الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هل ماتت الفلسفة؟.. الفيلسوف البريطانى ديفيد إدموندز يجيب فى حوار حصرى مع حرف

الفيلسوف البريطانى
الفيلسوف البريطانى ديفيد إدموندز

رغم أن علم الفلسفة لم يكن له الحظوة فى بعض الثقافات قديمًا وحديثًا، حتى أن البعض يعتبره مجرد علم للكلام لا يصلح للواقع، إلا أن الفلسفة، حتى وإن لم يدرك كثيرون ذلك، هى المحرك الفكرى لحياة البشر فى جميع مناحيها.

الرؤية السابقة للفلسفة يتبناها الكاتب والفيلسوف البريطانى ديفيد إدموندز، والمعروف ليس فقط بتأليفه العديد من الكتب التى أثرت عالم الفلسفة بكثير من الأفكار، بل هو أيضًا مُضيف مشارك لواحدة من أكثر «البودكاست» الفلسفية شهرةً فى العالم: «Philosophy Bites».

فى السطور التالية، يختص «إدموندز» جريدة «حرف» بحوار حصرى، يكشف فيه عن رؤاه حول موضوعات متنوعة، بدءًا من الأخلاق حتى تأثير الفلسفة على حياتنا اليومية، إلى جانب الحديث عن أحدث أعماله، وغيرها من الموضوعات.

■ فى البداية أود أن أطرح سؤالًا يثقل كاهلى وكثيرين من الأجيال الشابة. هل لا يزال للفلسفة بمعنى «علم الحكمة» مكان فى عالمنا اليوم، الغارق فى هذه الفوضى والحروب والدمار، وفى كوكب يقترب بشكل أساسى من نهايته؟

- لا يحتكر الفلاسفة أى حكمة أو بصيرة. لكن نعم، سيكون هناك دائمًا دور مهم للفلسفة. وهناك بعض المجتمعات تأخذ الفلاسفة على محمل الجد أكثر من غيرها، فعلى سبيل المثال، وكما أعتقد، الفلاسفة يتمتعون بتقدير أكبر فى فرنسا مقارنة ببريطانيا. 

والفلسفة تأتى فى أشكال عديدة. هناك مجالات أكاديمية للفلسفة لكنها ذات أهمية أقل لعامة الناس. ورغم ذلك، الفلسفة لديها الكثير لتقوله حول القضايا الأخلاقية والسياسية الملحة أيضًا.

الطريقة التى نفكر بها فى القيم التى تهمنا، مثل الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة، شكلها فى الأساس الفلاسفة. كذلك مسألة ما إذا كان من الممكن تبرير الحرب، وكيف يمكن تبريرها، صاغها الفلاسفة أيضًا. حتى موضوع كيفية التفكير فى البيئة، هذا أيضًا شكله الفلاسفة.

الصفحة الثانية من العدد الثانى العشرين

■ كتابك الأخير «بارفيت» الصادر فى ٢٠٢٣ هو سيرة ذاتية عن الفيلسوف المعاصر دريك بارفيت.. لماذا اخترت «بارفيت» بالتحديد؟

- إرث «فيلسوف أكسفورد» دريك بارفيت كان محل نزاع، لكن بعض الفلاسفة الجادين يعتبرونه أحد أهم فلاسفة الأخلاق فى القرن الماضى، وهذا وحده من شأنه أن يبرر كتابتى لهذه السيرة الذاتية. 

كان من المفيد أن أعرفه بشكل مباشر، فقد كان مشرفًا على أطروحتى، عندما كنت فى مرحلة الدراسات العليا، وبعد ذلك، عندما كتبت رسالة الدكتوراه، كنت تحت إشراف زوجته المستقبلية، جانيت رادكليف ريتشاردز.

- فى ظاهر الأمر، كانت حياة «بارفيت» مملة للغاية، فقد أمضى كل وقته، فى كلية «أول سولز» بجامعة «أكسفورد»، يقرأ ويكتب. لكن لحسن الحظ، بالنسبة لكاتب السيرة الذاتية، كان رجلًا مثيرًا للاهتمام وغريب الأطوار بشكل ملحوظ. كل من عرفه كان لديه قصة يرويها عنه.

على سبيل المثال، أسقط ذات مرة بنطاله خلال ندوة، لأنه كان يشعر بالحرارة. كتب «بارفيت» عن بعض القضايا المدهشة، مثل كتابته عن مسألة «ما ندين به لأشخاص المستقبل، الأشخاص الذين لم يولدوا بعد». ناقش أيضًا مسألة مهمة هى «الهوية الشخصية»، مضمونها ما يجعلنى نفس الشخص الآن الذى كنت عليه عندما كنت طفلًا، أو نفس الشخص الآن الذى سأكون عليه بعد ٥ سنوات.

فى الحقيقة ما عرفنى على الفيلسوف ديفيد إدموندز هو كتاب «هل ستقتل الرجل السمين؟»، ولم أكن أعرف من قبل مدى صعوبة الإجابة عن هذا السؤال.. ما زلت أسأل نفسى: هل سأقتل الرجل السمين لو كان لى الاختيار؟ وهل إجابات الناس ومواقفهم من هذا السؤال تختلف باختلاف أديانهم وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم؟

■ وُصفت «معضلة العربة الأصلية» عام ١٩٦٧، وهذه المعضلة صيغت على النحو التالى: تخيل قطارًا جامحًا يتجه نحو ٥ أشخاص مقيدين على مساره، إذا لم تفعل شيئًا، سيقتل القطار الخمسة جميعًا، والحل الوحيد للإبقاء على حيواتهم هو سحب الرافعة التى ستغيّر مسار القطار إلى مسار جانبى. لكن لسوء الحظ، هناك شخص واحد مقيد بهذا المسار الجانبى، وإذا سحبت الرافعة، سيغير القطار تجاهه ويقتل هذا الشخص، فماذا عليك أن تفعل؟

