ورق الجنة.. كيف تحولت «بشرتنا الثانية» من قطع ستر وحماية لثقافة واقتصاد دول؟
- مصمم أزياء: الأذواق تغيرت.. والمنفتحون صاروا أكثر انغلاقًا والعكس
- اقتصادى: حجم استثمارات الملابس فى مصر غير واضح بسبب تضارب الأرقام
- قصة الملابس.. «كتاب تاريخ البشرية» الذى نرتديه على أجسادنا!
رغم الحكمة القائلة بأن «الجوهر أهم من المظهر»، يظل مظهر الإنسان المتمثل فى ملابسه، العامل الرئيسى فى تحديد الكثير من الاتجاهات التى تسير عليها حياته، فلا يمكن أن يتقدم موظف للعمل فى بنك دون أن يرتدى بدلة أنيقة، أو أن يرقد الميكانيكى أسفل سيارة ليصلح ما بها من أعطال وهو يلبس ثوبًا حريريًا، فالملابس مرآة تعكس طبيعة ووظيفة وميول وأذواق النفس البشرية.
ولا يمر يوم على الإنسان دون أن يسأل نفسه كل صباح قبل الذهاب إلى العمل: «ماذا سـأرتدى؟»، ويعيد تكرار السؤال إذا دُعى لمناسبة مبهجة مثل حفل زفاف أو عيد ميلاد أو نزهة مع أصدقاء، أو حتى مناسبة حزينة مثل الطلاق، الذى بات لسيدات يرتدين ثيابًا خاصة عند حضور إجراءاته، ونظل فى هذه المتوالية طوال حياتنا وكأننا نعيش فقط لكى نلبس.
هذه الحقيقة توصلنا إلى معنى هام، وهو أن الملابس فكرة نابعة من تصوراتنا عن الحياة، وأن الإنسان القديم لم يلجأ إليها إلا لتلبية حاجة طبيعية وملموسة لديه.
نصف مليون سنة
رغم أن علماء «الأنثروبولوجيا» لم يحددوا التاريخ الدقيق الذى بدأ الإنسان فيه يفطن إلى ضرورة تغطية جسده، قبل ظهور مفهوم «الحشمة»، لكنهم قدّروا هذه الفترة بما بين ١٠٠ إلى ٥٠٠ ألف سنة.
لم تكن الملابس وقتها تتجاوز قطعًا من الجلد وفراء الحيوانات، كانت مجرد قطع توضع على الجسد بهدف الحفاظ على الحياة، عن طريق الحماية من البرودة، أو الإصابة من الأسطح الخشنة أو لدغات الحشرات، وفق الموقع الإلكترونى «تاريخ الموضة».
ومع مرور الزمن تطورت الملابس إلى أشكال وألوان، وصار لكل شعب أزياؤه الخاصة، وانتعشت مهنة «التفصيل»، وصار مصممو الأزياء هم المتحكمون والمروجون لأشكال الملابس، وصارت المهنة صناعة كبيرة تقوم عليها اقتصاديات عدة دول.
ظل مفهوم الملابس ومدى أهميتها يتطور بتطور الإنسان وتغيّر المجتمعات، وتحولت الملابس من وظيفة إلى أسلوب حياة ووسيلة يعبر بها الإنسان عن نفسه.
خدعة الخامات
عن تجربته ورؤيته لعالم الموضة وأوضاعه، خاصة فى السنوات الأخيرة، قال مصمم الأزياء، أحمد جودة، إنه عمل فى المهنة منذ ٢٣ عامًا، فى بيئات مختلفة، تعلم وصمم فيها أزياء حسب طبيعة كل مجتمع، سواء فى المدينة أو الريف.
وقال «جودة»: «بشكل عام لاحظت تغير الموضة فى السنوات الـ١٠ الأخيرة تحديدًا، ففى هذه السنوات صارت الموضة تأخذ من التصميمات القديمة وتعدّلها بالحديث، خاصة مع إنتاج أقمشة بتشكيلات وأنواع كثيرة جدًا». وأضاف: «جميع المصممين لاحظوا التحول الكبير فى الموضة والخامات بعد فترة كورونا، فقبل هذه الفترة كنا كمصممين نعمل طوال العام، لكن الوضع تغيّر الآن وأصبح الناس لا يلجأون للمصمم إلا فى المناسبات».
