العدمى المغامر حمدى أبوجليل.. الراحل الذى لا يهدأ
- تجربة حمدى أبوجليل مغامرة جمالية متجددة فى متن الرواية المصرية والعربية
يغلبنا الشجن، وتحيينا الذكرى، أو تؤسينا، حين نستعيد من نحبهم، ومن ارتبطوا معنا بمداد الكتابة الذى لا يمحى. هذا عين ما يمثله بالنسبة لى صديقى الراحل الروائى الكبير حمدى أبوجليل «١٦ أغسطس ١٩٦٧ - ١١ يونيو ٢٠٢٣». حمدى الذى لم يمر يوم تقريبًا دون أن نتهاتف، ولم يمر أسبوع دون أن نلتقى مرة أو مرتين، ولم أزل أذكر حواراتنا التى لم تنقطع حتى عشية رحيله المربك لكل من عرفه واقترب منه، وكان لافتًا بالنسبة لى محاولاته الدائمة التغريد خارج السرب، عبر طاقة هائلة من التمرد، وبعض العدمية، التى جعلته يخفف على نفسه وعلى الآخرين وقع الأشياء مهما كانت ثقيلة. كان يحضر بيننا روائيون مختلفون، مغامرون، ليسوا أبناء لما أسميه «السردية الجاهزة». لذا كنا نتحدث عن نايبول، وسلمان رشدى، وساراماجو، وغيرهم.
كان حضور الروائى فى نصه بذاته هاجسًا كبيرًا لدى حمدى أبوجليل، ولذا ستجد مثلًا بطله المركزى فى «قيام وانهيار الصاد شين» يسمى باسم الكاتب نفسه «حمدى».
فى حياة أى أمة مبدعة كثير من الكتاب، وقليل من المغامرين، أولئك الذين يتعاطون مع الكتابة بوصفها فعلًا يوميًا، ليس شرطًا فيه التدوين، وإنما القراءة واستلهام الفعل نفسه فى الحياة اليومية، وهذا أهم ما ميز أبوجليل عندى.
عام انقضى سريعًا؛ لا يمكننى أن أراوغ اللغة جازمًا بأن غياب حمدى أبوجليل قد انتهى أثره، فلا تزال جلسة القراءة للمقاطع الأولى لروايته الأخيرة «ديك أمى» بصوته، فى بيته، وفى المقهى القريب منى، ترن فى أذنى.
خمس حلقات مركزية فى منجز حمدى أبوجليل الروائى، مثلت كل رواية تنويعة مغايرة فى متن مشروعه الإبداعى، فكانت «لصوص متقاعدون»، و«الفاعل»، و«قيام وانهيار الصاد شين»، و«يدى الحجرية»، و«ديك أمى».
ولم تنفصل التصورات الجمالية التى انطلق منها الروائى الراحل عن جوهر نصوصه الروائية؛ حيث الولاء للنص وحده، وتعبيد ما أسماه «رواية الإنسان» التى تغاير فى مفهومها الدلالى «رواية القضية»، فالكتابة لديه لا ينبغى أن تحمل بما هو خارجها، وبدت الذات المهمشة والمهشمة والعادية مركزًا للفعل السردى، وبدت التفاصيل الصغيرة تشكل اللوحة الكلية، وابتعدت الكتابة على نحو جلى عن المقولات الكبرى، التى أصبح يعاد إنتاجها فى السردية الجديدة من خلال عناصر ذاتية، وهامشية، فكانت « لصوص متقاعدون» احتفاء بالحكاية ذاتها، وببشر على الحافة، يمثلون هوامش ما بعد القاع، تحضر نكاتهم وبذاءاتهم وشواغل العيش لديهم فى كل تفصيلة داخلها.
