صانع الوهم.. كيف كتب جورج أورويل «1984» بدافع من شعوره بالفشل؟
- حوّل كل مفردات العالم إلى أدوات لقمع الروح الإنسانية
- آمن بأن حياة الإنسان عامة سلسلة متتالية من الإخفاقات
- خلق عالمًا وهميًا تتم فيه مراقبة الناس جسديًا واجتماعيًا وعاطفيًا وفكريًا
هناك كتاب عظماء تركوا لنا قصصًا لا تُنسى، لكن منجزهم الأكبر لا يكمن فى الحكاية بل فى صياغة أفكار ورؤى فلسفية مهمة وفريدة، وهذه الأفكار حولت أسماء مبتكريها إلى مصطلحات قائمة بذاتها تعبر عنهم، كأن نقول مثلًا «كافكاوى» كناية عن الكاتب التشيكى فرانس كافكا، وأن نقول: «أورويلى»، كناية عن الكاتب الإنجليزى جورج أورويل.
واتساقًا مع تلك الرؤية، يصف الناس الشخص الذى يتصرف ويتعامل ببعض المكر أو الغدر لتحقيق مآربه فى الحياة بأنه «ميكافيلى»، نسبة لتلك النصائح التى ذكرها الفيلسوف والسياسى نيكولو ميكافيلى فى كتابه «الأمير».
كذلك يصف الناس الإنسان الذى يهتم بتحقيق مصالح الآخرين على مصالحه الشخصية بأنه «دونكيخوتى»، نسبة إلى رواية «دونكيخوته» التى كتبها الإسبانى ميجيل دى ثربانتس، والتى تتحدث عن الشاب الذى يبذل قصارى جهده ليكون فارسًا جوالًا.
لكن فرانز كافكا وجورج أورويل تحديدًا قدما خريطة ورؤية اتبعتها قطاعات عريضة من القراء واليشر العاديين، ربما لأنهم تنبأوا فى أعمالهما بتفاصيل دقيقة ستحدث فى المستقبل، لدرجة أن أعمالهما تضمنت أحداثًا يستخدم فيها الأبطال أجهزة أو برامج شبيهة بعمل برامج حالية مثل «تويتر» و«زووم».
ورغم مرور قرن من الزمان على وفاة «كافكا»، وأكثر من ٧٥ عامًا على نشر رواية «١٩٨٤» لـ«أورويل»، ما زالت الأحداث والمصطلحات التى أورداها فى تلك الأعمال حاضرة بشكل أو بآخر لدى القراء ويرونها تتجسد فى واقعهم.
ولكى لا يحدث خلط بين أفكار الكاتبين، قدم الخبيران كارولين دوتلينجر المديرة المشاركة لمركز أبحاث «كافكا» فى أكسفورد، وديفيد جيه تايلور، مؤلف وكاتب سيرة «أورويل»، عدة توضيحات فى ما يخص التصورات التى طرحها كل منهما.
ابتكار الشمولية
قالت «دوتلينجر»: «عند سؤالى هل يشعر الشخص الذى يمكن وصفه بالكافكاوى بعدم الراحة والاطمئنان، أود أن تكون إجابتى بنعم. خاصة فى الشعور بأن هناك مؤسسات غير مرئية تتعقبك وتضطهدك.. لكننى أعتقد أيضًا أن أفكار كافكا تحتوى على رؤى أكثر سريالية وهجائية بعض الشىء، وأنه من المضحكات المبكيات الإحساس الدائم بعبثية الحياة اليومية التى نعيشها.. بالنسبة لى، من العار أن يعتقد الناس أن كافكا لم يكتب إلا الرؤى السوداوية، لأنه بذلك قد لا ترى المناطق والرؤى الأخرى التى قدمها».
وأكملت: «على الرغم من أن روح الدعابة لديه ربما تكون مكتسبة، إلا أنها موجودة بالتأكيد فى القصة السخيفة للرجل الذى يحاول فهم موقف غير مفهوم تمامًا.. وهذا ممتع للغاية».
أما بالنسبة لـ«أورويل» فرأى «تايلور» أن «الأورويلية» مجموعة من الرؤى المفتوحة على آفاق أوسع، ويمكن تأويلها بطرق شتى، قائلا: «نرى أورويل موجودًا حولنا فى كل مكان فى عالمنا هذه الأيام، لدرجة أن كلمة (أورويلى) يمكن أن تطلق على أى شخص ضد أى سلطة».
وقال: «المعنى الدقيق الذى سأقدمه هنا أن (أورويل) يجعل العالم يتسع للمؤسسات الموجودة أو للطبيعة ككل، حيث يبدو الوجود فى أعماله وكأنه أداة لقمع أى نوع من الروح الفردية بشكل روتينى من قبل سلطة يقظة ترى كل شىء».
وهذا يعنى أننا عندما نذكر مصطلح «الأورويلية»؛ فإننا لا نستحضر جميع أعمال «أورويل»، بل كتابين على وجه الخصوص، الأول الرواية الساخرة المناهضة للطوباوية «مزرعة الحيوانات» التى نُشرت عام ١٩٤٥، والرواية الكئيبة المريرة «١٩٨٤» الصادرة عام ١٩٤٩.
