معركة عمرها 4 قرون.. الحظـر على الطريقة الأمريكية
- الطعن فى 1128 كتابًا فى مكتبات أمريكا خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2024
- جمعية المكتبات الأمريكية:محاولات الرقابة تتجاوز بكثير ما قبل 2020.. وهناك حالات ناعمة
على عكس ما تعتقد، تشهد السنوات الأخيرة عددًا قياسيًا من محاولات حظر الكتب فى الولايات المتحدة الأمريكية، قلعة الحريات فى العالم، والغريب أن بعضها يأتى من جانب المواطنين أنفسهم للحفاظ على قيم المجتمع، لتجد فى النهاية أن أمريكا مجتمع محافظ بطبعه!
وعبر التاريخ تم منع الكتب أو الطعن فيها، وهو الأمر الذى يستمر حتى اليوم فى كل أنحاء العالم، وعملية الحظر قد تتم من خلال إزالة الكتب من المكتبات أو عدم السماح بنشرها من الأساس أو دخول البلاد أو محاولة إزالة المواد أو تقييدها، بناء على اعتراضات شخص أو مجموعة. وتتعدد أشكال عملية الحظر أو الرقابة على الكتب، حتى الشكل الأكثر تطرفًا وهو المطالبة بموت المؤلف، وعلى الرغم من أن الرقابة قديمة قِدم الكتابة، إلا أن أهدافها تغيرت على مر القرون.
وفى أمريكا يعود تاريخ منع الكتب إلى وقت طويل جدًا، والمعركة ضده طويلة جدًا أيضًا، منذ أن كانت بعض أراضى الدولة مستعمرات بريطانية.
ووفقًا لأحدث بيانات صادرة عن جمعية المكتبات الأمريكية لتوثيق محاولات فرض الرقابة على الكتب فى المكتبات العامة والمدرسية والأكاديمية خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالى، تم الطعن فى 1128 عنوانًا.
وأشارت البيانات إلى أن عدد المحاولات الموثقة لفرض رقابة على الكتب لا يزال يتجاوز بكثير الأرقام قبل عام 2020، بالإضافة إلى ذلك، هناك حالات للرقابة الناعمة، حيث يتم شراء الكتب، ولكن يتم وضعها فى مناطق لا يمكن الوصول إليها أو إخفاؤها، ما يحد من وصولها للقراء والطلاب.
وحسب الجمعية، فى بعض الظروف، يتم استبعاد الكتب بشكل استباقى من مجموعات المكتبة، أو إزالتها من الرفوف قبل حظرها، أو لم يتم شراؤها لمجموعات المكتبة من الأساس.
وفى عام 2023، أشارت بيانات الجمعية إلى وجود عدد قياسى من المحاولات لحظر الكتب يصل إلى 1247 محاولة لفرض رقابة، بزيادة 65% عن عام 2022، والذى كان فى حد ذاته عامًا قياسيًا، وهذه المحاولات ينظرون لها باعتبارها سابقة خطيرة، فهى تهدد مستقبل الديمقراطية الأمريكية والتعليم العام وحرية التعبير.
محتويات غير مقبولة
هناك العديد من المؤلفين الذين تم حظر أعمالهم من الفصول الدراسية فى المدارس الأمريكية على مر السنين، بسبب المحتوى الذى يتم اعتباره مثيرًا للجدل أو فاحشًا أو غير مقبول، ومنهم على سبيل المثال مارك توين، وهيريت ستو، ووليام شكسبير.
هذا إلى جانب جودى بلوم، وهى كاتبة متخصصة فى أدب الأطفال وروائية، والتى كانت أفضل مبيعاتها فى عام ١٩٧٠ كتاب «هل أنت هناك يا الله.. إنها أنا، مارجريت»، وهو الكتاب الذى تم التصدى له فى جميع مدارس الولايات المتحدة، لتصويره مرحلة البلوغ الأنثوى وعلاقتها بالدين.
وهو نفس السبب الذى جعل كتاب «يوميات فتاة صغيرة»، للكاتبة الألمانية آن فرانك، هدفًا للرقابة، فالمشكلة لم تكن فى تصويرها لفتاة يهودية شابة تتعرض عائلتها للاضطهاد من قبل ألمانيا النازية، وهى مذكراتها الشخصية، ولكن بسبب المقاطع التى تناقش فيها المراهقة جسدها المتغير.
محاولات مبكرة
التاريخ الطويل من الرقابة على الكتب فى أمريكا كانت معظم عملياته المبكرة بتحريض من الزعماء الدينيين، ومع الوقت الذى أسست فيه بريطانيا مستعمراتها فى أمريكا، حيث شهد عام ١٦٣٧ أول حظر للكتب فى الولايات المتحدة فى مدينة كوينسى، بولاية ماساتشوستس.
