قضية الجاسوسية تكشف ارتباطهم العرفى الذى دام ١١ عامًا
زواج سرى .. أم كلثوم على ذمة مصطفى أمين
- شهادة رتيبة الحفنى: الزواج ظل سرًا حتى لا تخسر كوكب الشرق معجبيها
- ظهرت شائعات حول زواج أم كلثوم من الفنان المثال الكبير محمود مختار
- خصام بين الست وآمال فهمى بسبب الكشف عن غرامها بمصطفى أمين
- نعم الباز: قرأت خطابات الست لمصطفى أمين وكانت تبدأها بـ«زوجى العزيز»
- موسى صبرى: لمست مقدار الحب الذى تكنه أم كلثوم للصحفى الكبير مصطفى أمين
- رجاء النقاش: الزواج كان رسميًا وكشفه ابن شقيقها خالد دون أن يذكر اسم الزوج
- محمد فاضل: مصطفى أمين نفى لى خبر زواجه من كوكب الشرق وهو يضحك
- سعت عند عبدالناصر والمشير عامر للإفراج عنه لكنها فشلت
- ما كان بين أم كلثوم ومصطفى أمين ليس مجرد صداقة أو علاقة بين صحفى ومطربة
- صفية مصطفى أمين: لا نعرف شيئًا... ووالدى قال لى ستفهمين العلاقة بينى وبينها عندما تكبرين
القصة كانت ولا تزال متداولة فى كواليس السياسة والصحافة ويمكن أن نقول فى باب النميمة الفنية أيضًا.
بعد القبض على الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى 21 يوليو 1965 متهمًا بالتجسس لصالح المخابرات الأمريكية، توجهت قوة لتفتيش مكتبه وأخرى إلى بيته، فقد كانت كل أوراقه مطلوبة، لعل وعسى أن يكون فيها ما يدعم اتهامه.
أثناء تفتيش مكتب مصطفى أمين، عثر أحد عناصر التفتيش على عقد زواج عرفى.
الزوج فيه هو نفسه مصطفى أمين.
أما الزوجة فهى السيدة أم كلثوم.
على الفور أعطى عنصر التفتيش الورقة إلى قائد القوة الذى قرأها بدهشة شديدة وعدم تصديق لما بين يديه، بعد ساعات قليلة، وصلت الورقة إلى يد الرئيس جمال عبدالناصر، فقرأها على عجل، ثم وضعها فى جيبه دون أن يعلق، اكتفى بهز رأسه ربما استنكارًا لما تكشفه الوثيقة التى لا يعرف أحد مصيرها.
لم يهتم من نسجوا هذه القصة بإخبارنا ماذا فعل عبدالناصر بوثيقة الزواج، ولم يخبرونا بأسماء الشهود الذين وقعوا على العقد، ولم يقولوا لنا أيضًا شيئًا عن استمرار هذا الزواج، لكنها ظلت قصة معلقة فى رقاب أصحابها، لم يتطوع أحد منهم لا بتأكيدها ولا بنفيها أيضًا.
تم تبادلوا القصة كواحدة من قصص النميمة الفنية لا أكثر ولا أقل، حتى جاءت الدكتورة رتيبة الحفنى لتلقى قنبلة مدوية أضافت إلى الحكاية ملامح جديدة.
كانت الدكتورة رتيبة الحفنى- التى يعرفها الجمهور العام على أنها واحدة من المتخصصين فى الموسيقى وظلت لسنوات طويلة تقدم برنامج الموسيقى العربية الذى كان يحظى بنسبة مشاهدة كبيرة أثناء عرضه على شاشة التليفزيون المصرى- ضيفة على مكتبة الإسكندرية فى فبراير من العام ٢٠٠٤، فى ندوة عامة يديرها الدكتور يوسف زيدان الذى كان وقتها مدير مركز المخطوطات والمشرف على البرنامج الثقافى بالمكتبة.
أثناء حديثها قالت الدكتورة رتيبة إن مصطفى أمين وأم كلثوم تزوجا سرًا مدة استمرت ١١ عامًا كاملة، وكان عقد زواجهما فى يد جمال عبدالناصر، وقد أخفت أم كلثوم قصة زواجها كل هذه الفترة لأنها كانت تريد أن تكون ملكًا للجميع ولا يصادرها أحد لنفسه بعيدًا عن جمهورها، لكنها قد أعلنت ذلك بنفسها للدائرة الضيقة التى كانت تحيط بها من المقربين والأصدقاء.
حاولت رتيبة الحفنى أن تدعم قصتها أو قنبلتها التى فجرتها- ربما دون مناسبة- فبدأت حديثًا على هامش ما جرى، قالت: لم تكن أم كلثوم سيدة وفية من المقربين منها، لكن يبدو أن ما كان بينها وبين مصطفى لم يكن مجرد صداقة، ولكنه كان حبًا لا يستطيع أحد أن يقاومه أو يستغنى عنه، ولم تكن علاقتهما متصلة بل متقطعة، وأعتقد أنه استمر فى الفترة ما بين طلاق أم كلثوم من الموسيقار محمود الشريف الذى تم فى منتصف الأربعينيات وزواجها من الدكتور حسن الحفناوى منتصف الخمسينيات.
لم تدَّعِ رتيبة الحفنى أنها كانت تعرف أم كلثوم أو أنها كانت صديقة لها أو أنها كانت مقربة منها حتى، فكل ما جرى على خريطتهما معًا أن أم كلثوم كانت صديقة لوالدها الدكتور محمود أحمد الحفنى، وكان والد رتيبة يتصل بأم كلثوم يوميًا، وكثيرًا ما كانت تتصل به أم كلثوم، وكان يحدث أن ترد رتيبة على التليفون فتسألها الست عن دراستها بمعهد الموسيقى، ومدى استيعابها لما تدرس وتمدها بالنصائح، وعندما توفى الدكتور الحفنى فتحت أم كلثوم بيتها لتلقى العزاء فيه تقديرًا لدوره وآثاره فى الموسيقى العربية.
