السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خطة سحب القداسة من مصر 2.. وحد القطرين ثم صلى فى الوادى المقدس طوى

الوادى المقدس طوى
الوادى المقدس طوى

من المؤكد والمحسوم تاريخيًا أن الملك نعرمر، أو مينا، هو موحد القطرين الذى أوجد الدولة المصرية الموحدة، مُنشئًا مفهومًا وطنيًا جديدًا لماهية هذه البلاد، والذى ما زال أثره باقيًا حتى اللحظة، متجليًا بشكل خاص فى رفض المصريين أى دعوات انفصالية، تحت عناوين دينية أو عرقية، ورفضهم المساس ولو بحبة رمل واحدة من أرضهم، أيًا كانت طريقة المساس اعتداءً أو احتلالًا أو تهجيرًا.

غير أن البعض يقف بالملك مينا عند هذا العمل التاريخى الأعظم، دون أن يدركوا، أو يغيبوا، حقيقة أن الأعظم ما كان ليصل إلى قمته ويستمر بها دون أعمال عظيمة أخرى مهدت وأكملت وحافظت وتقدمت وراكمت هذا العمل حتى لحظتنا هذه، ومنها أنه استعاد سيطرة الدولة المصرية على سيناء، حيث قام هو وخلفاؤه العظام من ملوك الأسرة الأولى «حوالى ٣١٥٠ - ٢٨٩٠ ق.م» بالعديد من الحملات التطهيرية والتأديبية ضد الهمج الذين اعتدوا وعاودوا الاعتداء على الأطراف والأراضى الحدودية، وكانت حملات ناجحة أعادت سيناء إلى الوادى، تحقيقًا لقاعدة الانسجام فى الأرض التى عمل عليها حكام الأسرة الأولى، ما حوّل مصر من دولة زراعية بحتة إلى دولة حضارية متقدمة متعددة المصادر والموارد، ومنها مناجم المعادن والأحجار الكريمة وخاصة مناجم الفيروز فى سيناء.

وعلى ذلك ومن أجل ذلك أريد أن أستعيد التعريف الحقيقى للملك مينا وخلفائه، وهو أنه موحد الوجهين القبلى والبحرى ومستعيد سيناء، نعم مستعيد سيناء وهى الاستعادة التى احتفى بها نارمر فى صلاية نارمر التى يظهر فيها وهو يصلى فى الوادى المقدس طوى.

أنا مضطر مرة أخرى للتأكيد على أن الملك مينا هو موحد القطرين، لأنى أعرف من يحترفون التشويش على أى فكرة رئيسية بافتعال قضايا أخرى تبتعد عن الفكرة المركز وتخرجها من سياقها.

كما أن أولئك يحترفون خدعة الإحالة، فقبل أن يكملوا هذه الكلمات، سيسارعوا إلى لصقها بنظرية أن مينا هو النبى موسى، وأقول من البداية إننى لست مؤمنًا بهذه النظرية، ولا بغيرها من النظريات والتفسيرات المشابهة، مثل أن الملك رمسيس هو فرعون موسى، ناهيك عما هو معروف من أن أجدادنا من المصريين القدماء ليسوا فراعنة، وناهيك عن أن استخدام مصطلح «الفرعونية» هو جريمة متعددة التفاصيل، مثل تفصيلة نطق «أوزيريس» بدلًا من نطق اسمه المصرى «أوزير».

هكذا أقول لك من البداية إننى مؤمن تمامًا بما أوردته الكتب المقدسة الثلاثة عن قصة التجلى والتكلم، ومؤمن بالحقيقة المتواترة شفاهة ثم كتابة عبر آلاف السنين بين الشعوب، وهى أنها حدثت بأرض سيناء، حيث الوادى المقدس طوى.

أما إذا كنت لا تؤمن بالكتب المقدسة، أو لا تؤمن بالتفسيرات الخاصة بقصصها، أو لا تؤمن بالاثنتين معًا، وتؤمن بالدراسات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية وغيرها من الدراسات التى تعنى بالمجتمعات الإنسانية، فأنا أحيلك لما تعرفه ولا تعرفه من مئات الآلاف من الكتب والدراسات بكل اللغات الحية وغير الحية، التى تؤكد ما تواتر شفاهة ثم كتابة بين الشعوب، من أن قصة التجلى والتكلم حدثت فى سيناء، حيث الوادى المقدس طوى.

أما إذا كان الأمر كما هو واضح يتعلق بتحقيق نتيجة وجعلها أمرًا واقعًا، ولو على حساب تغيير المستقر جغرافيًا وتاريخيًا، والمتواتر شفاهة وكتابة بين الشعوب عبر آلاف السنين، وهو اقتطاع الوادى المقدس طوى من سيناء ومصر، ونقله إلى مكان آخر فى إفريقيا أو أوروبا أو فى آسيا الشقيقة، فنحن أمام خطة سحب القداسة من مصر، ولا أزيد الآن على ذلك.

نعود إلى مقصدنا، ونذكر أنه من الثابت أن الملك مينا عاش ومات قبل ثلاثة آلاف عام من الميلاد، أى قبل مئات السنوات من بناء الأهرامات التى بنيت فى الأسرة الرابعة ما بين ٢٦٠٠ و ٢٥٠٠ قبل الميلاد. والمعروف أن اليهود لجأوا إلى مصر بعد بناء الأهرامات بمئات أخرى من السنوات، وعلى ذلك لم يكن فى عهد الملك مينا ما يسمى اليهود بمصر، وعلى ذلك أيضًا فزيارة الملك للوادى المقدس، حدثت قبل مئات السنين من قصة تكلم رب العزة مع النبى موسى.

