أيامى مع وحيد حامد
- لم تجمعنى به صورة واحدة.. لكن جمعتنا مشاهد فارقة
- جلست إليه وهو سعيد وهو حزين وهو غاضب جدًا وهو مسترخ تمامًا وهو متفائل يكاد يمسك السماء بيديه وهو محبط تكاد الدنيا تتفلت من بين أصابعه
- أنا عايز المصريين يمشوا فى جنازتى ويعرفوا مكان قبرى.. عاوزهم يزورونى.. أنا عشت بين الناس وعاوز لما أموت.. أموت برضه وسطهم
كنت أعرف أن هذا اليوم بكل ما يحمله من قسوة قريب.. قريب جدًا.
لكننى لم أعتقد أبدًا أنه سيكون بكل هذا الحزن الذى لم أعرف طعمه إلا عندما ودعت أمى بعجز واستسلام وقلة حيلة.
قرأت فى عينيه موتًا مراوغًا.
حاول هو أن يخفيه بين نظراته المترددة، وأمسكت أنا به من بين محاولات الهروب بالتحدى والإصرار على أنه لا يزال قويًا يقاوم، حتى بعد أن عرف أنه ليس إلا «دون كيشوت» الذى خرج ليحارب طواحين الهواء بسيفه الخشبى.
كنت أكتفى على مائدته بشرب فنجان من الإكسبرسو، وأتفرغ بعد ذلك لما يدور بيننا من حوارات لم تكن جامحة فقط، بل كانت طائشة أيضًا.
كان يشغلنى ما يقوله بتركيز نادر، فلم يكن وحيد حامد من هؤلاء الذين يتحدثون لوجه الكلام، كل كلمة عنده لها قدرها ومقدارها، مكانها وزمانها، مقصدها ومرادها، رنتها وبريقها.
لم يكن هذا الرجل يتحدث بالمجان أبدًا.
اكتشفت وحيد فى قاعة سينما اللبان بدمياط قبل أن تصافحنى القاهرة أو أصافحها، كانت تعرض فيلمه «اللعب مع الكبار» فى العام ١٩٩١.
أخذنى الفيلم إلى عالم وحيد السينمائى بزاوية جديدة، زاوية من قرر أن يكون صديقًا لهذا الكاتب الفذ.
كيف ومتى.. ؟ لا أعرف.
لكن كان هذا قرارى الذى لم أتخلّ عنه، رغم أننى وقتها كنت طالبًا فى الثانوية العامة، لا أعرف فى أى مرفأ سترسو سفينتى.
بعد «اللعب مع الكبار» بدأت أعيد مشاهدة وحيد حامد من جديد، يمكنك أن تقول إننى بدأت قراءة الفيلم لا مشاهدته فقط.. وكان أن وضعت يدى على سر أسرار هذا الرجل.. لم أرَه جريئًا فقط، ولا شجاعًا وحسب، ولا مغامرًا والسلام.
رأيت وحيد حامد رجلًا مستقيمًا شريفًا، فمن يعبر عن الناس بهذه الطريقة دون أن يخشى شيئًا، مؤكد أنه لا يخفى ما يدينه، أو يتحسس بطحة على رأسه، أو يدفن عيبًا يتحسب أن يأتيه عبره من يؤرقهم ما يكتبه ويقلقهم ما ينشره.
مرت سنوات بعد عبورى عالم الصحافة، تقاطعت دوائرى معه دون أن ألقاه، سمعت عنه ما يمكن أن يخدش صورته عندى، لكننى لم أكن أصدق فيه شيئًا أبدًا، نالت منه جلسات النميمة الصحفية، نهشت لحمه دوائر النميمة الفنية، لكنه نجا من كل ذلك.
فحتى لو فعل كل ما يقولونه عنه، فهو عندى ليس أكثر من اللمم الذى يمس ثوبه دون أن يخرقه أو يحرقه.
عندما حصل على جائزة الدولة للتفوق من المجلس الأعلى للثقافة فى العام ٢٠٠٣، كتبت عنه بعين المحب، قلت فيه ما جعله يتصل بى تليفونيًا صباح صدور جريدتى- كنت وقتها فى صوت الأمة- ويقول لى: صباح الخير يا محمد.. مش هاعرف أشكرك على اللى قلته.. اللى قلته يستحق شىء أكبر بكتير من الشكر.. خلينى أشوفك.
