصهيونية.
عثرت فى موسوعة الدكتور المسيرى على أجوبة شافية عن السؤال، لأبدأ فى صياغة بحثى الأول فى الكلية، ولكن شدنى جدًا أسلوب الموسوعة وترتيبها وبساطة الشرح والتحليل والتفسير وتفنيدها كل صغيرة وكبيرة عن اليهود وعن إسرائيل، هذا الكيان الذى كان يشعل المنطقة بسبب الانتفاضة الثانية للفلسطينيين، التى تزامنت مع اختيارى دراسة اللغة العبرية كمدخل للتخصص فى الإسرائيليات، وكانت الدافع الرئيس لكتابة قسم اللغة العبرية وآدابها فى استمارة رغبات تنسيق كلية الآداب.
أصبحت موسوعة الدكتور المسيرى هى الملجأ الأول لى فى كل بحث أُكلف به، فهى غنية بمعلومات عن كل تفصيلة تخص إسرائيل، ففى مادة تاريخ اليهود أجد فيها ضالتى، وفى مادة الفكر الدينى اليهودى أجد ضالتى، وفى مادة نظم الحركة الصهيونية أجدها أيضًا حاضرة بمادة وافرة، وفى مواد الأدب العبرى بمختلف عصوره «القديم والوسيط والحديث» أجد الموسوعة خير من يعطيك المعلومات الأولية كمدخل للدراسة، وكان السؤال الذى يقفز دائمًا فى مخيلتى، من هو هذا الرجل؟ وكيف ومتى أنجز هذه الموسوعة؟ ولماذا قرر أن يفنى عمره فى البحث والتنقيب عن هذا الموضوع؟
شغفى بمعرفة الدكتور المسيرى عن قرب دفعنى لقراءة كل مؤلفاته التى أتيحت أمامى، ولكن لم يكن ذلك كافيًا، فبداخلى رغبة قوية أن ألقاه وجهًا لوجه، فظللت أبحث عن كل نشاطاته وأوجد فى أى مكان يمكننى أن أراه فيه، إلى أن جاء معرض القاهرة الدولى للكتاب وعلمت أنه من ضمن الندوات التثقيفية التى ينظمها المعرض ندوة للدكتور المسيرى، فطرت فرحًا، وعزمت على ألا أبدد تلك الفرصة السانحة أمامى للجلوس أمام الرجل الذى يجيب من خلال مؤلفاته عن معظم أسئلة التخصص الذى أدرسه، ترقبت موعد الندوة، وفى اليوم المحدد لم يغمض لى جفن، وتأنقت فى ملابسى وذهبت للقائه، فوجدت رجلًا يملك كاريزما ورؤية تفسيرية وتحليلية حول أمور شتى، طريقته فى العرض وإيصال المعلومة لا يضاهيه فيهما أحد، غير متكلف فى ملابسه، متواضع لدرجة لا يمكن وصفها.
حرصت أن أكون فى الصفوف الأولى من المقاعد المجهزة لجمهور «ندوة المسيرى»، لعلى أتمكن من طرح سؤال وأتحدث معه، وبمجرد أن انتهت الندوة قفزت إلى جواره وعرفته أننى طالب فى قسم اللغة العبرية شغوف بدراسة الإسرائيليات ودائمًا ما أجد ضالتى فى مؤلفاته وعلى رأسها موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، وسألته سؤالًا؛ كثيرًا ما أثار حيرتى: كيف تسنى لك تأليف كل هذه الكتب عن اليهود والصهيونية وأنت لا تعرف العبرية، بل إنك فى الأساس أستاذ للأدب الإنجليزى؟ ابتسم الدكتور المسيرى ابتسامة غمرتنى بالمحبة وربت على كتفى وقال لى إنه بالفعل كان قد بدأ فى تعلم اللغة العبرية عام ١٩٧٢ مع بدايات تخصصه فى الصهيونية، لكنه لاحظ أن اللغة العبرية هى لغة الدولة الصهيونية، وأنها مهمة للغاية لدراسة التجمع الصهيونى من الداخل، أما هو فركز على أن يضع إسرائيل فى سياق الجماعات اليهودية فى العالم، وأن لغة غالبية يهود العالم هى الإنجليزية، وأنه احتاج فى دراسة تاريخ الجماعات اليهودية عبر التاريخ للغات أساسية هى الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليديشية فتوقف عن دراسة العبرية، ونصحنى أن أستمر فى دراسة اللغة العبرية. وقال لى، وعيناه تلمعان، ونظرات الحماس كانت كالسهام التى يرميها لتصيب عقلى: «أتعلم عبرى وأدرس المجتمع الصهيونى من الداخل فالقضية طويلة».