وبدت تيمة التعبير الجمالى عن مكان متعين «منشية ناصر» حاضرة دومًا فى الرواية، لكن الجديد الذى حملته كتابة حمدى أبوجليل آنذاك تمثلت فى الهجين المختلف للغات المتعددة، وإيقاع الحياة الرثة، والسخرية المتواترة فى كل شىء ومن كل شىء، وقد تضمر السخرية أحيانًا بعضًا من التأمل، وقد تحضر الحكمة فى معاينة الزمن من قبيل المقطع التالى: «إلى فترة قريبة كنت أظن أن حياة الواحد منا تسير على خط معاكس لماضيه، وكلما تقدم به الزمن تأكد من استحالة عودة هذا الماضى مرة أخرى، وكنت أتخيل هذه المسألة على النحو التالى: حاضر حياتنا هو قطار نركبه، وماضينا تلك المشاهد والشخصيات التى تتوارى بمجرد اندفاع قطارنا من جانبها، ومن فوق مقاعدنا يكون كل شىء مندفعًا، الماضى للخلف والنسيان، والحاضر للماضى، وحياتنا لنهايتها المحتومة، ولكن تكرار معارك هذا البيت جعلنى أشك فى ذلك، بل أتأكد عن قرب من إمكانية عودة الماضى، ومن أن حياة الواحد ما هى إلا مجموعة من المشاهد المكررة».
وبدا تكنيك الوحدات السردية المتناثرة، والمكونة لمجمل الرواية التى لا تعرف نمط الرواية التقليدية، حيث لا مركزية لحدث محدد، ولا وحدات ثابتة زمنية أو مكانية، وإنما ضربات متوازية ومتقاطعة على متن الرواية تشكل بنيتها السردية.
وترسخ هذا المنحى فى «الفاعل» التى حازت جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية فى القاهرة، التى اقتربت أكثر مما أسميه «رواية الذات»، حيث ثمة شخص يعمل فى الفاعل يريد أن يكتب رواية، ليس هذا كل شىء، وهو كل شىء فى آن،. إنها تعبير عن المنطق الجمالى الحاكم لهذا النسق من الكتابة، التى لا تتعامل مع الرواية بقداسة، وإنما تسعى إلى مزيد من المتعة الفنية، واللعب الجمالى المشغول بالإنسان وليس ما تعبئه القضية المطروحة من مدلولات.
وفى روايته «قيام وانهيار الصاد شين» يتجه الكاتب إلى رصد مجموعات اجتماعية هامشية «الصاد شين»، يعرفها جيدًا، فنصبح أمام زمن يتداعى، وتحولات مرعبة تخص الأمكنة والبشر على كل المسارات السياسية والثقافية، ومعها مؤشرات زمانية تتصل بالزمن الداخلى للرواية، من جهة، وترتبط بالسياق العام من جهة ثانية، خاصة فيما يتعلق بالسبعينيات التى شهدت تحولًا عاصفًا فى بنية المجتمعات العربية، غير أن رصد تجليات السبعينيات هنا لا يتطرق للمدلول السياسى القح، قدر ما يتعلق بالتغيرات الاجتماعية العاصفة التى أوقعت هذه المنطقة من العالم فى قبضة الرجعية المدعمة بسطوة المال ومظاهر التدين الزائف، التى استشرت فى التسعينيات من القرن الماضى مع تغول جماعات الإسلام السياسى، ويدرك الروائى هنا تلك الصلة الفكرية بين عقدى السبعينيات والتسعينيات التى كانت ارتفاعًا لوتيرة النغمة الدينية المسيسة فى محاولتها لالتهام العالم العربى، ليتحرك النص فى تلك المساحة الجدلية التى أسميها بتحولات المكان/ تحولات البشر.
وقد اعتمدت الرواية فى بنائها على آلية التوالد الحكائى، وهى ابنة وفية لصيغة الحكاية الشفاهية، التى يتقنها حمدى أبوجليل، وتعد تقنيته السردية الأثيرة، مع آلية السخرية.
تتسع جغرافيا السرد فى «قيام وانهيار الصاد شين» باتساع خبايا ليبيا وأراضيها الشاسعة، وبالتداخلات بين صحراء الفيوم وليبيا، بين بدو الغرب وبدو الشرق. وتعد «الصاد شين» اختصارًا لمفردتى الصحراء الشرقية، حيث يوثق الكاتب الطابع البدوى، وينحو أحيانًا منحى تسجيليًا معنيًا بالإخبار عن ناسه، كما يفعل فى فصله «مصدر الصاد شين» على سبيل المثال، أو فى فصله المركزى المتماس مع عنوان الرواية أيضًا «الصاد شين».