وواصل: «مع الأزمات المالية، رأى كثيرون أن الملابس الجديدة بتصميماتها الخاصة ليست من الأولويات، ورغم ذلك صارت الأذواق أفضل بكثير عما مضى بسبب انتشار الإنترنت».
وأكمل: «لكن للأسف رغم ترقى الأذواق وكثرة التصميمات، انتشرت أقمشة وخامات رديئة لتنفيذها، وهى الخامات الأقل سعرًا وأقل جودة وتبلى سريعًا، عكس جودة الأقمشة قديمًا على محدودية أنواعها، فأصبحت لدينا أذواق وتصميمات عظيمة لكن بخامات رديئة».
وأكد تغيّر أذواق عملائه، الذى لاحظه بكثرة فى السنوات الأخيرة، مضيفًا: «كان لدى عملاء لهم نمط معين فى الملابس لا يخرجون عنه، وفجأة بدأوا يغيرون ما تعودوا عليه مؤخرًا، إما بشكل أكثر انفتاحًا أو انغلاقًا، فلدى عميلات كن يرتدين فستانًا قصيرًا ومفتوحًا وغيّرن إلى أكثر احتشامًا، على عكس أخريات كن متحفظات فى الملابس وصرن أكثر انفتاحًا».
اقتصاد الموديلات
انتقلت الملابس من كونها احتياجًا طبيعيًا إلى وسيلة للتباهى والترقى الاجتماعى، أو حتى إلى سلعة يسعى خلفها الإنسان لإشباع رغبات غير مفهومة لديه، لدرجة أن الأمر تحول لدى البعض إلى إدمان.
ومع هذ التسوق المحموم فى أسواق الأزياء، أصبح اقتصاد الملابس والموضة فى العالم لا يقل كثيرًا عن حجم اقتصاد التكنولوجيا والطاقة، وصارت الملابس من أهم السلع المتداولة عالميًا.
لكن تظل الحالة الاقتصادية والثقافة الجمعية للشعوب هما ما يحددان درجة الإقبال على اقتناء الموضات الحديثة، أو مدى الاحتياج إليها، وأبرز دليل على ذلك هى الحالة التى نشاهد عليها اللاجئين جراء الحروب المختلفة فى أماكن متفرقة من العالم.
ولا تخلو هذه الحالة من تباينات رهيبة، فنجد مثلًا دولة مثل أوكرانيا، ورغم أنها ليست من الدول الغنية، إلا أنها عندما اندلعت حربها مع روسيا، شاهدنا مواطنيها وهم يفرون خارج أراضيهم فى كامل أناقتهم، على عكس الصورة التى رأيناها فى دولة تعانى نفس ويلات الحروب كالسودان، وكيف يظهر لاجئوها على الحدود بملابس مهلهلة بالية، ما يعكس الضعف الاقتصادى للدولة وانعدام القدرة الشرائية لشعوبها.
عن هذه الفكرة، قال الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد والاستثمار والتمويل الدولى: «هناك مقولة للرئيس جمال عبدالناصر، ذكرها عندما كان يقود سيارته هو والمشير عامر، قال فيها: «أرأيت كيف صار شكل الناس أكثر نظافة؟».
وأضاف: «هذه المقولة ذُكرت كدلالة على النتائج الإيجابية لثورة يوليو ١٩٥٢، والتى منها زيادة القدرة الشرائية للشعب، ما انعكس على شكل ما يرتدون، سواء كانت ملابس جديدة أو بجودة أفضل».
وواصل: «يعكس ذلك العلاقة القوية بين الوضع الاقتصادى فى فترة ما وشكل ملابس الناس فيها، مثلًا كان الأب فى فترة من تاريخ مصر ليست ببعيدة قادرًا على شراء بدلة جديدة كل عام، لكن عندما زاد الفقر قليلًا صار الشراء كل ٣ أو ٤ سنوات، وعندما زاد الفقر أكثر أصبح يُعيد حياكة البدلة على الوجه الآخر».
