المشهد الأخير بين فرج فودة وابنه أعطاه عشرين جنيهًا وتنبأ بموته
«فرج فودة.. المفكر.. الإنسان.. الصديق».. كتاب جديد يوثق رحلة شهيد الفكر
ما أكثرها الأقلام التى كتبت عن فرج فودة، وما أقلها التى وثّقت رحلته كاملة عن قُرب، فكلنا نعرف ما كتبه وما قاله، وما عاش عليه ومات من أجله، لكننا لا نعرف مَن هو فرج فودة الإنسان؟.. من هو فرج فودة الصديق؟.. من هو فرج فودة الابن والأب والزوج؟.. هل كان مخلصًا فعلًا لكلمته؟ هل كان يشبه ما يقوله؟ للأسف نعم، كان الشهيد وطنيًا مخلصًا، محبًا لهذه الأرض، مؤمنًا بكل ما يقوله، باختصار.. كان استشهاده خسارة فادحة لنا.. فما أحوجنا هذه الأيام لرجال فِكر صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وفى كتابه «فرج فودة.. المفكر.. الإنسان.. الصديق»، يوثق الكاتب جمال صلاح الدين، رحلة شهيد الفكر بعين مختلفة، ورؤية جديدة، تجعلنا نكتشف لأول مرة الوجه الآخر لهذا الإنسان والصديق والمفكر، ضحية أهل الخسة والغدر والانحطاط.
يقول الكاتب جمال صلاح الدين فى مقدمة الكتاب، الصادر هذا العام عن دار «كنوز» للنشر والتوزيع: «تعود علاقتى بشهيد الرأى د. فرج فودة إلى شتاء عام ١٩٨٥ حتى استشهاده مساء يوم ٨ يونيو ١٩٩٢، وهو لم يبلغ الخمسين سنة من العمر، فهو من مواليد ٢٠ أغسطس ١٩٤٥، وقتها كنت شابًا صغيرًا متخرجًا فى كلية التجارة جامعة عين شمس، حدثنى صديق مشترك عن الرجل، كنت أسكن فى شبرا حيث مولدى وأحب المناطق إلى نفسى، وفى إحدى زيارات صديقى لفرج فودة حدثه عنى فطلب منه فرج أن يطلبنى فى التليفون، فطلبنى صديقى على التليفون الأرضى وهو جالس معه، وبدأنا فى الحديث، وجاءنى صوته قويًا مرحًا واثقًا».
وكان اللقاء الأول بين مؤلف الكتاب وفرج فودة فى مكتبه بمصر الجديدة بعد هذه المكالمة مباشرة، ويحكى المؤلف: «ركبت مترو الميرغنى حتى محطة كلية البنات كما وصف لى ووصلت إلى مكتبه وهو مجموعة فودة الاستشارية، واستقبلنى مرحبًا بشوشًا كعادته فى استقبال الأصدقاء، وجدته رجلًا مهيبًا فارغ الجسم يميل للسمنة ولكنه رشيق الحركة أصلع الرأس إلا قليلًا، وبه وسامة، وتبدو عليه علامات العيش الطيب والرضا مع أناقة ملحوظة فى الملبس، وسألنى عن أحوالى ودراستى... ثم تحدثنا عن أوهام الحكم بالإسلام وخلق جنات على الأرض والعودة لعصر الخلفاء الراشدين، وكيف أن هؤلاء الداعين الواهمين ابتعدوا عن صحيح الإسلام وتجاهلوا تجارب حكم المسلمين عبر مئات السنين، ورفضوا الاعتراف بمتغيرات الحياة كلها فى سبيل تحقيق أهدافهم فى الوصول للحكم على دماء وأشلاء المسلمين وغير المسلمين».
ومنذ هذه اللحظة، حدث الالتقاء الفكرى بين مؤلف الكتاب وفرج فودة ولم تنقطع صداقتهما. ويروى الكاتب تفاصيل جديدة لأول مرة عن كواليس الندوة الشهيرة ضمن فعاليات معرض القاهرة للكتاب سنة ١٩٩٢، وقال المؤلف إن فؤاد زكريا كان من المفترض أن ينضم إلى فرج فودة فى الندوة، لكنه اعتذر فى اللحظات الأخيرة.
ووثّق الكاتب المشهد الكامل لهذه الندوة، لنعرف جميعًا أن هذه الندوة كانت السبب الرئيس لاغتيال فرج فودة بعدها بخمسة أشهر: «تحددت المناظرة يوم ٢٧ يناير ١٩٩٢، وصباح ذلك اليوم ذهبت إلى معرض الكتاب وكان يعقد فى أرض المعارض بشارع صلاح سالم بمدينة نصر، اتجهت للقاعة الرئيسية وكلما اقتربت زادت كثافة الجمهور وعندما وصلت للقاعة رأيت مشهدًا مهولًا، عشرات الآلاف من الشباب خارج القاعة بعد أن امتلأت القاعة عن آخرها، حتى إن هيئة الكتاب وضعت سماعات كبيرة فى الشوارع المحيطة بالقاعة حتى يستطيع من خارج القاعة الاستماع لحديث المتناظرين».