وما بين التقلبات والارتحالات القلقة للراوى البطل وأشياعه وخصومه، وذويه من أبناء الصاد شين «الصحراء الشرقية»، أو أقربائه من الليبيين الخلص، وما بين البدو والفلاحين، والمهاجرين والوافدين، ما بين الإخفاق فى الهجرة إلى إيطاليا، وما بين السفر بعيدًا والعودة فرارًا، تتشكل ملامح التغريبة السردية التى تغاير المستقر من التغريبات، لكنها تحتفظ بروحها القلقة، روح الفتى «الصِّيد»، أى ذلك الفتى الذى يعدو سريعًا، الخطّاف، الذى يقنص الأشياء، ولم يزل يحتفظ بسذاجة ريفى عايشه، أو بدوى كانه.
لا يلبث أن يكسر الكاتب إيقاعه اللغوى منذ اللحظة الأولى، وكأن ثمة إصرارًا على مواصلة الحكى بطريقته ذات الطابع الشفاهى، إن الأسلوب هنا يبدو ابنًا لروح الكتابة والأنساق الفكرية والجمالية التى ينطلق منها الكاتب ذاته، ويصدر عنها، معتمدًا على ذلك العقد السردى بينه وبين متلقيه، منذ المفتتح وحتى الختام.
تعد السخرية تيمة مركزية فى الرواية، وبنية مهيمنة عليها، وتتجاوز السخرية هنا مساءلة العالم والواقع المحيط إلى السخرية من الذات نفسها، والتندر الدائم عليها، وتتعدد مستويات السخرية من توظيف المفارقات الساخرة مثل مشهد العم الذى يحرص على امتهان زوجة أخيه بعبارة «يا ولية»، وبان ابنها «الراوى/ البطل» ليس أكثر من «تربية ولية»، مع أن زوجة العم التى يأتمر بأمرها ليست أكثر من «ولية» أيضًا بتوصيف النص.
تأخذ السخرية بُعدًا آخر، يتجلى فى تلك العلاقة المضمرة الرهيفة بين الأم والراوى: «أمى كانت تقول لى: (أنت مش ماشى على قدك). وكنت باقول لها بغيظ (أنا لو مشيت على قدى تمامًا هنام)، هاغطس تقريبًا، مش هاتحرك أساسًا».
يكسر الكاتب أفق الإيهام بين المتلقى والنص دائمًا، ويضع ذلك فى إطار الحكى الشفاهى الذى يعتمد عليه فى بناء نصه، ويوهم أحيانًا متلقيه بالتداعى الحر، وفى النص ما يسمى بأرق الهويات وتصارعها، وحضور لمساءلة الذات على نحو يتسع طول الرواية من قبيل: «دائمًا أنا الروح الساذجة فى المحفل اللئيم».
يصحب الإخفاق الراوى فى رحلته فى ليبيا وإيطاليا معًا، ولا تلبث الأيام التى تبتسم أن تدير ظهرها ليعود فارًّا من الألبان مواصلًا هوايته فى الضحك على كل من يعرفهم وآخرهم «كريم» المغربي، الذى يعده بأنه سيطير إلى فرنسا ليجلب المال من أقاربه، ويطير بالفعل، ولكن إلى مصر، تاركًا كريم لمصيره المحسوم تقريبًا، وما بين أجواء الارتحال القلق فى بلدان وأمكنة مختلفة، تلوح روح الشطار والعيّارين القادرين على التخفى، مثلما يهرب هنا الراوى البطل من الأفارقة، ومن الشرطة الليبية، ومن خفر السواحل، ومن البوليس الإيطالى، حياة تبدو خشنة وقاسية ومتصعلكة لكنها لن تعدم قارئها سخرية من العالم الذى يقرؤه، سواء بوصفه شريكًا فى إنتاجه، أو متفرجًا عليه، أو نائيًا بنفسه فيشاهده عبر زجاج، لكن التورط فى هذا العالم سيلاحق متلقيه الذى سيكون هنا فى قلب المأساة، قلب الفوضى، قلب العبث.