مات الدكتور المسيرى عام ٢٠٠٨، ولم يحالفنى الحظ أن ألقاه ثانية، لكنه لم يفارقنى بكتاباته ومؤلفاته الشاملة، وأصبحت خريجًا حديثًا، وبدأت العمل كصحفى متخصص فى الإسرائيليات، متمسكًا بما قاله لى الدكتور المسيرى بأن تكون اللغة العبرية مدخلى لفهم المجتمع الإسرائيلى من الداخل وتفنيد مزاعم الكيان الصهيونى الذى زُرع فى منطقتنا العربية، وأدركت أن المسيرى رسخ أن مواجهة إسرائيل فكريًا لا تقل عن مواجهتها عسكريًا.
توالت السنوات وأنا أحافظ على وصية الدكتور المسيرى بدراسة المجتمع الإسرائيلى من الداخل، والتحقت بالعمل بقطاع الإنتاج الوثائقى التابع لشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وإذ أفاجأ بتكليفى بإعداد فيلم وثائقى عن المسيرى وموسوعته الشهيرة، التى كانت أول مصدر فى بحثى الأول بالكلية، يا لها من مصادفة فى رحلتى مع المنقب الأول عن الصهيونية فى وطننا العربى، وانتابتنى الحيرة من أين أبدأ فهو رجل موسوعى شامل، فكره متمادٍ لأكثر من مجال، لكن سرعان ما تبددت حيرتى بسبب الصراع الدائر الآن فى قطاع غزة، فكل ما تحاول إسرائيل فعله من تمدد استيطانى وطرد للفلسطينيين تنبأ به الدكتور المسيرى وذكره تفصيليًا، فكانت هى نقطة البداية.
فى ظل تصعيد متجدد بين قوات الاحتلال الإسرائيلى والمقاومة الفلسطينية، كان الباعث الأول له، فى العقد الأخير، نمو الحركات الصهيونية الدينية، ممثلة فى أحزاب دينية يمينية متطرفة، وهنا يظهر جليًا الدور المصرى فى مساندة الأشقاء الفلسطينيين، ليس فقط عن طريق خوض حروب متتالية منذ بداية الصراع العربى- الإسرائيلى عام ١٩٤٨م، أو عن طريق الدعم السياسى والدبلوماسى للقضية، بل أيضًا على الصعيد الفكرى، فكان المفكر المصرى الدكتور عبدالوهاب المسيرى هو أول من تخصص فى دراسة الفكر الصهيونى عربيًا، متنبئًا منذ نهاية الستينيات بأن الفكر الصهيونى المتطرف هو الدستور الفكرى لسياسات الاحتلال الإسرائيلى، وقرر منذ اللحظات الأولى مقاومة هذا الفكر ومحاربته واصفًا إياه بأنه كـ«الحرباء» يتلون حسب المحيط الموجود فيه ويغير ديباجته حسب الظروف حتى يكتسب الشرعية. وظل الدكتور المسيرى طوال ٤٠ عامًا باحثًا ومنقبًا فى الجذور الصهيونية وتطورها إلى أن توج كتاباته عن هذه الحركة المتطرفة بمؤلفه الأهم فى هذا المجال وهو موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، التى صدرت فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى فى ثمانية أجزاء، ومنذ ذلك الحين وهى المصدر الأهم لكل باحث عربى أو سياسى مهتم بفهم الاحتلال الإسرائيلى، العدو الأول للعرب، وإدراك طرق تفكيره وأساليبه العدائية.
تطرق الفيلم الوثائقى «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية» الطفل عبدالوهاب المسيرى ونشأة الكيان الصهيونى فى الأربعينيات فى خطين متوازيين مرورًا بالعدوان الثلاثى على مصر عندما كان المسيرى طالبًا فى جامعة الإسكندرية ثم حرب يونيو ١٩٦٧ عندما كان المسيرى يدرس فى الولايات المتحدة لنيل درجة الماجستير وبداية شغفه بالحركة الصهيونية، إلى أن يتقاطعا فى السبعينيات عندما تخصص المسيرى فى الصهيونية عندما عمل بوحدة الدراسات الصهيونية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بتكليف من الأستاذ محمد حسنيين هيكل، وبعد أن حقق فيه الجيش المصرى انتصار السادس من أكتوبر المجيد عام ١٩٧٣، عكف المسيرى على مواجهة إسرائيل فكريًا وصولًا إلى نشر موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» فى التسعينيات، ثم اهتمامه بأدب الطفل، الذى أراد من خلاله الاهتمام بإنشاء جيل على درجة كبيرة من الوعى بجذوره وعدوه الأول.
ربما يكون هذا الفيلم الوثائقى دربًا فى رحلتى مع الدكتور المسيرى، ولكنه ليس بالتأكيد نهاية الرحلة، فما زالت القضية الفلسطينية حاضرة وما زالت أفكار المسيرى ورؤيته سلاحًا لكل من يريد مواجهة المزاعم الصهيونية ودحضها.