هذه العلاقة الطيبة التى ربطت بين أم كلثوم ورتيبة الحفنى تنفى أن تكون هناك أسباب تدفعها للإفتراء على أم كلثوم بشىء لم يحدث، فهى لا تسعى إلى تشويه صورتها أو الطعن فى حياتها الخاصة أو تجريدها من شىء كانت تدعيه، ولكنها كانت تتحدث بمعلومات عرفتها، بصرف النظر عن السياق الذى كانت تتحدث فيه.
بعد قنبلة رتيبة الحفنى راحت الصحف تتقصى ما جرى، وأفردت مجلة «آخر ساعة» تحقيقًا مطولًا نشر فى مارس ٢٠٠٤، سألت فيه رتيبة عن دليلها على ما قالته.
وكانت المفاجأة أن رتيبة قالت إنها ليست الوحيدة التى تحدثت فى هذا الموضوع، وأنها ليست المسئولة عن شرارته الأولى، وكل ما قالته قرأته فى مقال للكاتب الكبير رجاء النقاش.
كانت رتيبة تشير إلى كتاب رجاء النقاش «لغز أم كلثوم»، والذى أفرد فيه فصلًا، كان عنوانه «بين أم كلثوم ومصطفى أمين».
يقول رجاء: فى التحقيق الذى نشرته جريدة الأهرام فى ملحقها الصادر يوم الجمعة ٢٨ يناير سنة ٢٠٠٠ تحت عنوان «نغم مصر الجميل»، توقفت أمام عبارة وردت على لسان الأستاذ سمير خالد إبراهيم ابن الشيخ خالد شقيق أم كلثوم، حيث قال: أذكر أن والدى وافق على زواجها من أحد كبار الصحفيين، وقد تزوجته لمدة عشر سنوات»، على أن الأستاذ سمير لم يذكر اسم الصحفى الكبير، فمن هو هذا الصحفى؟ ولماذا بقى هذا الزواج فى طى الكتمان حتى الآن دون أن يشير إليه أحد رغم أنه كان زواجًا شرعيًا؟
تذكر رجاء بعد أن قرأ ما قرأه فى تحقيق الأهرام قصة سمعها من مسئول كبير لم يأذن له بذكر اسمه، ولم يفصح عن الظروف التى ساعدته على معرفة زواج أم كلثوم من الصحفى الكبير.
أما القصة فيرويها رجاء، يقول: روى لى المسئول الكبير أنه فى إحدى المناسبات وقعت فى يده الأوراق الخاصة بالكاتب الكبير مصطفى أمين، ووجد المسئول بين هذه الأوراق عقد زواج رسميًا وليس عرفيًا بين أم كلثوم ومصطفى أمين، كما وجد مجموعة من رسائل أم كلثوم إلى مصطفى أمين تخاطبه فيها بقولها: زوجى العزيز، وكان وقوع هذه الأوراق فى يد المسئول الكبير السابق وهو من عشاق أم كلثوم سنة ١٩٦٠.
ويواصل المسئول الكبير روايته فيقول: إننى حملت هذه الأوراق على الفور وقدمتها كما هى إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذى أمسك بها ونظر إليها وابتسم دون أن يعلق بشىء ثم وضعها فى جيبه، ومن يومها لم تظهر هذه الأوراق، ولم يطلع عليها أحد، ولا أدرى ماذا فعل بها عبدالناصر، وأغلب الظن أنه قد أخفاها تمامًا ولم يتحدث فيها إلى أم كلثوم ولا إلى غيرها، واعتبرها شأنًا خاصًا لا يجوز التدخل فيه.
الغريب أن رتيبة الحفنى كانت قد تعرضت لأزواج أم كلثوم فى كتابها الرائد «أم كلثوم.. معجزة الغناء العربى»، الذى صدرت طبعته الأولى فى العام ١٩٩٤، لكنها لم تشر من قريب أو بعيد إلى قصة زواجها من مصطفى أمين.
فى كتاب رتيبة يمكننا أن نقرأ سويًا ما كتبته.
تقول رتيبة: خرجت أكثر من مرة شائعات عن زواج أم كلثوم، والعرسان الذين أكدت الشائعات عقد قرانهم بها هم النبيل عمرو إبراهيم وقصته أن أم كلثوم اشترت منه مائة فدان، فجاء إليها صحفى يسألها عن سر اجتماعها به، فأجابت: كنا بنكتب العقد يا أخى، وفى اليوم التالى نشر خبر عقد زواج أم كلثوم على النبيل عمرو إبراهيم.
ثم ظهر فى الشائعات اسم الشيخ عبدالرحيم بدوى صاحب مطبعة الرغائب، كانت أم كلثوم قد أرادت السفر إلى فلسطين لإحياء بعض الحفلات بها، واعترضت فلسطين على التصريح لها بالدخول إلا بصحبة زوج، فعقد الشيخ عبدالرحيم بدوى عليها صوريًا، لتتمكن من السفر ثم طلقها بعد عودتها.
وظهر فى كتاب الشائعات الكبير أيضًا زواج أم كلثوم من الفنان المثال الكبير محمود مختار، وكان السبب أنه كان يتردد عليها كثيرًا فى بيتها، لكنه كان يفعل ذلك لينتهى من نحت تمثالها الشهير.
وتضيف رتيبة أن أم كلثوم تزوجت فعليًا من الموسيقار محمود الشريف، رغم أن دراويش أم كلثوم حاولوا تصوير ما جرى بينها وبين الشريف على أنه كان مجرد خطبة، ولم يتطور الأمر بينهما إلى زواج كامل، إلا أنه كان زوجها.
فقد كان المترددون على فيلا أم كلثوم- كما تقول رتيبة- كثيرًا ما يرون الشريف خارجًا من غرفة نومها وهو يرتدى الروب دى شامبر، وهو ما يؤكد أن الشريف كان يعيش معها حياة زوجية كاملة لا تنقصها الحقوق الشرعية بين الزوجين، وليس بعيدًا أن تكون رتيبة استمعت إلى هذه الواقعة من والدها الذى كان يتردد على فيلا أم كلثوم كثيرًا.
وعلى هامش أزواج أم كلثوم وعلاقاتها الغرامية تأتى قصة غرام أحمد رامى بها.