دعونا ننظر إلى «١٩٨٤»، ذلك التحذير من الشمولية الذى أثار إعجاب القراء بشدة لدرجة أنه أصبح جزءًا من المخيلة الثقافية للعالم، تلك المخيلة التى لم تستطع الكتب والمؤلفات الأخرى دخولها، فضلًا عن الاستقرار بها.
ومصطلح «الأورويلى»، الذى ظهر فى عالم رواية «١٩٨٤»، يدور حول إنكار الحقيقة الموضوعية، وقمع الحرية الفردية من خلال التلاعب باللغة، واستخدام التكنولوجيا فى التضييق والحد من حرية الفرد.
أما فى حالة «كافكا»، فدعونا نفتح روايته «المحاكمة» التى نُشرت بعد وفاته عام ١٩٢٥، فهى تحتوى على جوهر ما هو «كافكاوى»، وأصبح مرادفًا للقلق والشعور بالغربة فى العصر الحديث، ولنضال الإنسان العادى ضد سلطة غير عقلانية وغير متوقعة.
«المحاكمة» تروى قصة رجل يدعى «جوزيف ك»، يعيش فى براغ، ويتم القبض عليه ومحاكمته بجريمة مجهولة فى نظام قانونى سخيف وكابوسى.
بينما تدور أحداث «١٩٨٤» فى المستقبل فى أوقيانوسيا، وهى دولة شمولية عملت على غسل أدمغة السكان ودفعهم إلى الطاعة غير المعقولة للأخ الأكبر وهو زعيمها، وتتبع الرواية حكاية البطل ونستون سميث وهو يحاول التمرد سرًا ضد النظام القمعى الذى يرى كل شىء.
من الواضح أننا لا ينبغى لنا أن نفترض أن الشخصية الرئيسية فى الرواية، ونستون سميث، تشبه بأى حال من الأحوال مؤلفها جورج أورويل. ولكن هل هناك أى شىء فى «أورويل» نفسه يمكن أن يساعدنا فى فهم رؤيته الأورويلية؟.
كان «أورويل» يؤمن بشدة بمفهوم الفشل، وبفشله الشخصى، وبفشل أولئك الذين تجرأوا على التشكيك فى الدولة أو تقديسها، وهذا هو السبب وراء كل رواياته، حتى رواياته الواقعية فى الثلاثينيات.
ويستطرد «تايلور» فى مسيرة الكاتبين، قائلا «كلاهما لديه البطل الذى يتمرد على النظام، ولفترة من الوقت، يمتص النظام القليل من تلك الثورات، ثم يبدأ فى سحقها، ففى (١٩٨٤) خضع ونستون سميث ببساطة للنظام».
ما يريد «أورويل» إظهاره هو العبث المطلق فى التفكير بأنه يمكنك تحقيق أى شىء. وأعتقد أن القارئ يعرف منذ البداية أن هذا تمرد محكوم عليه بالفشل.
شهوة السيطرة
كما يحدث دائمًا فى روايات «أورويل»، كان هناك القليل من الأحداث الواقعية ربما وقعت داخل رواية ١٩٨٤، ولكنك فى الأساس وفى نهاية الأمر تعود إلى حيث كنت، تقريبًا إلى النقطة التى انطلقت منها و«كأن شيئًا لم يكن».
ولذلك، نرى أن هذه الرؤية لا تنفصل عن السيرة الذاتية لـ«أورويل»، فهى تتماشى مع رؤيته لنفسه، وقد كتب ذات مرة عبارة ساخرة محبطة للغاية، قائلًا: «إن حياة الإنسان بشكل عام هى سلسلة متتالية من الإخفاقات، وأن الصغار جدًا أو الحمقى فقط هم الذين يعتقدون خلاف ذلك».
لذلك أعتقد أن سيكولوجية «أورويل» تجاه الدول الشمولية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا برؤيته الشخصية لنفسه، على الرغم من نجاحه الكبير ليس فقط فى الأدب، فعندما كان يعمل فى هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تم الترحيب به باعتباره شخصًا مبدعًا ومحبوبًا للغاية، ولكنه استقال وعاد للكتابة.
وفى الأوراق الرسمية التى كتبها قبل رحيله عن المؤسسة، كتب رئيسه: «من المستحيل التقليل من قوة شخصيته أو إنجازاته، فهو يتمتع بكرامة وأخلاق لا مثيل لهما. وذوقه الأدبى والفنى معصوم من الخطأ.. إنه يغادر بناء على طلبه، وهو ما يأسف عليه القسم بأكمله».
وبعد ثلاثة أشهر من تركه للعمل كان قد أنهى المسودة الأولى لرواية «مزرعة الحيوانات».
إذا تحدثنا عن كافكا، فهل هناك شىء منه فى «جوزيف ك»، بطل رواية «المحاكمة» الحائر؟
إذا حكمنا من خلال بعض الرسائل التى كتبها إلى خطيبته فيليس باور، فإن نظرته لنفسه لم تكن سعيدة للغاية، فقد وصف نفسه بأنه «سريع الانفعال، حزين، قليل الكلام، غير راض، مريض».