وفى «يدى الحجرية»، تحضر الذات الساردة منذ البداية، منذ العنوان المنحوت كما نحت يحيى ابن أخت الراوى يدًاحجرية تشبه يد الخال الغارق فى التيه، والفوضى، والارتباك.
اليد اليسرى لكاتب يحضر فى النص بنفسه، ولا يحضر متخفيًا خلف الراوى أو الشخصية الروائية على سبيل المباعدة الفنية، ويتم التركيز على هذا، والإبانة عنه بلا مواربة، إذ إن هناك إلحاحًا على هذا الحضور تكشف عنه عشرات المقاطع السردية داخل الرواية.
إن الرغبة فى نسف المسافة بين الراوى الضمنى للعمل والمؤلف، تتجلى هنا فى استحضار ياء المتكلم فى العنوان، فبدلًا من «اليد الحجرية»، مثلًا أو حتى «يد حجرية»، يكون العنوان نصًّا على التماهى بين الكاتب والكتابة، يليه المفتتح السردى «بيت أمى» بضمير المتكلم، حيث وضعية السارد العليم، وموقعه داخل الحكاية بوصفه فاعلها الرئيسى: «أكتب الآن فى بيت أمى».
تنهض الرواية على تكنيك الوحدات السردية المتصلة المنفصلة. كلّ مقطع يعبّر عن حالة سردية داخل المجرى العام للرواية، وتتكامل هذه المقاطع وتتآزر لتشكل النسيج الروائى للنص الذى يتوزع بين أمكنة مختلفة، وأزمنة متعددة، وحيوات متباينة أيضًا لشخوص متنوعين «أوروبيين، وأفارقة، وآسيويين».
ويتيح هذا النسق من البناء للكاتب حرية الحراك الزمانى والمكانى، لذا تجد فى الرواية انتقالات متعددة بين الآن وهنا، وثورة ١٩١٩ فى مصر، وثورة الطلبة فى فرنسا ١٩٦٨، وستجد حضورًا لمحمد على باشا وسعيد باشا، وشيوخ قبائل الرماح الأربعين الذين ذبحهم سعيد باشا فى سراية «أم حليجة» بمكيدة خادعة.
ثمة جغرافيا سردية متعددة أيضًا بين تولوز «فرنسا»، الفيوم «مصر»، إسبانيا وتنرانيا وكينيا. فالحدث الروائى يحدّد وجهته السارد الرئيسى/ الكلى الذى يحكى قابضًا على زمام الحكى منذ البداية، وحتى النهاية، ويختار أمكنته، وفضاءاته «سواء فى عزبة دانيال بالفيوم، أو تولوز، أو فى سراية أم حُليجة، أو فى بيت مراية»، ويحدد المحكى عنهم أيضًا، سواء أكانوا شيوخ الرماح الأربعين، أو أبناء العِزب التسع، أو فلاح بنى سويف، أو المخلطين أو الفرنسيين. وسواء أيضًا المرأة الفرنسية المركبة «مراية» أو البدوية «رسم» الأنثى المتفجرة، والجدة القاسية التى رفضت زواج «كرومة» البدوى من «شفيقة» الفلاحة.
وعبر هذا الارتحال القلق للراوى البطل الباحث عن أحلام الكتابة، والتحقق، والنهم للحياة والنساء، تتشكل سرديات النص الموزعة بين ثقافات الشرق، والغرب، وتكوينات الهويات الفرعية المزدحمة بتباينات القرى والمدن، البدو والفلاحين، فى ظل عالم من المجازات اليومية الخشنة.
تتنوع التكنيكات فى «يدى الحجرية»، تبدأ من كون السخرية بنية مهيمنة Dominant Structure، وتتسع لتشمل التناص مع الشعر البدوى، والخضوع لمنطقه الجمالى فى استحضار الحكاية، والاهتمام بروايته، وتتولد مقاطع من قلب عالم موغل فى محليته وخصوصيته، يقدمه الكاتب بلا تعقيدات، من قبيل ما نرى فى حكاية «فرحات بومحارب» وقصيدته فى الفصل السردى «يوم حرق اللحاف الساتان الأحمر».