الثابت عند الجميع أن رامى حفيت قدماه ليتزوج من أم كلثوم، لكنها كانت ترفض طلبه فى كل مرة، لكن المفاجأة التى أعلنها ابن رامى المهندس توحيد أن والده لم يطلب الزواج من أم كلثوم مطلقًا.
سأله ذات مرة: هل تحب؟
فقال رامى: كيف أعيش بدون حب؟
فسأله توحيد: وهل تحب أم كلثوم؟
فقال له: أنا لا أحبها بل أقدسها فهى بعض منى وأنا شىء منها.
فقال له: ولماذا لم تتزوجها؟
فقال له: لو كنت تزوجتها لكانت خسرت رامى الشاعر وخسرت أنا أم كلثوم المطربة.
لم ترفض أم كلثوم الزواج من رامى إذن لسبب بسيط أنه لم يعرضه عليها ويصبح بذلك ما أورده محفوظ عبدالرحمن فى مسلسله الشهير عن أم كلثوم عن علاقة رامى بها محل نظر ومراجعة وشك وتشكك.
صحيح أن رامى لم ينكر أنه كان يحب أم كلثوم، لكنه كان يعترف أيضًا بأنه لم يكن يرغب فى أن يتزوج منها لأنها لا تحبه، وليس لأنه لم يحبها فهى كانت أعظم نغمة فى حياته، لكن رامى كان فى داخله رجل شرقى يريد أن يكون كل شىء فى حياة المرأة التى يتزوجها، ولا تنشغل عنه حتى لو كانت هذه المرأة هى أم كلثوم، ولو كان ما يشغلها فنها وغناؤها.
فى حديثها عن أم كلثوم أبدت رتيبة الحفنى تحفظًا على مسلسل أم كلثوم الذى كتبه محفوظ عبدالرحمن، قالت إنه جسدها بصورة ملائكية ولم يتطرق إلى الجوانب السلبية فى حياتها، وهو ما أفقد المسلسل حيويته، فأم كلثوم فى النهاية بشر.
لكن ما لم تكن تعرفه رتيبة الحفنى أن محفوظ عبدالرحمن كان دقيقًا للدرجة التى رفض فيها أن يعتمد حكاية زواج الست من أم كلثوم.
بحث محفوظ فى قصة أزواج أم كلثوم، ومن بين جهات البحث كانت مصلحة الأحوال المدنية، حيث كلف عددًا من المحامين والموظفين بالبحث عن وثائق زواجها المثبتة فى المصلحة، والمفاجأة أنه لم يصل إلا لوثيقتين فقط، الأولى بزواجها من أحد أعضاء نقابة الموسيقيين، وهو الزواج الذى تم على الورق فقط، واستمر لـ٢٤ ساعة، وكان هدفه تسهيل سفرها إلى العراق، والثانية من الدكتور حسن الحفناوى أستاذ الأمراض الجلدية.
ورغم أن محفوظ جلس إلى السيدة «عبدية المنديلى» التى كانت أقرب صديقات أم كلثوم إليها، وسمع منها تأكيدها زواج أم كلثوم من مصطفى أمين، حيث قالت: على مسئوليتى أم كلثوم تزوجت من الصحفى مصطفى أمين وأنا رأيته فى بيتها بالبيجامة، إلا أنه رفض اعتماد روايتها، وقال: أنا مش بتاع شائعات، فلم يتوفر له شاهد ثانٍ أو دليل آخر على ما قالته صديقة الست.
وفى كتابه «صدى الذاكرة» كشف الناقد الأدبى الكبير صلاح فضل عن الحب الأول فى حياة السيدة أم كلثوم، وأعتقد أنه لم يسبقه أحد فيما قاله، لسبب بسيط أن ما رواه أن قصة خاصة دارت فى محيطه العائلى.
بعد تخرج فضل فى كلية دار العلوم، تطوع اثنان من أساتذته هما الدكتور أحمد هيكل الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للثقافة، والدكتور عبدالحكيم بلبع، وذهبا معه لخطبة زميلته «قدرية»، بعد أن عايشا- كما يقول فضل- قصة غرامهما وشهدا تطوراتها الرومانسية العنيفة.
كانت أسرة قدرية تسكن فى حلوان، وهى وقتها معقل كبار البيوتات المصرية التى يلجأ إليها الشيوخ والكبراء للاستشفاء.
استقبل الأستاذ زكى عبدالرحمن والد العروس ضيوفه بحفاوة بالغة.
يقول صلاح: كان يتابع مع ابنته بدقة شديدة وصداقة واعية تطور علاقتنا العاطفية بعد أن رق لها، فسأل صديقه وجاره الشيخ محمد عبداللطيف دراز، الذى كان يشغل منصب وكيل الجامع الأزهر، وهو أصلًا من قرية مجاورة لنا، عن عائلتى، وفهم منه أن جدى الشيخ محمد عبدالغنى فضل كان رفيقه فى الأزهر، حتى حصل على العالمية، وأن الشيخ الباقورى زوج ابنته كان زميل والدى المرحوم الشيخ عبدالسميع، وأنه لذلك يثق بالعائلة وأصلها ويعزز موقفى، وأسهم مديح أساتذتى فى أخلاقى وحسن ظنهم بمستقبلى العلمى فى تيسير المهمة، فسارت أمور الخطبة هينة رفيقة، وأخذت أتردد على بيتهم بانتظام حتى أنِس لى الأب الكريم.
ما علاقة كل ذلك بالسيدة أم كلثوم وقصة حبها الأولى؟
السر كان عند والد قدرية، خطيبة صلاح فضل وقتها، فبعد أن تعود على الحوار مع صلاح بدأ يطلعه على بعض من أسرار عائلتهم الكريمة.
هنا يدخل بنا صلاح إلى القصة المفاجأة.
يقول: أحضر الأستاذ زكى عبدالرحمن ملفًا أنيقًا يتضمن فيما أذكر اثنتى عشرة رسالة كتبت بخط واضح جميل بتوقيع أم كلثوم، فوجئت بأنها رسائل غرامية لاهبة موجهة إلى الشيخ محمد عبدالرحمن والده، وعرفت أنه كان كبير الخطاطين فى مصلحة المساحة ويلقب بخطاط الملك، وله مكانة فى الديوان وصداقته حميمة بكريم ثابت، نائب رئيس الديوان، وكانت لوحاته الفنية الجميلة وكتابته للمصحف الملكى الذى وزع بعد ذلك على ضباط حرب فلسطين شواهد على مكانته العالية.