لا أذكر على وجه التحديد بأى شىء رددت على وحيد حامد، ولا أى شىء قاله هو بعد ردى عليه، كل ما أمسكت به أننى أصبحت على خط واحد مع الكاتب الذى قررت يومًا أن أصبح صديقًا له، رغم أنه لم يكن هناك أى شىء يجمعنا سويًا إلا إعجابى الشديد به.
توالت لقاءاتنا معًا، لا أحصى لها عددًا، لكنها كانت دون مناسبة فى الغالب، أتصل به أو يتصل بى: لو فاضى عدى علىّ شوية.
على مائدته بأحد فنادق القاهرة، أراه يحجز النيل بين عينيه، وكأنه يحرسه مما يراد له وبه، جلست إليه وهو سعيد وهو حزين، وهو غاضب جدًا وهو مسترخ تمامًا، وهو متفائل يكاد يمسك السماء بيديه وهو محبط تكاد الدنيا تتفلت من بين أصابعه، وهو يجهز لمشروع جديد بروح طفل وهو يعانى من شيطان الكتابة الذى يراوغه، فيتمنع عليه أحيانًا ويمنحه نفسه بلا حدود أحيانًا أخرى.
من بين الجلسات الطويلة يمكننى أن أمسك بثلاث جلسات، يتداخل فيها الذاتى بالموضوعى، والسياسى بالدينى، والفنى بالصحفى، اخترتها لأن آخرين كانوا معنا على هامشها، وبعضهم يمكن أن يشهد، فالأحداث كانت ساخنة ولا تزال فيما أعتقد.
فى نهايات العام ٢٠٠٥ كنت قد كتبت مسودة معالجة درامية لفيلم عن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية ومرشدها الأول، لم تكن لى خبرة فى الكتابة للسينما، لا أنا حاولت ولا جربت.
ذهبت إليه بأوراقى، حدثته عن الفكرة، قلت له سأضع بين يديك فكرتى وكل ما جمعته من مادة عن حسن البنا، ويشرفنى أن يكون السيناريو والحوار بقلمك.
لم يتحمس، فقط أخبرنى بأنه يرى أن أكتب أنا السيناريو والحوار، وأنه سيساعدنى فى ذلك، وزاد على ما قال أنه سيتحدث مع عمادالدين أديب لينتج هذا الفيلم فى شركته التى أسسها وقتها وهى «جود نيوز»، طلب منى فقط ألا أتحدث مع أحد عن الفيلم حتى يتم الاتفاق.
لم أسمع كلامه، ربما بدافع الغرور، وربما بدافع أن الفكرة كانت جريئة، فأى مجنون هذا الذى يمكن أن يكتب فيلمًا عن حسن البنا، وأى مجنون يمكن أن ينتجه وكل هذا العداء حاكم ومتحكم بين الجماعة الإرهابية- التى كانت وقتها المحظورة- والنظام الحاكم فى مصر؟
تواصلت مع صديقى أحمد الخطيب الذى كان وقتها مسئولًا عن ملف الجماعات الإسلامية فى المصرى اليوم، وعلى مقهى البورصة فى وسط البلد، دفعت له بكل ما عندى، بل كتبت مشاهد على الهواء وأنا جالس معه، فقد أخذتنى الفكرة تمامًا وقررت أن أعلن عنها كلها.
كانت المفاجأة فى التقرير الذى نشره أحمد الخطيب- ولا أعرف كواليسه حتى الآن- أن هناك مشروعات أخرى لأعمال سينمائية عن حسن البنا، منها مسلسل تعده الجماعة وقد كلفت الكاتب السورى الدكتور وليد سيف بكتابته، وقررت أن تصوره فى سوريا بعيدًا عن تحكمات النظام فى مصر.
وكان مفزعًا أن أقرأ تصريحًا لوحيد حامد فى نفس التقرير يقول فيه إنه يجهز من فترة لعمل عن حسن البنا، ولم يقرر بعد هل يكون فيلما سينمائيًا أو مسلسلًا تليفزيونيًا.
اتصلت به: لم تقل لى إنك تجهز عملًا عن حسن البنا.
رد بأن عمادالدين أديب كان قد حدثه بالفعل عن عمل عن حسن البنا، وإنه كان يفكر وإننى عندما حدثته عن مشروعى لم يخبرنى، حتى لا أعتقد أن الفكرة ولدت أمامه عندما تحدثت فقط.
قبل أن يختم كلامه وجدته يقول لى: صدقنى فى اللى باقوله.