وذلك بعد أن نشر توماس مورتون كتابه «الإنجليزى الجديد كنعان»، والذى تم حظره لاحقًا من قبل الحكومة البيوريتانية، لأنه كان يعتبر نقدًا قاسيًا وهرطقيًا للعادات البيوريتانية وهياكل السلطة.
والبيوريتانية هو مذهب مسيحى بروتستانتى يجمع خليطًا من الأفكار الاجتماعية، والسياسية، واللاهوتية، والأخلاقية، وظهر فى إنجلترا فى عهد الملكة إليزابيث الأولى، وازدهر فى القرنين السادس والسابع عشر، ونادى بإلغاء اللباس والرتب الكهنوتية.
فى عام ١٦٥٠، نشر ويليام بينشون، كتاب «الثمن الجدير بالتقدير لفدائنا»، وهو كتيب كان يجادل أن أى شخص مطيع لله ويتبع التعاليم المسيحية على الأرض يمكنه دخول الجنة، وكان هذا يتعارض مع المعتقدات الكالفينية البروتستانتية القائلة بأن عددًا قليلًا فقط من الأشخاص هم الذين تم تعيينهم مسبقًا لخدمة الله.
وهو ما أدى إلى اعتباره مهرطقًا، وتم إحراق كتابه، وحظره، وهى الواقعة الأولى من نوعها فى الولايات المتحدة، ولم يتبق اليوم سوى أربع نسخ من منشوره المثير للجدل.
فضح العبودية
لم تتوقف عملية حرق الكتب عند الواقعة الأولى، فقد تم حرق كتاب هيريت ستو «كوخ العم توم» علنًا، الصادر عام ١٨٥١، وهى رواية تهدف إلى فضح شرور العبودية، وتم حظره بجانب كتب أخرى مناهضة للعبودية.
وحكم على الوزير الأسود سام جرين بالسجن لمدة ١٠ سنوات فى سجن ولاية ميريلاند لحيازته نسخة من الكتاب، وكان الكتاب قد صدر بحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، واعتبروه محفزًا للحرب الأهلية، فى وقت كانت عدة ولايات قد حظرت التعبير عن المشاعر المناهضة للعبودية.
جمعية مكافحة الرذيلة
فى عام ١٨٧٣، أصبحت الحرب ضد الكتب اتحادية مع إقرار قانون كومستوك، وهو قانون أصدره الكونجرس يجرم حيازة نصوص أو مقالات «فاحشة» أو «غير أخلاقية» أو إرسالها عبر البريد.
تم تصميم هذا القانون، الذى دافع عنه المناضل الأخلاقى أنتونى كومستوك، وهو مؤسس جمعية مكافحة الرذيلة، لحظر كل من المحتوى المتعلق بالجنس وتحديد النسل، والذى كان فى ذلك الوقت متاحًا على نطاق واسع من خلال الطلب عبر البريد.
وجرّم القانون أنشطة دعاة تحديد النسل، ومنع منشورات شعبية مثل كتاب تقييد الأسرة لمارجريت سانجر، وهى ناشطة وممرضة افتتحت أول عيادة لتحديد النسل فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو ما كان هدفه منع نشر المعرفة حول وسائل منع الحمل، فى وقت كان النقاش المفتوح حول الحياة الجنسية من المحرمات، وكانت وفيات الرضع والأمهات متفشية، وظل القانون سارى المفعول حتى عام ١٩٣٦.
وفى ذلك الوقت، كانت المواد التى تعتبر فاحشة هدفًا رئيسيًا فى مدينة بوسطن، وتحدى رقباء الكتب فى بوسطن كل ما اعتبروه «غير لائق»، من كتاب الشاعر الأمريكى والت ويتمان «أوراق العشب»، الذى وصفه رئيس الجمعية بأنه «غير لائق»، واعتبره قذارة أدبية، إلى رواية إرنست هيمنجواى «وداعًا للسلاح».
وقدمت إحدى المنظمات الخاصة، التى تضم نخبة من سكان بوسطن، التماسًا ضد المواد المطبوعة التى وجدتها غير مناسبة، ورفعت دعوى قضائية ضد بائعى الكتب، وضغطت على سلطات إنفاذ القانون والمحاكم، لتوجيه اتهامات بالفحش ضد المؤلفين.
ودفعت مكتبة بوسطن العامة إلى التحرك لتجميد نسخ من الكتب الأكثر إثارة للجدل، بما فى ذلك الكتب الروائية الفرنسية لكل من بلزاك وزولا، والاحتفاظ بها فى غرفة مغلقة تعرف باسم الجحيم.