كيف التقى الشيخ محمد عبدالرحمن بأم كلثوم؟
يقول صلاح: عندما جاءت أم كلثوم من قريتها وأخذت تشق طريقها إلى الفن، كانت بيوت الشيوخ فى حلوان أمثال الشيخ المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق والشيخ عبدالرحمن منتديات حقيقية للأدب والفن والسمر والمودة، فتوجهت إلى هؤلاء الأساتذة من علية القوم فبهرتهم بصوتها الجميل، لكنهم لاحظوا ضعف ثقافتها فى اللغة والشعر والأدب، وسوء نطقها لمخارج الحروف، فاستقر رأيهم على توكيل الشيخ الفنان محمد عبدالرحمن برعايتها وتثقيفها، فاشترط عليها الانتقال للإقامة فى حلوان، لأنها لم تنتظم فى دراسة منهجية واكتفت بحفظ الأناشيد والآيات القرآنية وألحان الموشحات الدينية، واختار لها كتاب الأغانى لأن بنيته موضوعة على أساس الأصوات والألحان الغنائية، ويتضمن أهم أشعار الغزل وأخبار المغنين والمغنيات، ويقدم صورة زاهية لتاريخ اللغة والفكر والفن والمجتمع العربى الراقى فى العصر الأول، وإن كانت رموزه الإيقاعية ما زالت غامضة على الدارسين.
حكى زكى عبدالرحمن لصلاح فضل كيف تعمقت صلة والده بتلميذته النجيبة، وكيف تولدت بينهما بمرور الشهور وساعات الصحبة مشاعر الحب العميق، حيث عشقت فنه الجميل وجهده المخلص فى صقل موهبتها وشخصيتها، فأخذت تبعث له رسائل الهوى والغرام كلما غادرت مصر أو تركت العاصمة، وبلغ من ولعها وقتها أن اقترحت عليه الزواج منها، لكنه اعتذر لها برفق وآثر أن يظل أستاذها وصديقها الحميم لأنه أدرك ما ينتظرها من مستقبل، فخشى أن يقتصر ذكره على أن يكون مجرد زوج الست أم كلثوم، وهو الذى كان يظن أن التاريخ سوف يسجل مآثره وكتاباته وإبداعاته الفنية والعلمية المتناثرة فى القصور الملكية.
يفسر صلاح فضل رفض الشيخ محمد عبدالرحمن الزواج من أم كلثوم.
يقول: يبدو أن اعتزاز الفنانين بمقامهم يجعلهم يبالغون فى تقدير ذواتهم عادة، وربما كان الشيخ يدرك أن فارق السن بينهما ومسئولية الشهرة لن تساعد هذا الزواج على الاستمرار، لكن ظلت علاقتهما قوية حتى تولى الشاعر أحمد رامى مواصلة ما بدأه الشيخ عبدالرحمن، وتسلم منه زمام العواطف وتربيتها، والشعر وتنميته، والفن وتذوقه.
لم تنته القصة بالنسبة لصلاح فضل بعد، فبعد سنوات طويلة من الزواج والعمل والسفر عاد إلى القاهرة، يقول هو: فتنتنى بطبيعة الحال هذه القصة لأم كلثوم وعلاقتها بجد خطيبتى قدرية، تم الزواج من حفيدة الشيخ المعشوق، واغتربنا لسنوات طويلة فى إسبانيا للدراسة والعمل، وتابعت رحلاتى إلى المكسيك حتى عدت نهائيًا إلى الوطن منتصف الثمانينيات، والتقيت فى اتحاد الكتاب بصديقى الراحل محفوظ عبدالرحمن، وكان يكتب دراما أم كلثوم، فاخبرته بهذه القصة، فطلب منى ولو رسالة واحدة توثق هذه العلاقة.
حاول فضل أن يقدم الدليل بالطبع على روايته.
يقول: عدت لأبحث فى أوراق عمى الأستاذ زكى الذى كان قد رحل فلم أعثر على أى أثر للملف الأنيق الذى سبق أن أطلعت عليه.
كل ما كان يملكه صلاح هو صورة كبيرة فارهة لأم كلثوم وهى فى ريعان الشباب والجمال، كتبت عليها بخطها «تذكار الإخلاص إلى صديقى عبدالرحمن»، والصورة مؤرخة فى ٢٢ إبريل ١٩٣٤.
أدرك صلاح فضل أن الصورة وحدها لا تكفى بالطبع لتوثيق القصة، وكان محفوظ عبدالرحمن أمينًا مع نفسه، فهو لم يعتمد القصة لأن فضل نقلها له دون أن يكون معه دليل واحد عليها، لكنه استفاد مما رواه له عن علاقة أم كلثوم بالشيخ المراغى ووظفها فى مسلسله لأنه كانت هناك شواهد أخرى عليها.
يختم صلاح فضل شهادته على هذا الكشف الفنى بقوله: ما زلت حتى الآن بعد رحيل الذى شهد وقائع هذه العلاقة أسأل نفسى عن الملف المفقود، الذى كان يمثل جزءًا حميمًا من صندوق كوكب الشرق الأبيض لا الأسود، وإن كنت أشعر بالأسف لأننى لم أملك الجرأة الكافية فى صباى كى أطلب الاحتفاظ بالأوراق التى قرأتها ولم أعد أتذكر من محتواها سوى أننى فى كل مرة أعيد فيها سماع أم كلثوم أتمثل عراقتها الشديدة وعنفها العاطفى المشبوب وقدرتها الفذة على أن تعمر قلوب الملايين من عشاقها بشجنات كثيفة من تلاوين الهوى وألحان الوجد ومتاهات الصبابة.
لم تكن رتيبة الحفنى وحدها هى التى تحدثت عن علاقة أم كلثوم ومصطفى أمين العاطفية التى تجزم أنها وصلت إلى محطة الزواج العرفى.