فرددت عليه: أنا أصدقك فيما تقول دائمًا يا أستاذ وحيد.
قامت الدنيا ولم تقعد، وتداخلت جهات عديدة فيما يجرى، انتهيت بالفعل من كتابة سيناريو وحوار فيلم «البنا» لكنه لم يرَ النور، لأن هناك من أراد له ألا يراه.
على هامش الضجة التى أثيرت حول الفيلم الذى ظل فكرة، جمعتنى حلقة تليفزيونية من برنامج «القاهرة اليوم» الذى كان يقدمه عمرو أديب على قناة أوربت مع وحيد حامد وشارك فيها جمال البنا شقيق حسن البنا وسيف الإسلام ابنه.
سألنى عمرو: هل ستجلس مع أحد من أسرة حسن البنا قبل أن تكتب الفيلم؟
قلت له: لا أحتاج لذلك فأنا لن أقدم حسن البنا الأب أو الزوج أو الشقيق حتى أحتاج إلى أحد من عائلته، فقد كتب مذكراته ومن عملوا معه كتبوا مذكراتهم أيضًا.
وكانت المفاجأة أن وحيد حامد أجاب عن نفس السؤال بقوله: من حق أسرة حسن البنا أن تراجع الفيلم وتقول رأيها فيه.
بعد الحلقة سألته: أنت كنت بتتكلم بجد؟
ضحك وقال: لا طبعًا.. بس إنت مكنتش شايف جمال البنا وسيف عاملين إزاى؟ دول كانوا هيموتوا، وبينى وبينك خفت لحد منهم يموت على الهواء.
فى العام ٢٠١٠ عرض التليفزيون المصرى مسلسل الجماعة الذى كان سيرة مباشرة لحسن البنا، ولم يسمح وحيد لأحد لا من عائلة حسن البنا ولا من الإخوان أن يقرأ أو يراجع، فتأكدت أنه كان يمزح بالفعل عندما قال إن ذلك من حقهم.
أثناء إذاعة المسلسل قرأت عنوانًا على أحد المواقع الإخوانية يقول صاحبه: هل سرق وحيد حامد مسلسل الجماعة من محمد الباز؟ وحكى قصة الفيلم الذى لم يظهر إلى النور.
تواصلت مع وحيد، وقبل أن أتحدث معه فى شىء، فوجئت به يقول لى: متشغلش بالك.. الإخوان عاوزين يوقعونا فى بعض.
عرفت أنه قرأ المقال.. فاكتفيت بما قاله ولم نعد لهذا الموضوع أبدًا.
فى صيف العام ٢٠٠٦ شهدت القاهرة جدلًا هائلًا بعد عرض فيلم «عمارة يعقوبيان» المأخوذ عن رواية علاء الأسوانى التى حملت نفس الاسم، حملت أوراقى وجلست أمام الأسوانى فى عيادته بجاردن سيتى.
كان الحوار ساخنًا، وكان ما طلب علاء أن أنشره أكثر مما سمح لى بنشره.
يومها وجدت أمامى كاتبًا يحاول أن يبدو شجاعًا وهو غير ذلك تمامًا، فقد كان حريصًا على مصالحه الصغيرة للدرجة التى جعلتنى لا أصدقه أبدًا فى أى شىء يقوله بعد ذلك.
وضعت هوامش على الحوار، وألمحت فى أحدها أن علاء غاضب من وحيد حامد لأنه لم يحصل على ما يستحقه، لم أزد على ذلك شيئًا صغيرًا أو كبيرًا، رغم أن علاء تحدث كثيرًا.
قال لى إن وحيد حامد بعد أن ثارت الضجة حول «عمارة يعقوبيان» اشترى الرواية ليحولها إلى فيلم ودفع فيها عشرة آلاف جنيه فقط.
وعقب الأسوانى ساخرًا: شوف بقى وحيد خد من ورا الرواية دى قد إيه، ولما طلبت منه أن يعطينى ما يتناسب مع حجم ما حققته الرواية والفيلم، قال لى: لقد حصلت على حقك وهذا اتفاق، وهو ما جعل عمادالدين أديب يتدخل، ووعدنى بأنه سيعوضنى.
لم أنشر شيئًا من ذلك، ألمحت إليه فقط، لكن وحيد فهم ما بين السطور، وجدته يحدثنى غاضبًا: الواد ده قال لك إيه، لو سمحت تعالى لى حالًا.
