استعادة غسان كنفانى
فى قلب ما أطلق عليه فى أدبيات الصراع العربى الإسرائيلى، الثورة العربية الكبرى فى فلسطين «١٩٣٦-١٩٣٩»، صافح غسان كنفانى العالم، والقضية معًا، فجاء ميلاده فى أبريل ١٩٣٦؛ أى قبل اثنتى عشرة عامًا تقريبًا من النكبة، فى عكا فى شمال فلسطين، وعاش طفولته فى يافا حتى العام ١٩٤٨، ومنها خرج إلى عواصم عربية عديدة، فى بيروت، والكويت، ودمشق، حتى كانت فاجعة رحيله فى ٩ يوليو فى العام ١٩٧٢، بقنبلة زرعها عملاء الموساد فى سيارته، ما أودى بحياته، وحياة لميس ابنة أخته.
تتجدد ذكرى غسان كنفانى بتجدد مشاهد الحرب والدمار والقتل الجماعى بوصفها مفردات لعالم خرب لم يعرف طريقًا للعدالة أكثر من الإنشاء، والبلاغة المدججة بقاموس لا ينتهى عن الظلم، والعمى، وفقدان البصيرة.
كانت الأيديولوجيا دومًا عائقًا أمام الإبداع، خاصة إذا استولت عليه، وافتقر النص إلى ما يمنحه جدارته الجمالية، وتحول إلى صخب زاعق، وعرف تاريخ الأدب استثناءات قليلة استطاعت تحويل الواقع الحى إلى فن محمل بالانحيازات الفكرية والأيديولوجية من دون أن تفقده جمالياته؛ وكان من بين هؤلاء الروائى الفلسطينى غسان كنفانى.
لعب غسان كنفانى على سردية المقولات الكبرى، ومثلت تيمة المقاومة والرفض آلية أساسية حاضرة فى أعماله جميعها؛ وهى ليست آلية دلالية فى الحقيقة فحسب، لكنها بنية مهيمنة على فضاء نصوصه، وممثلة لمركز الثقل داخلها، مصحوبة دائمًا برصد الانفعالات النفسية لجماعة بشرية مأزومة؛ أو أفراد متعثرين ومرتبكين إزاء واقع ضاغط، وموحش.
هنا وعبر هذا الفهم نرى غسان كنفانى، العائد إلى حيفا، والراصد لرجال فى الشمس، والمرابط فى أرض البرتقال الحزين، والهامس إلينا بآخر ما تبقى لنا، والحامل نبوءة أم سعد وروحها الممزقة، هنا يوجد غسان كنفانى المشغول بناسه، والمدافع عنهم، عن ذاكرتهم الجمعية، عن ماضيهم وراهنهم المنهك بمآلات من القمع والقتل والاستبداد.
فى روايته الأشهر «رجال فى الشمس»، ثمة أبطال فى أزمة؛ وهو المفهوم الأقرب من مفاهيم الرواية الواقعية فى أحد تجلياتها، وهم أبطال مهمشون للغاية، ومهشمون أيضًا من الداخل، رغم الصلابة التى أظهروها. فثمة ارتحال قلق، لثلاثة من الأبطال الفارين من جحيم الحياة إلى جحيم آخر، هروب تراجيدى من الموت إلى الموت؛ يحيل على واقع عبثى ومنهك لأفراده؛ الذين يبدون فى قيظ الصحراء؛ وداخل صهريج المياه المغلق بإحكام؛ مثل المستجير من الرمضاء بالنار، شخوص متنوعون يعبرون عن أجيال متعددة عاينت المأساة الفلسطينية، يقود سيارة حتفهم الجماعى، القديمة والمتهالكة، الانتهازى «أبوالخيزران»، الذى يسلمهم إلى الموت فى جوف الصحراء داخل صندوق معدنى يعد كفنًا متنقلًا: «كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم .. كما لو أنها آخذة فى نطح باب جبار لقدر جديد مجهول، وكانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية»٠
وتبدو الجملة المركزية فى الرواية «لماذا لم يدقوا الجدران» منفتحة على عشرات الدلالات والتساؤلات، فهل استسلموا لمصيرهم داخل صهريج المياه بالفعل، أم أنهم دقوا الجدران كثيرًا ولم يسمعهم أحد، أم يا ترى دقوا الجدران ثم استسلموا لمصيرهم، أم أنهم انشغلوا بالنجاة فكان الموت حصادهم المر.