على جغرافيا العلاقة تظهر الإذاعية الكبيرة آمال فهمى، التى كانت صديقة مقربة من أم كلثوم، بما يعنى أن كلامها قد يكون أكثر مصداقية من كلام رتيبة الحفنى الذى لا يوجد لدينا ما يمكن أن نؤكده أو ننفيه من خلاله.
القصة نجد تفاصيلها كاملة فى مذكرات الكاتب الصحفى الكبير موسى صبرى التى صدرت بعنوان «٥٠ عامًا فى قطار الصحافة».
يذكر موسى أنه كان يلمس مقدار الحب الذى تكنه أم كلثوم للصحفى الكبير مصطفى أمين، لكنه لم يكن لديه دليل على ذلك، لكنه يحكى عن لقاء جمعه مع الإذاعية الكبيرة السيدة آمال فهمى، التى وجدها تقول له إن السيدة أم كلثوم لا تزال تحب مصطفى أمين؟
فرد عليها موسى صبرى باستغراب: كيف... ومن أين عرفت ذلك؟
فقالت له إنها كانت تجلس مع السيدة أم كلثوم، وكانت تحكى لها عن حفل استقبال حضرته وكان مصطفى أمين موجودًا فيه، فوجدت الست تحاصرها بالأسئلة عن مصطفى وحده دونا عن كل الحاضرين، سألتها عشرات الأسئلة: ماذا كان يرتدى؟ ومع مَن تكلم ؟ وماذا قال لهم؟ وماذا أكل؟ وماذا شرب؟ ومتى انصرف؟ وهل كان سعيدًا أم حزينًا؟
وبكل براءة حكى موسى صبرى لمصطفى أمين هذه الواقعة بتفاصيلها.
وفى اليوم التالى وجد أن الإذاعية الكبيرة آمال فهمى تدخل عليه مكتبه وهى فى قمة الغضب والانفعال، وهى تخبره أن مصطفى أمين نقل لأم كلثوم كل ما قالته له، وأن أم كلثوم اتصلت بها تليفونيًا وعنفتها بشدة ولامتها على أنها نقلت ما حدث بينهما لموسى صبرى، وقالت لها عنه «ده مبيتبلش فى بقه فولة».
خرج موسى صبرى إلى مكتب مصطفى أمين، وهو لا يعرف ماذا سيقول له، سأله: هل نقلت لأم كلثوم فعلًا ما قلته لك؟
فأجاب مصطفى أمين: آه قلت لها... وأنا آسف يبدو إنى عملت مشكلة كبيرة لآمال فهمى.
قاطعت أم كلثوم آمال فهمى فترة طويلة، حتى استطاع موسى صبرى أن يتدخل بينهما ويسوى الأزمة وعادت المياه إلى مجاريها مرة أخرى.
المفارقة أن لموسى صبرى شهادة على علاقات مصطفى أمين العاطفية، سجلها فى مذكراته بقوله: كنا نسمع أن المرأة ليس لها مكان فى حياة مصطفى أمين، إلا بقدر ساعة أو أقل، ثم يعود إلى معشوقته الأولى والأخيرة.. الصحافة، ولذلك فهو فى نهم إلى أن يعرف كل نساء العالم وأن يترك كل نساء العالم.
على الخط نفسه تداخلت الكاتبة الكبيرة نعم الباز التى عملت فى أخبار اليوم إلى جوار مصطفى أمين لسنوات طويلة.
فى العام ٢٠٠٩ وفى ذكرى ميلاد أم كلثوم وثقت نعم الباز شهادتها على زواج مصطفى أمين من الست لأحد المواقع العربية، وهذه المرة لم تتحدث عن وثيقة زواجهما، لكنها أشارت إلى ٢٠ خطابًا غراميًا كتبتها أم كلثوم لمصطفى بخط يدها.
قالت نعم: لقد شاهدت بعينى رسائل غرامية أرسلتها أم كلثوم إلى مصطفى أمين، كانت بدايتها تقول: إلى زوجى العزيز مصطفى أمين، والإمضاء فى النهاية: المخلصة أم كلثوم- فاطمة، والتاريخ فى ١٩٤٦، وكانت حوالى عشرين خطابًا ومدونة على ورق فندق سيسل الشهير بمدينة الإسكندرية.
وتضيف نعم: لم أستطع أن أكمل تصفح محتوى الخطابات لأسباب متعلقة باحترامى الشديد لخصوصية الآخرين، وعدم رغبتى فى التلصص على حياة الناس الخاصة، وكانت هذه الخطابات موجودة فى درج مكتب مصطفى أمين وقت جرد المكتب الخاص به بعد إلقاء القبض عليه فى قضية التجسس الشهيرة عام ١٩٦٥، وكان شاهدًا معى الدكتور على إسماعيل إمبابى الذى كان يشغل منصب مدير مكتب كمال الدين رفعت، المشرف على جريدة «أخبار اليوم» عقب القبض على مصطفى أمين.
وتستكمل نعم الباز شهادتها بحديث عن مصير هذه الخطابات، تقول: بعد خروج مصطفى أمين من السجن طلب منى أن أتوجه إلى كمال رفعت وأبلغه أن الجورنال كله كوم وهذه الخطابات كوم آخر.
نقلت نعم الباز رغبة مصطفى أمين إلى كمال رفعت فقال له: إن الرئيس عبدالناصر أخذ هذه الخطابات وأحرقها بنفسه حرصًا على سمعة أم كلثوم وعدم تعريضها لمهاترات من شأنها أن تمس شخصيتها.
فى ٢٩ مارس من العام ٢٠٠٤، أى بعد تصريحات رتيبة الحفنى المفاجئة عن زواج أم كلثوم من مصطفى أمين، كانت ابنته صفية تتحدث إلى جريدة عكاظ السعودية، وجاء مُحاورها على هذه القصة فنفتها تمامًا، وكان هذا الحوار:
المحاور: كيف تصفين علاقة والدك بالسيدة أم كلثوم؟
صفية: هى ست عظيمة، مفيش زيها، بعيدًا عن كونها كوكب الشرق، وكانت حاضرة عندما سجن والدنا، فاشتكينا لها تعب بابا، فاتصلت بالوالدة وأخذتنا للسيدة جيهان السادات، وكانت تتحدث عنه بمودة وصداقة، ولما بابا وعمى على أسسا «أخبار اليوم» ١٩٤٤ ساهمت بـ٥٠٠ جنيه ورفضت استرداد المبلغ.