هل كان قاسيًا جدًا على نفسه؟ تجيب «دوتلينجر»: «هذه الرسائل مثيرة للاهتمام للغاية، لكنها ليست أدلة موثوقة.. إذا قرأتها جميعًا، سترى أنه ينتقل من تقدير نفسه- كونه حقًا رجلًا جذابًا للغاية، بمعنى أنه يستمع إليها، ويهتم بها، ويشجعها فى أنشطتها المختلفة- إلى أن يقرر أنها ليس الشخص المناسب له. لكن بدلًا من فسخ الخطوبة، بدأ برسم نفسه فى هذه المساحة بشكل لا يصدق».
كتب «كافكا» أعماله خلال الأيام الأخيرة من إمبراطورية هابسبورج، بصفته وكيل تأمين غارق فى بيروقراطية كبيرة وجزءا من عائلة ثرية نسبيًا، مع أب مستبد، وكان والداه يعملان باجتهاد لا يصدق، ونشأ والده فى فقر مدقع فى بلدة عشوائية، وشقوا طريقهم مع والدته. لقد انتقلا خمس أو ست مرات من سكنهما فى السنوات الأولى من حياة «كافكا»، حتى أصبح لهما متجرهما الخاص فى براغ، حيث كانا يعملان ستة أيام فى الأسبوع.
تقول «دوتلينجر»: «لم يقضيا أوقاتًا كبيرة فى المنزل أبدًا تقريبًا، وهذه الروح المجهدة هى التى يجسدها كافكا إلى حد كبير والتى تظهر أيضًا فى شخصيته، (جوزيف ك)، من المثير للاهتمام أننا تحدثنا عن الفشل فيما يتعلق بـ(أورويل)، لأننى أعتقد أن كافكا، بشكل ما، مهووس بفكرة النجاح».
و«جوزيف ك» شاب صاعد ليس فى القمة، لكنه يحاول أن يعيش مستريحًا ضمن الطبقة الوسطى ويحب استخدام قوته، فهو يجعل أن يرى عملاءه ينتظرون فى الردهة، ويستخدم ألاعيب السلطة فى التعامل بها مع رئيسه المباشر.
وإلى حد كبير تبدو «المحاكمة» رواية عن علم النفس الحديث، وربما هى رواية ذكورية لكنها تنافس وتسعى للحصول على المكانة.
والآن حانت لحظة الكشف عن الحقيقة بالنسبة للخبيرين: فما رأيهما فى المصطلحين «الكافكاوية» و«الأورويلية»؟ تعترف «دوتلينجر» قائلة: «أنا لا أستخدم عادةً أيًا منهما»، ومع ذلك، فهو يجد أنه من المثير للاهتمام أن يفعل الناس ذلك، مضيفة: «من الواضح أنها وسيلة جيدة لتوصيل أفكار معينة أو تجربة معينة بإيجاز، وبهذا المعنى فهى مفيدة للغاية».
فى حالة «أورويل»، يشير «تايلور» إلى أن المصطلح يُستخدم كثيرًا نظرًا لانتشار عبارات من الرواية على نطاق واسع، لدينا برامج تليفزيونية عن الغرفة ١٠١ والأخ الأكبر، وهناك وعى جماعى بها يتجاوز أى عمل آخر له. فهو عمل مؤثر أكثر من أى عمل سبقه.
وهناك مجتمعات كاملة تعرف «أورويل» بشكل مباشر، وإذا ذكرت اسمه فغالبًا ستجد شخصًا ذا تعليم متوسط يعرفه ويعرف اسمه. حتى دون أن يقرأ له كتابًا.
أما «دوتلينجر»، فتقول: «الشىء الآخر الذى جعل كافكا ناجحًا للغاية هو البساطة المذهلة فى أسلوبه، والوضوح الكبير الذى يكتب به».
وهذا النوع من النثر المباشر الذى ينقل الرسالة بأكثر الطرق شفافية، يرتبط أيضًا بـ«أورويل».
وفى النظام «الكافكاوى»، لا يمكن الوصول إلى الحقيقة التى تخضع لحراسة مشددة، بل يتم وضع عقبات متعددة لمنع الوصول إلى الحقائق. ويمكن للشخصية الكافكاوية أن تقضى حياتها بأكملها منخرطة فى مهام عديمة الفائدة يجب عليها إكمالها لتحقيق هدف غير محدد، فالمؤسسات «الكافكاوية» لا تتمتع بالكفاءة وهى تعمل بشكل هزلى لدرجة أنها تبدو خيالية.
وفى المجتمع «الأورويلى»، يتم التلاعب بالحقيقة من أجل السلطة. وتتم مراقبة الشخصية «الأورويلية» باستمرار، جسديًا واجتماعيًا وعاطفيًا وفكريًا، إن الأنظمة الأورويلية هى كيانات قوية وغير مرئية تفرض سيطرة صارمة وتعمل على تزييف الواقع، وتحول الإرادة الحرة إلى وهم. وهكذا فإن القائد رغم أنه يرتكب كوارث فإنه محبوب.