وأكمل: «هذا نموذج باستطاعتنا الحكم من خلاله على الحالة الاقتصادية للمجتمع كافة. ومن هنا جاء مصطلح مجتمع استهلاكى، أى باستطاعته استهلاك السلع باستمرار، مثل النموذج الأمريكى الذى يُعد مجتمعًا استهلاكيًا بامتياز بسبب قوة اقتصاده».
ورأى أنه «بإمكانك الحكم على الوضع الاقتصادى لأى دولة عندما تسير فى الشارع، فإن كانت ملابس الناس مهلهلة فالوضع الاقتصادى متدن، والعكس صحيح».
وعن حجم اقتصاد الملابس فى مصر، قال أستاذ الاقتصاد: «للأسف لا نستطيع أن نحسم حجم اقتصاد الملابس فى مصر بسبب تضارب الأرقام المُعلنة، فكل من اتحاد الصناعات والجمارك وهيئة الاستثمار تصدر أرقامًا مختلفة».
وأضاف: «نرى هذا الرأى مجسدًا فى السنوات الأخيرة فى ملابس سيدات كثر فى مصر، ممن يرتدين العباءة السوداء، خاصة فى الأماكن الفقيرة والمُهمشة، فالنساء يرتدين العباءة على سبيل الاستسهال والتوفير، فالواحدة منهن لا تملك الوقت والمال ولا الرفاهية للذهاب إلى الأسواق وانتقاء الموديلات المختلفة وتضطر بعدها للذهاب إلى مصفف شعر لإكمال مظهرها، فهذه عباءة ربما يصل ثمنها إلى ١٠٠ جنيه، ترتديها الواحدة منهن فى الصيف والشتاء دون أدنى عناء فى التأنق». وبالنسبة لحجم اقتصاد الملابس عالميًا، قال إن هناك دراسة صادرة عن مؤسسة «mordorintelligence»، والتى تُعنى بتقديم تقارير بأرقام دقيقة للمؤسسات المالية، تظهر أن حجم صناعة الملابس فى العام ٢٠٢٣ فترة الدراسة بلغ نحو ١.٣٣ تريليون دولار، ومن المتوقع أن يزيد إلى ١.٦٧ تريليون فى عام ٢٠٢٨، مبينًا أن من أهم أسباب تزايد حجم هذه الصناعة هو التسويق عبر الإنترنت، الذى بلغ ذروته منذ جائحة كورونا.
البعد الاجتماعى
تتغير صناعة واستهلاك الموضة والملابس بحسب عوامل سياسية واجتماعية ومتغيرات ثقافية، فالموضة من صناعة البشر الذين تعودوا على التغير والحركة، وبالتالى لا جمود أو ثبات فى صناعة الملابس.
وفى مصر تعرّض المجتمع منذ عدة قرون للعديد من المتغيرات الثقافية والاجتماعية، التى غيّرت تباعًا شكل الملابس مرات عدة. وفسرت الدكتورة رحاب العوضى، أستاذة علم النفس السلوكى، تلك الظاهرة، قائلة: «أى طريقة لارتداء الملابس تمثل انعكاسًا للبيئة الاجتماعية والنفسية. فالموضة متغيرة لأن الهدف الأساسى منها الربح».
وأضافت: «عندما سيطر الفكر الوهابى على المجتمع المصرى، ظهرت موضة جديدة فى الملابس وفقًا لهذا الفكر، وفى هذه الحالة لم يكن الهدف تطوير الذوق أو الإنسان، وبالتوازى مع انتشار موجات الإلحاد فى العالم، انتشرت ملابس كاشفة عن كل الجسد، وكأن الجسد سلعة تباع بشكل أقرب لسلوك الجوارى».
وواصلت: «فى مرحلة دخول اللاجئين السوريين مصر، انتشرت نوعية وشكل ملابس السيدات السوريات فى المجتمع المصرى، ولذا فإن أى تطور أو ظهور لأى مؤثر بالمجتمع، ينعكس على نوعية الملبس والمأكل، وأدى ذلك لحدوث اضطراب فى الهوية الثقافية والمجتمع».