ويضيف الكاتب: «ثم خرج من القاعة الأستاذ مأمون الهضيبى ملوحًا لأنصاره الذين اشتعلوا حماسة، وأشار لهم أن يجلسوا القرفصاء ففعلوا على الفور، وانتابنى الخوف ماذا يمكن أن يحدث لو ساد الهرج؟».
وبينما يتابع مؤلف الكتاب هذا المشهد، قال إنه لمح فرج ومعه بعض الأصدقاء قادمين فى اتجاه مدخل القاعة، وكان «فودة» فى حالة من النشاط والتفاؤل رغم برودة الجو. وقال إنه بادر المفكر الشهيد بسؤال: «إنت شايف الجماهير دى، إيه اللى ممكن يحصل؟»، فرد فودة ببساطة: «ما تخافش يا جمال، هنكسب، خد خلى الورق ده معاك».
وكان الورق مجموعة من قصاصات الجرائد القديمة، ويعترف المؤلف بأنه كان على وشك التخلص من هذه الأوراق ظنًا منه أنها غير مهمة، وقبل أن تبدأ المناظرة بثوان، سأله «فودة» عن الأوراق وقال له: «فين الورق»، فأجابه مؤلفنا: « ورق إيه»، فقال «فودة»: «الورق اللى هشتغل منه يا جمال أمال هتكلم إزاى».
وكانت هذه الأوراق فى غاية الأهمية، فهى أرشيف كامل لتصريحات صحفية قديمة، لمناظريه فى الندوة، وهم: الشيخ محمد الغزالى، والدكتور محمد عمارة، ومأمون الهضيبى، وتكشف هذه التصريحات عن تناقضاتهم واعترافاتهم التى ذموا فيها الدولة الدينية، إذ كانت هذه الأوراق الفخ الأكبر لهم فى هذه الندوة.
ويروى جمال صلاح الدين، مؤلف الكتاب، شهادة قبل اغتيال فودة: دخل ابنه عليه وطلب منه مالًا ليخرج مع أصدقائه فى روكسى، فأعطاه الأب عشرين جنيهًا، وتعجب الكاتب من هذا المشهد وسأل «فودة»: «ليه كل ده؟ الولد لسه صغير»، فرد: «خلى العيال تتدلع أنا مش عارف هعيشلهم قد إيه».
وكأن «فودة» بهذه الجملة كان يستشعر اقتراب أجله، وبعدها بأسابيع قليلة اغتالته يد الغدر، ففى مساء ٨ يونيو عام ٩٢، كان فودة يستعد للسفر إلى فرنسا، وغادر مكتبه بعد السادسة مساء، وكان معه ابنه أحمد وصديقه وحيد رأفت زكى، وكانت فى انتظاره موتوسيكل عليه بائع سمك عمره ٢٦ سنة اسمه عبدالشافى محمد أحمد رمضان، والآخر هو أشرف السيد إبراهيم وعمره ٢٩ سنة، ويعاونهما أبوالعلا محمد فى تجهيز السلاح والإيواء بعد تنفيذ العملية، وأطلق المجرمان وابلًا من الرصاص، وسقط فودة على الأرض وأصيب ابنه وصديقه، وانطلق المجرمان بالفرار وطاردهما سائق فودة.
وبعد تقاطع شارعى الطيران وخضر التونى التفت الإرهابى أشرف، وأطلق دفعة طلقات باتجاه السيارة، قاصدًا قتل السائق الذى نجح فى الاصطدام بالموتوسيكل، وانطلق الإرهابى لمطاردة سائق فرج فودة، الذى نزل من السيارة وهرب إلى مدخل إحدى العمارات، وفى الدور الثالث فتح له باب الشقة السفير فوزى بخيت وأجاره السفير الشجاع.
على الناحية الأخرى، كان فرج فودة يلتقط أنفاسه الأخيرة، وقال لصديقه وحيد رأفت: «اشهد يا وحيد، دمى ده عشان مصر»، وحاول الأطباء إنقاذه بشتى الطرق لكن النزيف كان كبيرًا فقد تلقى ١٤ طلقة وكان لأغلب الطلقات فتحتا دخول وخروج.
ووثق الكاتب جمال صلاح الدين مشاهد عديدة لما بعد خبر الاستشهاد والتفاصيل الكاملة للتحقيقات، وقراءة خاصة فى جميع كتب شهيد الكلمة والفكر والرأى، فهو كتاب يستحق أن يقرأ.. ليس مرة، بل أكثر من مرة.