ويلجأ الكاتب كثيرًا فى روايته إلى توظيف تكنيك كسر الإيهام، ويستعمله فى أكثر من موضع، ويؤدى أكثر من وظيفة داخل الرواية، من قبيل: «وفجأة وقعت ثورة ١٩ فصار من أبطالها المجهولين، أرى أصدقائى يبتسمون، لِنقل: كان إحدى ضحاياها المخفيين. وهو كان ضحية لا مراء فيها، ومن حقنا أن نطلب تعويضًا فيه».
تتعدد اللغات داخل الرواية، ما بين الفصحى بتنويعاتها، واللغة المحكية، وتوظيف معجم ابن مكانه، وبيئته المحلية، وتشكيل تباينات فى إيقاع الحكاية ذاتها من خلال اللغة المستخدمة، والموزاييك المتنوع الضفاف فى ظل بنية روائية متناغمة.
وفى روايته الأخيرة «ديك أمى» تحضر سردية الأم، ولكن على نحو غير تقليدى، فهى تحضر بعالمها ولوازمه، ومظاهره، من الطيور والحيوانات إلى الجمادات المتناثرة، وتبدو الأم حلقة مفصلية يؤرخ من خلالها الراوى الرئيسى إلى حقب زمانية، وتحولات فى مجرى الحياة العامة للمجموعة الاجتماعية «البدو» محل الفعل الروائى: «جيل أمى هو الجيل البدوى المصرى الذى تحققت فيه إصلاحات محمد على باشا لتوطين البدو المصريين. تحولوا كما خطط وأراد من البداوة للفلاحة، انتقلوا من الرعى للزراعة ومن الخيمة المتنقلة للبيت المستقر للأبد. جيل أبيها انتقل أيضًا وامتلك الأرض الزراعية، وعاش فى البيوت الحجرية ولكنه لم يصدق أو لم يستوعب أو لم يتهيأ للفلاحة والاستقرار. وجيل أمى فهم واستوعب وصدق وصاروا فلاحين وكأنما ولدوا أساسًا فلاحين ولا تستطيع أن تفرق بينهم وبين الفلاحين إلا فى اللهجة التى ذهبت أخيرًا أو كادت مع جيلى التليد.
ومع استقرار جيل أمى تمامًا، بدأ عصر الحمير بعد أن كان البدو يعتدون ويتفاخرون بالحصان. لا فلاح من دون حماره، وصار علية القوم يركبون الحمار وليس الحصان. وظهرت الحمير العالية والبرادع الحمراء المريحة الفخمة وشاعت أيضًا الأشعار البدوية التى تمدح الحمير وكأنها خيول أو كما كانت تمدح الخيول. طبعًا الحمير كانت موجودة بيننا فى أى زمن، ولكن لشيل الغلة ونقل السباخ ولم تتحول إلى ركوبة تُمدح بالأشعار إلا فى جيل أمى».
كان التماهى بين المؤلف «حمدى أبوجليل»، والراوى الضمنى الذى يظهر باسمه ورسمه بارزًا، ومنتجًا للدلالة السردية من قبيل المقطع التالى:
«أمى سنت نخل غيطها علينا نحن الخمسة؛ كل حد له نخلة باسمه، والعجيب إنهم طلعوا شبهنا أو شبه مصائرنا فى الحياة، وأنا أخدت عنها هذه الخصلة، وسميت روايات على أفراد أسرتى: (لصوص متقاعدون روايتى الأولى هالة)، و(الفاعل دنيا)، و(قيام وانهيار الصاد شين هشام)، و(إيدى الحجرية تهانى)، وهذه؛ ديك أمى أمى، لها وعنها بدون غرض إلاها».
وبعد.. مثلت تجربة حمدى أبوجليل الروائية مغامرة جمالية متجددة فى متن الرواية المصرية، والعربية، تبقيه حتى بعد رحيله، ليس من خلال الطبعات المتعددة لأعماله الإبداعية، ولا ترجمة نصوصه لمعظم اللغات الحية؛ فحسب، ولكن لاحتوائها على رهانات فنية تملك الأثر المقيم فى جوهر الرواية الجديدة بوصفه أحد أهم أيقوناتها فى السردية المعاصرة.