على مائدته جلست وقبل أن أتحدث، فوجئت بأن علاء الأسوانى يتصل بوحيد، ولأكثر من ربع ساعة يقسم له إنه لم يقل شيئًا، وإن الصحفى هو من اخترع الحكاية ويحاول الإيقاع بينهما.
كان وحيد قد فتح صوت التليفون فاستمعت إلى كل ما قاله علاء، أمسكت ورقة من أمامه، وكتبت عليها: كداب فى أصل وشه.
كان وحيد يتعرض لهجوم ضخم من نواب الإخوان فى مجلس الشعب بسبب الفيلم، فوجدته يقول للأسوانى: وبعدين يا علاء.. وبعدين يا علاء.. أنا هاركز فى الحنش اللى عاوز ياكلنى، ولا الفار اللى بياكل فى صوابعى، وأنهى المكالمة بغضب: عيب يا علاء.
حكيت له ما حدث، فقال لى: أنا لا أثق فى علاء الأسوانى أبدًا.. لا أثق أبدًا فيمن يكذب.. وأنا عارف أنه كان يكذب علىّ حتى لو لم تكتب لى ما كتبت.
ولما سألته: ومن أين عرفت أنه يكذب؟
قال: أصلها بتبان.. بتبان يا محمد.
لشهور طويلة كنت مع وحيد حامد على خط واحد، فى حملة صحفية كنا نتصدى خلالها لمخالفات نراها رأى العين، ورغم تشكيك الجميع فيما كان يكتبه وما كنت أقوله، إلا أننا لم نتراجع أبدًا، ولم نصمت إلا بعد صدور تقرير رسمى بتوقيع الحكومة يفصل فى القضية، فقد اعتبرنا أننا قدمنا كل ما نستطيعه.
صمتنا برضا، لكن ما جرى كان مفزعًا، وجدت أن عددًا من الزملاء بدأوا يهيلون التراب على وحيد حامد، وزاد الأمر فزعًا لى وله أنهم رفضوا أن يستمعوا إليه ولو عبر مداخلة تليفزيونية، وهو الذى كان يسعى الجميع خلفه ليفوزوا منه ولو بكلمة واحدة.
على نفس المائدة وجدته غاضبًا ومستاءً وحانقًا ومحتقنًا، لم أسأله عما به، فقد كنت أعلم، لكنه فاجأنى بما لم أتوقعه.
قال لى: أنا بعد العمر ده كله يقولوا علىّ مضلل.. إنت عارف أنا ممكن أعيش بره مصر، عندى فلوس تخلينى أعيش سلطان فى أى حتة فى العالم، لكن أنا مش عايز يا أخى.
أوقف وحيد حامد دموعًا كانت تقترب من عينيه: خلينى أقول لك الحقيقة، أنا مقدرش أعيش بره البلد دى، مش متخيل إنى ممكن أموت بعيد عنها أو أندفن فى أرض تانية، طيب هم ليه مستكترين عليا إنى أموت وأندفن هنا.
استرد وحيد نفسه وقال: البلد دى عمرها ما بخلت علىّ بحاجة، أخدت كل جوايز الدولة، ثروتى أخدتها من الناس اللى كانوا بيدفعوا فلوس عشان يشوفوا أفلامى، وعشان كده عمرى ما خنت الناس ولا هاخونهم فى يوم من الأيام. أنا عايز المصريين يمشوا فى جنازتى، ويعرفوا مكان قبرى، عاوزهم يزورونى.. أنا عشت بين الناس وعاوز لما أموت.. أموت برضه وسطهم.
تركت وحيد وأنا أعرف أن هذه هى معركته الأخيرة، وعندما قرروا تكريمه فى مهرجان القاهرة السينمائى عن إنجاز العمر، أدركت أن الله يحب هذا الرجل، فقد أراد له أن يرى بعينيه حب الناس له قبل موته.
لم أندم على أى شىء فى علاقتى بوحيد حامد.
لكن فاتنى أن تجمعنى به ولو صورة واحدة، لم يحدث ذلك.
لكننى أعتز بما جرى، فقد جمعتنى به مواقف فارقة ولحظات فاصلة وذكريات قد يأتى اليوم لتسجيلها، فلم يكن وحيد كاتبًا بقدر ما كان عالمًا مكتملًا، فيه ما يزعجك وما يدهشك، وما يغضبك وما يربكك.. لكنك لم تكن تملك تجاهه إلا أن تحبه.