وبحلول العشرينيات من القرن العشرين كانت بوسطن مشهورة بحظر الكتب، لدرجة أن المؤلفين طبعوا كتبهم عمدًا هناك، على أمل أن يمنحهم الحظر الحتمى دفعة دعائية فى أماكن أخرى من البلاد.
صراع أولياء الأمور
فى القرن العشرين، رغم تراجع الاهتمام بالأعراف الاجتماعية فى أمريكا، إلا أن المكتبات العامة والمدرسية تحولت هى الأخرى إلى ساحة قتال، وانتشرت معارك حول نوع المعلومات التى يجب أن تكون متاحة للأطفال فى هذا العصر من التقدم الاجتماعى وتحديث المجتمع الأمريكى.
وتصارع أولياء الأمور والإداريون حول الكتب الخيالية والواقعية خلال اجتماعات مجلس إدارة المدارس ولجنة المكتبات، وتنوعت أسباب الحظر المقترح، فقد تحدت بعض الكتب الروايات القديمة حول التاريخ الأمريكى أو الأعراف الاجتماعية؛ واعتبر البعض الآخر إشكاليًا بسبب لغته أو محتواه الجنسى أو السياسى.
وقامت منظمة بنات الكونفيدرالية المتحدة بعدة محاولات ناجحة لحظر الكتب المدرسية التى لم تقدم وجهة نظر متعاطفة مع خسارة الجنوب فى الحرب الأهلية، وكانت هناك أيضًا محاولات لحظر كتاب «حفل زفاف الأرانب»، وهو للأطفال صدر عام ١٩٥٤، من تأليف جارث ويليامز، فنان القصص المصورة، والذى يصور أرنبًا أبيض يتزوج من أرنب أسود، لأن المعارضين شعروا بأنه يشجع العلاقات بين الأعراق.
لكن فى المقابل حارب بعض أمناء المكتبات المدرسية والعامة محاولات حظر كتب مثل رواية مارك توين «مغامرات هاكليبرى فين»، التى تقدم نقدًا لاذعًا للمجتمع الأمريكى قبل الحرب الأهلية، وبعض توجهاته، خاصة التمييز العرقى.
بالإضافة إلى رواية «الحارس فى حقل الشوفان»، للكاتب الأمريكى جيروم ديفيد سالينجر، والتى كانت تعالج قضايا معقدة مثل الهوية والانتماء والخسارة والعلاقات والعزلة خلال مرحلة المراهقة، وأيضًا رواية الكاتبة الأمريكية هاربر لى «أن تقتل طائرًا بريئًا»، وحتى حكايات كانتربرى للشاعر الإنجليزى جيفرى تشوسر.
أسبوع الكتاب
لم تهدأ هذه المعارك بل تصاعدت بانتقالها إلى المحكمة العليا التى أقرت بأن المعلمين والطلاب لا يتنازلون عن حقوقهم الدستورية فى حرية التعبير عند بوابة المدرسة.
ففى عام ١٩٨٢، رفع طلاب دعوى قضائية ضد مجلس إدارة مدرسة فى نيويورك، لإزالة كتب لمؤلفين مثل كيرت فونيجوت، ولانجستون هيوز، والتى اعتبرها المجلس «معادية لأمريكا، ومعادية للمسيحية، وللمسيحيين».
وقضت المحكمة من جانبها بأنه لا يجوز لمجالس إدارات المدارس المحلية إزالة الكتب من المكتبات المدرسية، لمجرد أنها لا تعجبها الأفكار الواردة فى تلك الكتب، فالقراءة حق دستورى للطلاب.
ورغم ذلك الحكم، إلا أن أمناء المكتبات واجهوا العديد من التحديات المتعلقة بالكتب فى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، ما دفعهم إلى إطلاق «أسبوع الكتاب المحظور» عام ١٩٨٢، وهو حدث سنوى يتمحور حول حرية القراءة.
وخلال أسبوع الكتاب المحظور يقوم المجتمع الأدبى والمكتبى برفع مستوى الوعى حول الكتب التى تواجه تحديات شائعة، مع التأكيد على الحق الدستورى فى حرية القراءة، والبحث عن الأفكار والتعبير عنها.
وعادة ما يعقد هذا الحدث السنوى خلال الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر، وجاء أسبوع الكتاب المحظور فى ٢٠٢٤ فى الفترة من ٢٢ إلى ٢٨ سبتمبر الماضى، تحت شعار «تحرر بين السطور»، ليؤكد أن حظر الكتب لا يمنع فقط الوصول إلى القصص، بل يقوض حقوق معرفة الأفكار الجديدة ووجهات النظر المختلفة.
وحسب جمعية المكتبات الأمريكية، عام ٢٠١٩، طالب الناس بإزالة رواية «حكاية الخادمة»، لمارجريت أتوود، من رفوف المكتبات العامة، حيث اعترض أصحاب الشكوى على الألفاظ النابية والابتذال والإيحاءات الجنسية فى النص.