المحاور: ولِمَ لَمْ تعزى أنت أو والدتك فى وفاة أم كلثوم؟
صفية: سألنى أبى نفس السؤال، فالتزمت الصمت، فقال العلاقة بينى وبين أم كلثوم مش ممكن تفهميها إلا لما تكبرى.
المحاور: هل تزوج والدك بأم كلثوم؟
صفية: هذا الكلام ظهر أخيرًا، ومنعرفش عنه أى شىء.
وفى العام ٢٠٢٢ كتبت صفية مصطفى أمين مقالًا كان عنوانه «أم كلثوم أحبت رجلين.. أحدهما متزوج»، أعادت خلاله ما نشره الكاتب الكبير فى مجلة «روزاليوسف» فى أغسطس ١٩٣٢.
وفى المقال أن مصطفى أمين سأل أم كلثوم: ألم تعرفى الحب أبدًا؟.
فأجابت: عرفت الحب البرىء مع شاب غنى يهوى العزف على الكمان، كنت أصعد أولى درجات الشهرة، أحبنى وأحببته، لكنه فجأة استيقظ ووجدنى أصعد سلم النجاح بسرعة، وهو يقف مكانه، فقرر أن يتركنى قبل أن أتركه، فشلت فى أن أقنعه بأن يغير قراره، اتصلت به فى اليوم التالى، فقيل لى إنه مريض، ذهبت إليه فى منزله فلم أجده، بعد عدة أيام اتصلت به تليفونيًا، فرد علىّ بنفسه وقال لى: النمرة غلط يا آنسة.
وقبل أن ينتهى اللقاء بينهما، دق جرس التليفون دقة ترنك «مكالمة من خارج القاهرة»، فرفعت أم كلثوم السماعة وفى عينيها فرح، تظاهرت أنها تتحدث مع سيدة، لكن مصطفى أمين فهم أنها تتحدث مع رجل، أنهت المكالمة وعلى وجهها حمرة غريبة، فسألها: هل هذا عازف الكمان؟ فأجابت: لا.. هو الرجل الذى أحبه الآن، أريد أن أأتمنك على سر، على الرغم من أننى لا أثق بالصحفيين عمومًا، اسمه فلان، وهو موظف كبير وله أولاد، لا أريد أن يعرف أحد عن هذا الحب حتى لا أجرح زوجته، فوعدها مصطفى ألا يذكر اسمه أبدًا.
تؤكد صفية مصطفى أمين أن هذه الواقعة كانت سببًا فى أن يصبح والدها وأم كلثوم صديقين مقربين، وأصبحت تثق به وتطمئن إليه، وقامت بينهما علافة قوية عاشت أكثر من أربعين عامًا بلا انقطاع.
لقد نفت صفية أن يكون والدها تزوج أم كلثوم، وقد يكون ما ذكرته فى مقالها إعادة تأكيد على أن ما جمع بينهما صداقة، وقد فهمت أبعاد هذه العلاقة بعد أن كبرت، كما قال لها والدها، وربما تكون قد بحثت فى أرشيفه عما يؤكد هذه العلاقة بعيدًا عن الزواج.
لم تكن صفية وحدها من نفت أن يكون هناك زواج تم بينه وبين أم كلثوم، مصطفى أمين نفسه نفى ذلك تمامًا.
والقصة هنا بطلها هو المخرج الكبير محمد فاضل، الذى أخرج فيلم «كوكب الشرق» وعُرض للمرة الأولى فى دور السينما فى العام ١٩٩٩ ولم يحالفه النجاح.
فى رحلة بحث محمد فاضل عن حياة أم كلثوم جلس مع الكاتب الكبير مصطفى أمين لعشر ساعات متصلة، يستقصى منه عما خفى فى حياة كوكب الشرق، ومن بين الأسئلة التى وجهها إليه كان سؤالًا واضحًا: هل تزوجت السيدة أم كلثوم سرًا؟
يقول فاضل: أكد لى مصطفى أمين أنه لم يتزوج أبدًا من أم كلثوم، نفى ذلك وهو يضحك.
الحديث عن علاقة عاطفية جمعت بين أم كلثوم ومصطفى أمين لم يكن غريبًا، بل كان منطقيًا، فالمعلن عن علاقة الصحفى والمطربة كثير ومتشعب ومتشابك للغاية.
لقد صنع مصطفى من أم كلثوم أسطورة على أوراق الصحف، دافع عنها وصاغ صورتها كما يريد، أعاد إنتاجها وصدّرها مرة ثانية للناس، وفى كل مرة يتحدث فيها عنها كان يظهر مدى القرب بينهما، وهو ما يظهر فى مقال مصطفى المطول الذى نشره فى كتابه «شخصيات لا تُنسى».
كان مصطفى يسخّر قلمه من أجل بناء أسطورة أم كلثوم، يلتقط التفاصيل الصغيرة ويصنع منها قصصًا هائلة.. وهذه بعض منها.
يقول مصطفى: ربما لا يعرف الناس أن أم كلثوم كانت من هواة الكرة، وأنها فى وقت من الأوقات كانت تحضر كل مباريات كرة القدم فى النادى الأهلى، وأنها وقفت حكمًا فى بعض مباريات كرة القدم، وأنها فى رأس البر كانت تلعب معنا وكانت تقف حارسة مرمى، وكان الذين يلعبون معها كرة القدم الأستاذ التابعى وكامل الشناوى ومأمون الشناوى وأحمد ألفى عطية.
وما يؤكد أن ما كان بين أم كلثوم ومصطفى أمين ليس مجرد صداقة أو علاقة بين صحفى ومطربة، أن أم كلثوم تخلت عن طبيعتها الحذرة والحريصة كثيرًا فى التعامل مع مصطفى أمين.
حدث هذا مرتين.