- وفى وقت لاحق، عام ١٩٨٦، تصور فيلسوف مختلف حالة مختلفة قليلًا. القطار الجامح سيقتل ٥ أشخاص كما كان من قبل. وأنت تقف على جسر للمشاة تشاهد ما يحدث بجوار رجل ضخم جدًا. وبإمكانك دفع الرجل الضخم من فوق جسر المشاة. سوف يتدحرج حتى الموت، ولكن لأنه سمين جدًا، فإنه سيحجز القطار ويمنعه من قتل الخمسة. ماذا عليك أن تفعل؟

هذا هو اللغز. فى الحالة الأولى، يعتقد الجميع تقريبًا أنه يجب عليك تغيير مسار القطار ذى الرافعة. لكن فى الحالة الثانية، لا يعتقد أحد تقريبًا أنه يجب عليك دفع الرجل الضخم إلى حتفه. ومع ذلك، فى كلتا الحالتين، أنت تقتل واحدًا لتنقذ ٥، فلماذا؟ ما الفارق؟

■ أنت نفسك، ماذا كنت ستجيب على هذا السؤال؟ هل ستقتل الرجل السمين؟

- أعتقد أن معظم الناس على حق. من الصحيح سحب الرافعة فى الحالة الأولى. ومن الصواب عدم دفع الرجل الضخم. وأنا أشرح الأسباب فى الكتاب! مشكلة العربة هذه ذات صلة بالعديد من مجالات الحياة، بما فى ذلك إدارة الحرب. والحقيقة أن كل الضباط المستقبليين فى جيش الولايات المتحدة يتعلمون كيفية التعامل مع مشكلة العربات.

■ بالتأكيد تتابع التطور الهائل والمتسارع لـ«الذكاء الاصطناعى».. ما التحديات الأخلاقية التى يمكن أن تظهر فى المستقبل القريب والبعيد بعد كل هذه الاكتشافات التكنولوجية الكبيرة؟ وما التحديات الفلسفية التى تفرضها مثل هذه الاكتشافات؟ وما المخاوف أيضًا التى ستتبع ذلك؟

- نعم، أنا مهتم جدًا بـ«الذكاء الاصطناعى». فى الواقع، أحرر كتابًا عن أخلاقيات «الذكاء الاصطناعى»، والذى سيؤثر على كل مجال من مجالات حياتنا، بطرق دراماتيكية للغاية. مثلًا العديد من الوظائف التى يقوم بها البشر حاليًا لن تكون ضرورية، لأن «الذكاء الاصطناعى» سيؤديها بشكل أفضل وأقل تكلفة. 

وبالمثل سيثير «الذكاء الاصطناعى» العديد من المشاكل الفلسفية. كيف ينبغى لنا أن نفكر فى الأسلحة المستقلة؟ على سبيل المثال، هل يجب أن نقلق بشأن أن نصبح عديمى المهارات؟ هل سيميز «الذكاء الاصطناعى» ضد بعض المجموعات؟ هل يجب أن نشعر بالقلق بشأن الطريقة التى تعمل بها أنظمة التوصية بـ«الذكاء الاصطناعى»، مثل التوصية بمقالات الصحف والموسيقى والكتب وما إلى ذلك؟ ما الآثار المترتبة على استقلالية الإنسان وحريته؟ هل سيكون من المنطقى فى المستقبل أن نقول إن أجهزة الكمبيوتر واعية وتستحق الحقوق؟

■ نعود إلى السؤال الأول.. كيف يمكن للفلسفة أن تسهم فى حل المشاكل اليومية، وأنا هنا أتحدث عن حلول يمكن للناس العاديين، وليس الأكاديميين المتخصصين، تطبيقها؟

- شئنا أم أبينا، الفلسفة هى ما شكّل عالمنا. كارل ماركس وجون لوك وجون ستيوارت ميل، هؤلاء الفلاسفة، إلى جانب فلاسفة آخرين، غيروا حياة الناس العاديين، سواء سمع الناس العاديون عنهم أم لا.

- الفلسفة ليست كالعلوم. فالنظريات العلمية يمكن اختبارها وإثبات خطئها. أما الفلسفة ليست مفتوحة لنفس النوع من التدقيق التجريبى. ومع ذلك، فإن الفلاسفة مفيدون بعدة طرق. الفلسفة تساعدنا على أن نكون واضحين فى لغتنا، فى اكتشاف الادعاءات الغامضة، والتنديد بالكلام الفارغ، والسياسيون مذنبون بشكل خاص فى هذه النقطة الأخيرة.

- يتمتع الفلاسفة أيضًا بمهارات منطقية دقيقة، لذلك يشيرون إلى العيوب والتناقضات فى الحجج والبراهين، وهذا مفيد فى كل نقاش، سواء كان يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الدين.

■ هل درست الفلسفة من حضارات الشرق الأوسط القديمة؟ ومن كان له التأثير الأكبر على فهمك الفلسفى؟

- من المؤسف أننى لا أعرف سوى القليل جدًا عن فلاسفة الشرق الأوسط، على الرغم من أن والدتى ولدت ونشأت فى مصر. الفيلسوف الشرق أوسطى الوحيد الذى أعرف عنه القليل هو ابن سينا، الذى يربط، من خلال دراسته أرسطو، بين التقاليد الفلسفية الغربية والشرق أوسطية.