المتمرد على الهامش الروائى التشادى طاهر النور: الصحراء ألهمتنى روايتى الأولى
- عدد الروائيين التشاديين باللغة العربية يُعَد على الأصابع.. وأعمالهم مُبشرة
- صرت معتادًا على رؤية اندهاش من يُفاجَأ بوجود كُتاب بالعربية فى تشاد
- تاريخ الرواية عندنا يعود إلى عقدين فقط بظهور «أنجمينا مدينة لكل الناس»
فى سماء الأدب الإفريقى يبرز نجم لامع، يحمل بين طيات كلماته نبضات قلب تشاد وثقافتها الغنية، هو الروائى التشادى طاهر النور، الذى استطاع أن يجسد برواياته هموم مجتمعه وأحلامه، وأن ينقل صوت بلاده إلى آفاق أدبية جديدة.
بدأت رحلة طاهر النور الأدبية منذ سنوات، وتميزت كتاباته بقدرتها على استكشاف التناقضات والتعقيدات التى تملأ الحياة اليومية فى تشاد. ومن خلال رواياته، استطاع أن يعبر عن تجارب الحياة بصدق وعفوية، ما جعل قُرّاءه يشعرون بأنهم يعيشون أحداث الرواية بأنفسهم.
فى حواره التالى مع «حرف»، يُطلعنا طاهر النور على واقع الكتابة باللغة العربية فى تشاد، وأهم التحديات التى تواجه أصحابها، أبناء الهامش العربى كما يصفهم هو، إلى جانب تأثير البيئة التشادية على كتاباته، والرسائل التى يسعى لنقلها من خلال أعماله، وغيرها من التفاصيل.
■ الحقيقة أننى فوجئت بوجود كتاب من تشاد يكتبون باللغة العربية، فنحن نعرف أن لغة الكتابة عندكم هى الفرنسية.. كم كاتبًا يكتبون بالعربية فى تشاد؟ وهل عددهم كافٍ لنصفَ كتاباتهم بـ«الأدب العربى التشادى»؟
- لستِ وحدك فى الحقيقة مَن تفاجأ بوجود كاتب بالعربية من تشاد، لذا صرت معتادًا على رؤية الدهشة ترتسم على وجه محدثى، ويظل يستغرب حين أسترسل عن وجود العربية فى تشاد منذ قرون، حين كانت اللسان الرسمى للممالك الإسلامية: «كانِم» و«برْنو» و«ودّاى»، فضلًا عن كونها لغة الشارع والمعاملات التجارية.
أما الأدب العربى، فقد وُجد مع الشاعر إبراهيم الكانمى، وهو أقدم شاعر بالعربية فى بلاد السودان كلها، عاش فى الفترة ما بين ٥٥٠ - ٦٠٨ هجرية، ووفد إلى الخليفة يعقوب الموحّدى، مبعوثًا من ملك «كانِم»، وهناك التقى السفير ابن حمويه، مبعوث صلاح الدين الأيوبى.
جاء بعده شعراء آخرون أمثال محمد الوالى بن سليمان الباقرمى، ومحمد الأمين الكانمى، وأحمد الحبو، ويعقوب أبو كويسة، والطاهر التلبى، وعبدالحق السنوسى، إلى آخر القائمة. وفى العصر الحديث يمكننا أن نتذكر عباس عبدالواحد، وعيسى عبدالله، وحسب الله مهدى فضله، ومحمود شريف، وغيرهم الكثير ممن تضيق المساحة بهم هنا.
طبعًا بدأت الحديث عن الشعراء لأننا فى منطقة شِعرية بامتياز، كما هو دأب أمم الصحراء، لأن تاريخ الرواية عندنا يعود فقط إلى عقدين من أول ظهور رواية عربية منشورة، هى «أنجمينا مدينة لكل الناس» لـ«آدم الناس»، الذى أصدر روايات ومجموعات قصصية وشعرية.
وفى السنوات الأخيرة ظهر بعض الروائيين الذين قرأنا لهم عدة نصوص تُبّشر بحقبة جديدة من «الأدب العربى التشادى»، مع ذلك فإن عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين، ويمكن حصر أعمالهم بسهولة.