الأولى عندما مرت «أخبار اليوم» بضائقة مالية وكادت تغلق أبوابها، والقصة سجلتها كاملة مجلة «آخر ساعة» فى ١٢ فبراير عام ١٩٧٥، أى بعد وفاتها بـ٩ أيام فقط، وكتبها مصطفى أمين بنفسه بعد خروجه من السجن.
فقد علمت أم كلثوم أن «أخبار اليوم» فى أزمة خانقة ومهددة بالإفلاس، اتصلت بمصطفى أمين وطلبت منه أن يقابلها هو وأخوه على فى بيتها، وهناك أحضرت لهما عشرين ألف جنيه وقالت لهما إنها مستعدة لأن تبيع مصوغاتها وأسهمها وبيتها من أجل ألا تموت «أخبار اليوم».
لم تكن أم كلثوم بخيلة لكنها كانت حريصة للغاية، لكنها تخلت عن حرصها حتى لا يضيع حلم مصطفى أمين.
حسن النية يؤكد أن أم كلثوم تعاملت بمنطق الأصدقاء الأوفياء، لكن على خلفية اعترافات رتيبة الحفنى، نستطيع أن نقول: إن أم كلثوم كانت تساعد مصطفى الحبيب وليس الصديق فقط.
الموقف الثانى كان عندما دخل مصطفى أمين السجن متهمًا بالجاسوسية الثابتة عليه، تخلى عنه الجميع، كان عبدالناصر يتابع الموقف بنفسه، وكان كل من يعرف مصطفى أمين يتبرأ من هذه المعرفة، فالتهمة هى الجاسوسية وخيانة للوطن.
وحدث أن جلست أم كلثوم مع الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر والموسيقار محمد عبدالوهاب يتناولون العشاء على مائدة فى نادى الضباط فى مساء يوم ٢٣ يوليو سنة ١٩٦٥، أى بعد يومين فقط من القبض على مصطفى.
قال عبدالناصر لعبدالوهاب: طبعًا إنت زعلان علشان قبضت على مصطفى؟
فقال عبدالوهاب: أبدًا يا أفندم المسىء يلقى جزاءه.
والتفت عبدالناصر إلى أم كلثوم وسألها رأيها هامسًا، فقالت له: أعرف مصطفى طول حياته، وأعرف وطنيته، وأعرف كيف دخل كل مليم فى «أخبار اليوم». فلم يلتفت لها عبدالناصر، لكنها ظلت تدافع عن مصطفى، بل إنها سعت عند عبدالناصر والمشير عامر للإفراج عنه، لكنها فشلت.
ليس هذا وفقط، بل يحكى مصطفى أمين: ذات يوم فى زنزانتى فى ليمان طرة جاءنى عسكرى يقول لى: الدكتور عبدالقادر إسماعيل، كبير أطباء السجن، يريدك فورًا، ذهبت إليه ونظر لى كبير الأطباء شذرًا وقال لى: اخلع الجاكتة، ودهشت من لهجة وغطرسة الأمر، فقد كان الرجل وديعًا مؤدبًا وتضايقت من أنه يكلمنى بهذا الجفاء أمام المسجونين الآخرين الذين يملأون غرفة العيادة، وخلعت الجاكتة، وإذا بكبير الأطباء يقول لى بنفس اللهجة: ارقد على مائدة الكشف، وخضعت ونمت على المائدة ووجدت الطبيب يضع سماعته على جسمى العارى وينحنى علىّ ويقول لى هامسًا: أم كلثوم تقول لك اسمعها يوم الخميس القادم إنها ستغنى قصيدة فيها بيتان أو ثلاثة توجهها لك.
فهم مصطفى لحظتها سر السخط والنظر، فقد كان كبير الأطباء يريد أن يبلغه الرسالة السرية، وجلس مصطفى فى زنزانته أيامًا ينتظر قصيدة أم كلثوم والأبيات الثلاثة، وفى مساء الخميس غنت أم كلثوم قصيدة الأطلال، وكانت إذاعة السجن تذيع الحفلة كلها بناء على إلحاح المسجونين، وفجأة سمع مصطفى أم كلثوم تغنى: أعطنى حريتى أطلق يديا/ إننى أعطيت ما استبقيت شيئا/ آه من قيدك أدمى معصمى/ لم أبقيه وما أبقى عليا/ ما احتفاظى بعهود لم تصنها/ وإلام الأسر والدنيا لديا.
شعر مصطفى أمين أنه يملك الدنيا بيديه.
يقول: انتفضت فى فراشى وأنا أسمع هذه الأبيات، أحسست كأن أم كلثوم تغنى لى وحدى، أحسست أنها ترفع صوتى الخافت، أحسست أنى أتلقى من أم كلثوم رسالة تقتحم أسوار السجن وتكسر قضبان الزنزانة وتحطم القيود والأغلال، وقد بقى صوتها يدوى فى أذنى وهى تغنى هذه الكلمات أيامًا طويلة بغير إذاعة وبغير راديو وبغير أسطوانة.
لم تتوقف أم كلثوم عن المطالبة بالإفراج عن مصطفى أمين، وذات يوم صحبت ابنتىّ مصطفى رتيبة وصفية إلى بيت الرئيس السادات، وقابلت معهما السيدة جيهان وتلقت وعدًا من السادات بأنه سيفرج عن مصطفى أمين بعد المعركة مباشرة، كان ذلك فى بداية السبعينيات وبعد رحيل عبدالناصر مباشرة، أرسلت أم كلثوم إلى مصطفى ما قاله السادات، لكنه لم يصدقه يومها لأنه كان مثل المصريين جميعًا يائس من أن السادات سيحارب.
المفاجأة أن أم كلثوم كانت هى التى عرّفت مصطفى أمين على عبدالناصر.
فبعد أن عاد عبدالناصر ورفاقه من الفالوجة بفلسطين بعد حرب ١٩٤٨، دعتهم أم كلثوم إلى بيتها لتحتفل بهم، بعدما أرسلوا لها وهم تحت الحصار أن تغنى لهم فى حفلها الشهرى أغنيتها «غلبت أصالح فى روحى».