وأكمل: «طالما ربط منسقو حركات الموضة التصميم بوجود فنان أو شخص مشهور ويقلده الشباب والصغار، حتى وإن كان ملبسًا غير لائق أو غير جمالى شكليًا، وبالأساس الموضة هدفها الاستهلاك والاستثمار؛ لهذا فهى متغيرة».
وتحدثت الدكتورة «رحاب» عن الدور الذى تلعبه الملابس فى التعبير عن الهوية الثقافية والانتماء الاجتماعى، قائلة: «كانت الملابس فى الماضى تعبر عن الهوية، فمثلًا كان للفتاة فى الأرياف لبس معين بوصف معين، لكن الآن صار الكل يتشابه مع بعضه، ولا نرى الملابس التى تعبر عن الهوية الفرعونية أو المنتمية للريف إلا فى المناسبات والمحافل والفن الشعبى».
وأضافت: «على الرغم أننا لا نجد ذلك إلا لدى الشعب المصرى، فإن السودانيين واليمنيين والسوريين لديهم اعتزاز بملابسهم ويصرون عليها، حتى وهم يعيشون داخل المجتمع المصرى، لكن بالتأكيد تعبر الملابس عن الوسط المجتمعى الذى يحيا فيه الشخص، لكنها ليست معبرة بشكل كامل عنه فى ظل وجود العلامات التجارية المقلدة من الماركات العالمية الغالية».
الحالة النفسية
ترتبط الملابس بالحالة النفسية للإنسان ارتباطًا وثيقًا، فقد تقتنى بنطالًا معينًا وتصاب كلما ارتديته بالضيق؛ لدرجة تشعر معها أحيانًا أنه يجلب الحظ السيئ، وقد يحدث العكس ويحتوى دولاب ملابسك على قطعة تشعر معها بكل الراحة وتكرر ارتداءها حتى تبلى.
وعندما نشعر المرء بالرضا عما نرتديه، يكسبنا ذلك ثقة بالنفس، وبالتالى يؤثر على صحتنا النفسية والعقلية بالإيجاب، والعكس صحيح عندما لا يعجبنا ما نرتدى، بل أحيانًا نرتدى بحسب حالتنا النفسية، فعندما نكون محبطين نلبس الملابس العادية التى لا تحتاج إلى مجهود فى ارتدائها، وفى أوقات السعادة نبذل كل طاقتنا لانتقاء وارتداء أجمل ما لدينا.
ووجد علماء النفس علاقة وطيدة بين ما نرتديه وحالتنا النفسية، ولذا أنشات الدكتورة كارولين ماير، عالمة النفس قسم «علم نفس الموضة» فى كلية لندن للأزياء، ونشرت كتابًا بنفس الاسم.
واستضافت جمعية علم النفس الأمريكية الدكتورة «كارولين»، فى إحدى حلقات «البودكاست»، للتحدث عن العلاقة بين الملابس والحالة النفسية للإنسان، فقالت إن «صناعة الأزياء تدور حول الناس، توظف الملايين فى جميع أنحاء العالم والجميع يرتدون الملابس، الملابس هى أقرب شىء إلى أجسادنا، فهى بشرتنا الثانية».
وتوصلت دراسة أجرتها جامعة «نورث وسترن»، للباحثين هاجو آدمز وآدم دى جالينسكى، إلى أن الملابس تؤثر بالفعل على الحالة النفسية للإنسان. وقال الباحثان خلال الدراسة: «عندما ترتدى بعض الملابس، فإنها يمكن أن تؤثر على حالتك المزاجية، لقد افترضوا أن ما ترتديه يمكن أن يحمل معنى رمزيًا، ويغير عقليتك ببساطة من خلال قوة الإيحاء».
واكتشف الباحثان أن ارتداء معطف المختبر أدى إلى تحسين أداء المهام لدى الأشخاص الذين درّسا لهم. ولأنهما ربطا المعطف بالنجاح، فقد أصبحا أكثر كفاءة عندما ارتدياه.