■ النصيحة الأشهر للكتاب هى «اكتب عما تعرف»، فهل رواياتك الثلاث التى تعتبر مشروعًا لتناول الواقع الاجتماعى والسياسى لتشاد، جاءت من هذا المنطلق؟
- تتناول رواياتى التاريخين السياسى والاجتماعى لبلدى، وهو الخيط الرفيع الذى يربط بين عمل وآخر، بالرغم من أنه فى الحكاية لا يوجد ارتباط وثيق بين أبطالها. أظن أن كتابة الرواية مثل لعبة لا تعرف سقفًا محددًا، ومن يجيد مسايرة اللعبة والتخْييل، سيطرق ليس فقط أبواب ما يعرف، بل وأيضًا أبواب ما لا يعرف.
■ قرأت روايتك «مزرعة الأسلاك الشائكة، وهى فى الحقيقة رواية مؤلمة، عن أحلام العدالة المجهضة من بين أمور عدة. هل كنت تعرف شخصيات الرواية فى الحقيقة؟
- أنا لا أكتب عن شخصيات أعرفها فى نصوصى الروائية، ربما أفعل ذلك فى أدب الرحلات واليوميات. أما فى الرواية فلم أضطر إلى فعل ذلك، على الأقل فى الروايات الأربع المنشورة لى حتى الآن.
لكن، دعينى أستدرك قليلًا، بنيت جدران «مزرعة الأسلاك الشائكة» من حادثة حقيقية، كنت مُطلعًا على تفاصيلها أثناء عملى فى الصحافة. ولم أهتم بتلك الحادثة، التى اغتال فيها عسكرى مدجج بالسلطة ميكانيكيًا بريئًا، فى حارة «السّانْفيل». إلا أنه وبعد سنوات، وبينما كنت أعبر ذلك الشارع، جالت الحادثة بذهنى على الفور. منها تمكنتُ من تصوّر عالم «السّانفيل»، وذلك بتشييد حياة الشاب الميكانيكى الذى قُتل هناك بدم بارد.
■ أيمكن اعتبار روايتى «رماد الجذور» و«سيمفونية الجنوب»، بالإضافة إلى «مزرعة الأسلاك الشائكة»، تمثل «ثلاثية» مكملة لبعضها أكثر من كونها ٣ أعمال منفردة؟
- هى ليست ثُلاثية إن شئنا الدقّة، فرواية «قودالا» هى تتمة لذلك الخيط الذى بدأته برواية «رماد الجذور»، ويمكن اعتبارها رباعية أو ثلاثية أو حتى أعمالًا منفصلة، إذ لا يوجد ما يوحّدها سوى موضوعها، وهو ما يمكن ملاحظته دون عناء.
■ ما الذى ألهمك لكتابة روايتك الأولى؟
- ربما الصحراء. فقد وجدت نفسى فجأة فى صحراء مترامية الأطراف، نفس الصحراء التى دفنتْ أحلام الآلاف من الثوّار. لذلك رحتُ أستلهم من قصصهم وأخبارهم وأحلامهم وأمانيهم. وعند ما يبدأ المرء فى قَصِّ القصص لا يتوقف أبدًا. فقد تورط فى اللعبة، وليس ثمة مخرج.
■ فزت بجائزة توفيق بكار للرواية فى تونس٢٠٢٢، فكيف كان استقبال القارئ التشادى لذلك؟
- عند ما يحدث شىء لا يشهده الهامش كثيرًا، تكون ردة الفعل أيضًا مختلفة. وهذا ما حصل مع فوز نص «قودالا»، الذى حظى بتفاعل كبير، خاصة مع المتن الذى يثير الكثير من التساؤلات.
■ ما التحديات التى يواجهها الكتاب التشاديون الذين يكتبون باللغة العربية؟
- أساسًا يعانى الكاتب العربى من تحديات، نعرف جيدًا أنها باتت جزءًا من تفاصيل حياته اليومية، وأُريق الكثير من الحبر فى الحديث عن الأمر. فإذا كان الكاتب العربى، الذى نعتبره نحن أبناء الهامش العربى، ابن المركز، يواجه كل تلك التحديات، فكيف إذا تعلق الأمر بكاتب من خارج خارطة العالم العربى؟
الكاتب التشادى يواجه إشكالية الوصول إلى الكِتاب العربى الذى يوافق أفكاره وتطلعاته وأطروحاته. وثانيًا، أنه لا يستطيع الوصول إلى الناشر الذى يمكن أن يُسهم فى إخراج عمله إلى النور.