إذن كان المصريون، ولسبب ما، يعرفون قداسة الوادى المقدس طوى، بل كانوا يحجون إليه ويصلون فيه، وهذا ما فعله الملك مينا كما يؤكد أحد التفسيرات للوحة نارمر، التى تقول إن اللوحة تسجل انتصار الملك وهو يخضع الأسرى الذين انتصر عليهم فى معاركه لتطهير سيناء من المعتدين، خاصة أن منظر الأسرى وملابسهم يدلان على أنهم من أمة أخرى غير الأمة المصرية.

والملاحظ فى المشهد أن الملك كان حافى القدمين، ويظهر خلفه أحد خدمه وهو يحمل نعليه، أى أن الملك خلع نعليه، لأنه فى مكان يعرف قداسته، ومن مظاهر احترام القداسة خلع النعلين، وهو ما يعنى أن الملك كان بالوادى المقدس طوى.

هل هذا يتعارض مع ما نعرفه عن تجلى وتكلم رب العزة مع كليمه النبى موسى عليه السلام؟ لا يوجد تعارض على الإطلاق، فرب العزة هو الذى أعلم سيدنا موسى بقداسة المكان، أى أن النبى لم يكن يعلم بقداسة المكان الذى هو فيه، لولا أن أخبره رب العزة: «فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى»، أى أن القداسة ثابتة للمكان قبل دخول النبى موسى إلى المكان، وإن القداسة ارتفعت لأعلى مراتبها بالتجلى والتكلم الإلهى. 

وما يؤكد التفسير السابق أن هناك أماكن مقدسة كثيرة كانت سابقة القداسة قبل أن يحدث بها ما يزيدها قداسة، فمكان بيت الله الحرام ثابت القداسة قبل أن يتلقى سيدنا إبراهيم الأمر الإلهى برفع القواعد، أى أن رفع القواعد كشف عن القداسة ولم ينشئها، إنما ارتفعت القداسة برفع القواعد وجعل أفئدة الناس تهوى إليه، وكذلك فإن قداسة المسجد الأقصى وبركة ما حوله، ثابتة من قبل أن يصبح أولى القبلتين.

لكن لماذا يتم تغييب التفسير القائل بأن الملك مينا حارب المعتدين على أرض سيناء، وطهرها منهم، واحتفى بانتصاره عليهم؟ لأمور كثيرة لكن أهمها هو تغييب حقيقة أن الملك مينا زار الوادى المقدس طوى وخلع نعليه وصلى فيه، شاكرًا ربه على تحقيق انتصاره، وعندما يتم تغييب ذلك يسهل نفى القداسة الدهرية والزمنية والتاريخية عن وادى طوى الذى بسيناء، مع نقل القداسة إلى واد آخر فى مكان آخر.

والأمر لم يقتصر على ذلك، بل امتد لمحاربة من يتبنون أو حتى يشيرون إلى هذا التفسير الذى يعنى أن قداسة الوادى معروفة حتى قبل تأكيد الكتب المقدسة عليها، بمثل ما هوجم وحورب الراحل الكبير د. سيد القمنى، الذى دلل كثيرًا على تلك الحقيقة، فهوجم بشتى الطرق لدرجة اتهامه بإنكار أن الملك مينا وحد القطرين، والرجل لم يقل ذلك، فكل جريمته عندهم أنه أشار إلى أن الملك كما أنه وحد القطرين، قام بتطهير سيناء وصلى فى الوادى المقدس طوى، كما تقول صلاية نارمر فى تفسيره.

وفى المقابل، ما نبهنى إليه الشارح الأثرى العتيد والشاعر ومؤسس فرقة جميزة الفنان ناصر النوبى، وهو أن هناك ترويجًا لمشاريع أخرى، تريد أن تثبت أن الوادى المقدس طوى ليس بمصر، إنما فى مكان آخر، وبالتالى فإن الأماكن المقدسة الأخرى المرتبطة به كجبل موسى، والقصص المقدسة المرتبطة به، حدثت فى أماكن أخرى، ومن ثم يتم تغيير الوجهات السياحية والأثرية والدينية من مصر إلى أماكن أخرى، ومثل ذلك فيلم «La Montaña de Moises en Arabia Saudita» وترجمته من الإسبانية «جبل موسى فى السعودية العربية»، وكما قال ناصر- الذى حدثنى منذ سنوات عن تفاصيل كثيرة فى خطة سحب القداسة من مصر- إن هناك أفلامًا كثيرة بالإسبانية تفعل ذلك، والسر فى ذلك يرجع إلى أن معظم سكان أمريكا اللاتينية يتحدثون الإسبانية، ومعظم البرامج السياحية التى تأتى إلى مصر تأتى لزيارة أماكن القصص التوراتية بالأساس، ثم تذهب بعد ذلك إلى الأردن ثم إلى إسرائيل، ومن شأن تغيير أماكن القصص، تغيير الوجهات السياحية من مصر إلى أماكن أخرى، خاصة مع عدم الاهتمام الكافى بالمسارات الدينية المصرية، ومن هنا يجب الإسراع فى تحقيق مشروع التجلى الأعظم، قبل أن يسحب التجلى منا.