إن الغوص فى سيكولوجية الشخصيات فى رواية «رجال فى الشمس»، من أهم ما ميز هذا العمل، فضلًا عن استخدام المونولوج الداخلى فى التعبير عن المسكوت عنه داخل الشخصية الروائية، واستخدام الصورة السردية التى تجعل المتلقى قادرًا على تخيل المشهد الروائى تخيلًا بصريًا ضافيًا.
ثمة انتهازى دومًا، متلون كالحرباء فى أعمال كنفانى؛ نراه مثلًا فى «زكريا» المتواطئ مع الاحتلال الصهيونى فى رواية «ما تبقى لكم»، التى تعاين سردية الخروج من يافا على يد العصابات الصهيونية، فيتجادل خطان فى السرد، أحدهما يشير إلى بشاعة الاحتلال، والآخر يحيل على خسة الخيانة، حيث يسعى زكريا إلى اغتصاب مريم، الرامزة إلى وطن بأكمله، والتى تقتله فى النهاية، وكأن الجسد الفلسطينى قادر على لفظ أعدائه من الداخل، كما يثأر حامد لنفسه، وتبدو الأيديولوجيا حاضرة هنا وذات صوت مسموع فى بعض الأحيان.
وتبدو الجملة التى تتواتر فى مقاطع عديدة فى «ما تبقى لكم» بمثابة الدلالة الأساسية فى العمل: «ما تبقى لها/ ما تبقى لي/ ما تبقى لكم/ حساب البقايا/ حساب الموت/ حساب الخسارة/ ما تبقى لى فى العالم كله»، وهى عبارات سردية عاصفة، ومزلزلة، متكئة على معطى تاريخى يتجاوز لحظة الكتابة والتلقى معًا، فتبدو مثل الملاذ الأخير، حيث الروح التى تعاين العالم بعد سلسلة من النكبات والهزائم، والرغبة العارمة فى المواجهة ورفض الاستسلام.
ثمة ملامح أخرى فى أعمال غسان كنفانى، من بينها توظيف الجمل السردية التى تتسم بالنزعة الإنسانية فى العموم، وترتبط فى جوهرها بعمق القضية فى الوقت نفسه، ففى روايته (عائد إلى حيفا) نرى مثلًا هذا المقطع السردى: «إننا حين نقف مع الإنسان، فذلك شىء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر.. هل تستطيع أن تفهم ذلك؟ حسنًا، دعنا نتصور أنك استقبلتنا- كما حلمنا وهمًا عشرين سنة- بالعناق والقُبل والدموع.. أكان ذلك قد غيّر شيئًا؟».
تبدو «عائد إلى حيفا» رواية فى قلب الدراما، والتحولات العاصفة؛ فثمة أسرة تترك بيتها فى حيفا «دوما هناك حيفا، أو يافا؛ وهناك العصابات الصهيونية التى تقوم بطرد الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم»، لتعود بعد عشرين عامًا، وقد تركت رضيعها».
ذلك الرضيع الذى لم يستطع الأبوان العودة إليه لأخذه بعد التدافع والقتل والإبعاد فى لحظة مروعة من عام ١٩٤٨، لتكون المفاجأة/ الكارثة/ الأزمة أن «خلدون الرضيع قد صار جنديًا فى جيش الاحتلال، وقد صار اسمه الذى يعرفه (دوف)»، ومن ثم تصبح الحوارات الروائية مثارًا للاحتدام والتباين.
وبعد.. يمثل غسان كنفانى أحد أبرز من عبروا عن الهوية الفلسطينية، والحفاظ على ما تبقى من الذاكرة المثقوبة؛ بسرود تنحاز إلى المعنى من جهة، وإلى جوهر الأدب من جهة ثانية، بوصفه سؤالًا ممتدًا عن ما هو الإنسان؟ وانتصارًا لإنسانيته ضد كل ما يهدد وجوده، ويكرس وحشته فى عالم تقوده آلة جهنمية من الحرب، والقتل، والدمار.