ونُشرت الرواية عام ١٩٨٥، والتى كانت تصور الثيوقراطية المسيحية المستقبلية فى النصف الجنوبى من أمريكا الشمالية، وتناقش الاستعباد الذكورى للمرأة فى ظل المجتمعات الأبوية.
وفى نفس العام، أيضًا، طالب الناس برفع سلسلة «هارى بوتر» من المكتبات العامة، بسبب الاعتراض على تصوير السحر والشعوذة واللعنات والتعاويذ فى النص، بجانب استخدام الشخصيات للوسائل المرفوضة وغير الأخلاقية لتحقيق أهدافهم.
الأكثر تحديًا
مع ذلك، وفقًا لمنظمة «بين أمريكا» لحماية حرية التعبير، ففى خلال الفترة بين ١ يوليو ٢٠٢١ و٣١ مارس ٢٠٢٢ فقط، كان هناك ١٥٨٦ حظرًا للكتب فى ٨٦ منطقة تعليمية، عبر ٢٦ ولاية أمريكية، ما أثر على أكثر من مليونى طالب.
وأشارت المنظمة إلى أن القصص التى تعرض قضايا المثليين أو أبطالها كانت هدفًا رئيسيًا للحظر، بينما تضمنت الأهداف الأخرى كتابًا يحتوى على قصص حول العرق والعنصرية والمحتوى الجنسى أو الاعتداء الجنسى والموت والحزن.
وقادت ولاية تكساس الحملة ضد هذه النوعية من الكتب، حيث كان حظرها البالغ ٧١٣ يقترب من ضعف ما يقرب من الحظر الذى قامت به الولايات الأخرى فى أمريكا.
وحسب جمعية المكتبات الأمريكية، كان الكتاب الأكثر تحديًا لعام ٢٠٢٣ هو كتاب مايا كوبابى «جندر كوير: سيرة ذاتية»، وهو عبارة عن مذكرات حول معنى أن تكون مثليًا جنسيًا.
وتشمل الكتب الأخرى فى القائمة الأكثر تحديًا كتاب «العين الأشد زرقة» للروائية تونى موريسون، وهى رواية تتناول فكرة العنصرية القاسية فى أمريكا، لكنها تصور الاعتداء الجنسى على الأطفال.
بجانب كتاب «مزايا أن تكون خجولًا» للروائى ستيفن شبوسكى، وهو عبارة عن رواية تصف مختلف تجارب الحياة من خلال سلسلة من الرسائل لشخص مجهول، وتحتوى على تصوير للاعتداء الجنسى وتعاطى المخدرات وألفاظ نابية.
ووفقًا للجمعية، فإن الأصوات والتجارب الحياتية للأفراد من مجتمع المثليين والأقليات كالسود والسكان الأصليين والملونين تشكل ٤٧٪ من المستهدفين فى محاولات الرقابة.
ومن الأمثلة على ذلك، كتاب «كل الأولاد ليسوا أزرق»، وهو بيان مذكرات واقعى للشباب البالغين للصحفى والناشط جورج إم جونسون، ويتكون من سلسلة من المقالات التى تتبع رحلة جونسون التى نشأ فيها كرجل أسود مثلى الجنس.
وأيضًا كتاب جونو داوسون «هذا الكتاب هو جاى»، بسبب محتواه الخاص بالمثليين ومواد التثقيف الجنسى، ورواية «فلامير»، وهى مصورة، شبه سيرة ذاتية، كتبها مايك كوراتو، وتتحدث عن حياة الرجال المثليين.
بجانب كتاب «أنا وإيرل والفتاة المحتضرة»، وهو رواية من تأليف جيسى أندروز، وتم حظره بسبب كونه جنسيًا بشكل صريح ومهينًا للمرأة، بالإضافة إلى رواية «الخدع» من تأليف إيلين هوبكينز، والتى تحكى روايات متقاربة لخمسة أبطال مراهقين مضطربين، وتعالج قضايا النشاط الجنسى وتعاطى المخدرات، وبها محتوى عن المثليين.
وأيضًا كتاب «دعونا نتحدث عنها: دليل المراهق للجنس والعلاقات وكونه إنسانًا»، وهى رواية مصورة كتبها ورسمها إريكا موين وماثيو نولان، وهى عبارة عن دليل مصور للتربية الجنسية موجه للمراهقين، وتم حظرها بسبب المحتوى الجنسى الصريح.
وهو نفس الموقف بالنسبة لرواية «تباع» من تأليف باتريسيا ماكورميك، والتى تحكى قصة فتاة من نيبال تدعى لاكشمى، تباع فى العبودية الجنسية فى الهند.