ثم حتى وإن نجح فى طباعة كتابه، فلن يكون من اليسير إيجاد القبول والاعتراف، والوصول إلى مؤسسات المركزية العربية. لأنه عندئذ يجد أمامه لافتة عريضة مكتوبًا فيها «خاص بالعالم العربى»، وما عليه فى هذه الحالة، وهو الذى يكتب بنفس اللغة التى تُوحّد هذا العالم العربى، ألا يرفع الراية البيضاء ويستسلم.
طبعًا، لا يمكن التعميم، سأكون مخطئًا إن عمّمت. فأنا نفسى، ومن أول إصدار، وجدت قراء من السودان، وفيما بعد حظيت بقراء ونقاد من السودان والعالم العربى كله، ولكنى أتحدث عن مجمل المطبّات التى تعترض سبيل التشادى الذى يكتب بالعربية.
■ من هم أبرز الكتاب التشاديين الذين يكتبون باللغة العربية؟ وكيف أثروا فى المشهد الأدبى؟ وكيف أثروا بك ككاتب؟
- أخشى القول إننى فهمت سؤالك أنك تتحدثين عن كتّاب السرد، لا كتّاب الشعر. وكما أسلفت يعد آدم يوسف أبرز هؤلاء الكتّاب، نظرًا لكونه يملك حصيلة سردية طويلة الأمد، ثم يمكننا ذكر كتاب آخرين، مثل روزى جدى، وكوثر سالمى، وعلى يوسف ماريل، وصالح عيسى، وغيرهم. ويعتبر موسى شارى واحدًا من أعمدة القصص القصيرة.
■ فى العالم العربى للأسف لا نعرف الكثير عن الروايات التشادية العربية، ما الذى يتوجب على المثقفين التشاديين لتغيير هذا الواقع؟
- ليس أمامنا سوى العمل، والكثير من العمل، ولا شىء آخر.
■ ماذا عن تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة على نشر الأدب باللغة العربية فى تشاد؟
- الإعلام العربى فى تشاد تأثيره ضعيف للغاية، ولا أجد مؤسسة إعلامية يمكن أن نقول إنها أحدثت نتائج مُرضية، اللهم إلا بعض المحاولات الخجولة للتليفزيون الوطنى. لكن يمكن لهذه المؤسسات أن تحدث فرقًا، إذا تعاملت مع التكنولوجيا فى نشر محتوى أدبى أصيل وهادف.
■ هل هناك دعم حكومى أو مؤسسى للكتابة باللغة العربية فى تشاد؟
- لا وجود لمؤسسات داعمة من هذا النوع. وإن وُجدت فهو دعم خجول للغاية.
■ ما الفرق بين الكتابة بالعربية فى تشاد والكتابة بالعربية فى دول عربية أخرى؟
- الفرق فى المركزية. الكاتب فى المركز يمكنه أن يجد طريقه بسهولة، أكثر من الكاتب فى الهامش.
■ كيف ترى مستقبل الأدب المكتوب باللغة العربية فى تشاد؟
- أعتقد أنه سيشهد ازدهارًا غير مسبوق. أرى مستقبلًا واعدًا، شريطة أن نواصل العمل.
■ هل ترى أن هناك إقبالًا من الشباب على الكتابة باللغة العربية فى تشاد؟
- نعم، أكثر من أى وقت مضى.
■ كيف تسهم الكتابة باللغة العربية فى الحفاظ على الهوية الثقافية فى تشاد؟
- أظن أن الكتابة بلغة ما هى محاولة لتأكيد الهوية. وهذا ما نفعله نحن. نؤكد لـ«الفرنكفونية» التى بيدها مقاليد السياسة فى بلادنا أننا لا زلنا هنا. وأن محاولاتها الحثيثة لتطويق أعناقنا ستبوء بالفشل فى النهاية. ونحن نستمد هذه الطاقة من الأدباء الذين سبقونا، وواجهوا فى سبيل هويتهم، الموت والخراب والمنفى. أليست الكتابة منفى أيضًا؟