وأعطى خيط الحديث مرة أخرى لمصطفى أمين الذى يقول عن هذا الحفل: تحدد ميعاد الحفل فى منزل أم كلثوم، وصلت قبل الموعد بدقيقة أو دقيقتين، فوجئت بمنزل أم كلثوم مزدحمًا بالضباط، وكلهم ملتفون حول أم كلثوم، عند الباب قابلنى إبراهيم بغدادى وصافحنى ثم اصطحبنى إلى منضدة يجلس عليها ضابط واحد فقط، ثم التفت إلى قائلًا: الصاغ جمال عبدالناصر، فى هذه اللحظة وقعت عيناى على عبدالناصر لأول مرة، وأثناء جلوسى قلت: أنا مصطفى أمين، فقال ضاحكًا: وكيف لا أعرفك إن كل نقودى أنفقها على صحفك، لقد كنا فى الفالوجة نرسل بأحد رجالنا ليخترق الحصار ويعود إلينا بأخبار اليوم.
عرّفتهما على بعضهما إذن.. لكنها لم تستطع أن تحمى مصطفى من عبدالناصر، تمسكت فقط فى مواجهة الرئيس.
لقد كانت أم كلثوم تحترم عبدالناصر، لكنها كانت تحب مصطفى أمين، كانا بارعين للغاية فى إخفاء علاقتهما، لكن من يقرأ إحساس مصطفى أمين فيما كتبه عن أم كلثوم، ومن يتأمل ما وراء تصرفات أم كلثوم من أجل حماية مصطفى أمين، يدرك أن الحب كان متمكنًا منهما لغايته، وهذا ليس عيبًا، فمن حق كل إنسان أن يفعل ما يريده طالما أنه لا يضر الآخرين بما يفعل، وأعتقد أن زواج أم كلثوم من مصطفى أمين لم يكن يضر أحدًا منّا فى شىء.
رغم ذلك إلا أن هذه القصة يوجد فى أرشيف «أخبار اليوم» ما يخدشها.
ففى أحد أيام شهر يوليو سنة ١٩٥٤، اتصلت السيدة أم كلثوم بمصطفى أمين وأخبرته أنها قررت أن تتزوج من الدكتور حسن الحفناوى، طبيب الجلدية المشهور والأستاذ فى كلية الطب بقصر العينى، وقالت له: أشعر أننى وحيدة وأريد رجلًا يقف بجوارى أعتمد عليه.
قال مصطفى لأم كلثوم: لكن الدكتور الحفناوى متزوج وعنده أولاد.
ردت: أعرف.. هو على كل حال تقدم وطلب يدى، وقد ترددت طويلًا بسبب زواجه وأولاده، لكننى قررت أن أتزوجه.
وقبل أن يستفسر مصطفى أمين عن شىء، قالت له أم كلثوم: إن الدكتور الحفناوى لن يطلق زوجته لأنها قريبته وأم أولاده، وأنا وافقت على ذلك ورحبت به.
بعض صديقات أم كلثوم اعترضن على هذا الزواج، تساءلن: كيف تتزوج أم كلثوم من رجل متزوج وتكون لها ضرة؟، لكنها لم تهتم بآراء صديقاتها، وقالت لهن إنها لا تشعر بأى غيرة من الزوجة الأولى بل على العكس تشجع الدكتور الحفناوى على اهتمامه بأولاده.
بعد أيام تحدث مصطفى مع أم كلثوم وعرف منها أن القران عُقد فعلًا، فسألها عن رأيها فى نشر الخبر فى «أخبار اليوم»، رفضت أم كلثوم، فهى لا تريد نشر الخبر إلا فى شهر سبتمبر، ولم تفصح لمصطفى عن سبب تأجيل النشر.
حاول مصطفى أن يقنع أم كلثوم بضرورة النشر.
قال لها: أنا أستطيع منع نشر الخبر فى جميع صحف أخبار اليوم، ولكنى لا أستطيع أن أمنع نشر خبر الزواج فى الصحف الأخرى، فهذا أمر لا حيلة لى فيه.
سأل مصطفى الست: هل تأجيل النشر مقصود به أن يطلق العريس زوجته الأولى؟.
نفت أم كلثوم، بل أقسمت أن هذا غير صحيح، كل ما فى الأمر أنها لا تريد أن «يشوش» نبأ زواجها على أنباء جلاء الإنجليز من مصر.
بعد ساعات وجد مصطفى أمين البكباشى موفق الحمدى، مدير الرقابة، يتصل به ويقول له إن الرئيس جمال عبدالناصر اتصل به تليفونيًا وأصدر أوامره بألا تنشر الصحف أى أنباء تلميحًا أو تصريحًا عن زواج أم كلثوم.
كان موفق الحمدى قد سأل جمال عبدالناصر: هل خبر زواج أم كلثوم شائعة؟
فأكد له عبدالناصر: على العكس الخبر صحيح، لكن أم كلثوم اتصلت بى وطلبت منى أن أمنع نشر خبر زواجها فى الوقت الحاضر.
وعقّب عبدالناصر: هذا أقل ما نفعله لها.
المفارقة أن قرار الرقابة بمنع نشر خبر زواج أم كلثوم كان السبب فى انتشاره، رغم أنه لم يكن معروفًا.. فقد أرسل مدير الرقابة قرار المنع إلى كل الصحف والمجلات، وفى شهر سبتمبر عاد مدير الرقابة وأصدر أمرًا إلى الصحف بنشر نبأ زواج أم كلثوم فى صيغة أشبه بالبلاغ الرسمى.
هذه الواقعة تخدش رواية رتيبة الحفنى، فكيف وهى التى تقول إن زواج مصطفى وأم كلثوم انتهى قبل زواجها من الدكتور الحفناوى، يمكننا أن نصدق أن أم كلثوم لجأت إليه لتستشيره فى موضوع زواجها، بل وتطلب منه عدم نشر الخبر، ثم تلجأ إلى عبدالناصر ليفعل ذلك.
ستظل هذه القصة محل جدل.. لكننا فى النهاية لا نملك ما نؤكده بها أو ننفيها أيضًا، فهى نموذج لما نعاينه فى تاريخنا الثقافى، نعرف الكثير لكن لا نستطيع أن نثبت شيئًا أو ننفيه.