الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أحمد صبرى أبوالفتوح.. صاحب العالـم

الروائى المصرى أحمد
الروائى المصرى أحمد صبرى أبوالفتوح

يراكم الروائى المصرى أحمد صبرى أبوالفتوح منجزًا سرديًا يخصه، بلا ضجيج أو افتعال، بدءًا من روايتيه «طائر الشوك» و«جمهورية الأرضين»، وينطلق من بيئته المحلية، وتاريخ الجماعة البشرية التى ينتمى إليها مثلما صنع فى «ملحمة السراسوة» بأجزائها المتعددة «الخروج/ التكوين/ أيام أخرى/ شياطين.. ملائكة/ حكايات أول الزمان»، أو يرتحل إلى عوالم هامشية ترتبط بأحداث فارقة كما حدث فى «أجندة سيد الأهل»، أو معاينة فضاءات مغايرة فى «برسكال» أو المزج بين المقولات الكبرى والتفاصيل الصغيرة فى «تاريخ آخر للحزن»، أو يرتحل صوب ما هو إنسانى خالص، فى رواية الجدل الخلاق، والأسئلة المتجددة «حكايات من جنازة بوتشى». 

أحمد صبرى أبوالفتوح 

رواية المرئى واللا مرئى

أما روايته الجديدة «صاحب العالم»، الصادرة فى القاهرة «دار الشروق»، فهى لا تمثل مجرد تنويعة جديدة من تنويعات هذا المشروع الروائى الذى أشرنا اليه الآن، لكنها تخطو بهذا المنجز السردى خطوة فى سياق معاينته عوالم جديدة ابنة الآن وهنا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إبراز مساحات التقاطع بين المتخيل والواقعى، بل وخلق حالة من التماهى الجمالى بينهما فى معظم الأحيان، من جهة ثانية. 

«عبدالحميد دهمش»، البطل المركزى فى الرواية، موظف كلاسيكى يترقى على نحو مألوف، له عالمه الخاص وقدرته على معاينة الجمال الأنثوى، ورصد مفاتنه، ومزالقه بعين خبير متمرس، وهناك «مجمع شركات صناعة الحب» الذى يسعى للتواصل معه للاستفادة من خبراته فى معاينة الجمال الجسدى؛ لتخرج الحكاية من مساراتها الواقعية التى تعاين موظفًا برجوازيًا له أشباهه الكثيرون، إلى مسار تخييلى يتمثل فى مجلس إدارة العالم»، ورئيس مجلس الإدارة الذى هو «صاحب العالم».

ويتجادل هذان المنحييان، ويتقاطع هذان المساران الروائيان، ويشكلان مسارًا سرديًا واحدًا، مركزه «عبدالحميد دهمش»، وفضاؤه الإنترنت، وعالمه متسع، ومتعدد ما بين عمارة توحيدة «توتو»، ودهمش، والجدار الفاصل بين شقتيهما، والذى يعتقد دهمش فى كونها تتجسس عليه من خلاله، بل وإنها قد تمشى على الجدران، فى مفارقة ساخرة تبرز هلوسات دهمش، وهواجسه. وهناك أيضًا النهر بوصفه جغرافيا سردية داخل الرواية، فيه تنبت حكاية عطوان المراكبى، والحارة الشعبية حيث ألفت زاهر، ونجمات الإغراء اللواتى يمثلن جغرافيا أخرى متعددة المشارب.

غلاف كتاب صاحب العالم

بنية الرواية

تتشكل الرواية من تسعة فصول سردية تتفاوت فيما بينها فى المساحة والكمية، وتشكل فى مجموعها المتن الحكائى للرواية. 

ويلجا فيها الكاتب أحمد صبرى أبوالفتوح إلى صيغة التقسيم المقطعى المعتمد على الترقيم العددى، وبما يتيحه هذا التقسيم من ديناميكية فى الحراك الزمانى والمكانى، وفى حركة الشخصيات، وهذا ما يصنعه الكاتب فى روايته، فيغاير منطقها الكلاسيكى المعتاد، ويعاين عالمًا جديدًا مسكونًا بالهواجس والمراقبة والاصطياد والمؤامرة وانتهاك الخصوصية والاستلاب، والتشيؤ. 

يُدخل الكاتب متلقيه فى قلب الحدث الروائى مباشرة، بلا مقدمات، تسبقه الإحالة على نص نيتشه الملهم «هكذا تكلم زرادشت»، عبر تصدير دال، يحيلك على بداية الرحلة، أى رحلة زرادشت فى كتاب «نيتشه» حين اتجه إلى العزلة فى الجبال، ومكث عشر سنوات، ثم صحا ذات صباح مخاطبًا الشمس: «أى سعادة ستكون لك أيها الكوكب العظيم لو لم يكن لديك هؤلاء الذين تنيرهم. لعشر سنوات وأنت تتردد على مغارتى هذه، ولولاى أنا ونسرى وحيتى لكان قد أصابك الملل من نورك، ومن هذه الطريق». 

غلاف رواية ملحمة السراسوة - أيام أخرى

وتتكئ الرواية أيضًا على آلية الحوارات السردية بين الشخوص، وتلعب الديالوجات دورًا مركزيًا فى الكشف عن تقاطع المساحات بين الماضى والحاضر، والإبانة عن التاريخ المطمور للشخصيات داخل الرواية، من قبيل الكشف عن البنية الاجتماعية التى أتت منها توحيدة أو توتو، وزوجها المقاول «الحاج صبحى نوار»:

«لكن الصديق لم يستسلم، فقال متطوعًا:

ـ أليست هى أرملة المرحوم الحاج صبحى نوار المقاول الشهير؟! الرجل كان جارنا ونحن صغار، وأهله كانوا يكملون عشاءهم نومًا، ثم فتح الله عليه بفتوحه فأثرى ثراء فاحشًا، وتعددت الأقوال فى ذلك.

قال هذا وكأنه يسدد إلى المرحوم طعنة، ثم أردف:

ـ توحيدة، أو توتو كما كان أهل الحارة يسمونها، كانت تعمل فى السكرتارية فى إحدى شركات الحاج صبحى، فهى حاصلة على دبلوم تجارة. الله يرحمه، لما رآها قرر أن يتزوجها، وناور كثيرًا حتى يقنع أباها. كانت فى الثامنة عشرة وكان هو فى الخمسين... » (ص ١٥).

يوظف الكاتب أحيانًا تكنيك الحوار الفصيح المطعم ببعض المفردات العامية، إيهامًا بواقعية الحدث الروائى، وتماسًا مع الوجدان العام للمتلقى. ويهتم بالغوص عميقًا فى سيكولوجية الشخصيات، على نحو ما فعل مع دهمش وتوحيدة، ورزق مرزبة، وغيرهم، معتمدًا على الخبرتين الحياتية والمعرفية، وتوظيفهما جماليًا. 

غلاف رواية أجندة سيد الأهل

التحول الدرامى

تبرز نقطة التحول الدرامى فى صفحة ٥٣ من الرواية، ويتلوها الحضور النصى الأول للعبارة المركزية فى الرواية «صاحب العالم»: 

«ازداد انقباض قلبه، وشعر بأن هذا الصوت لا يحمل أى قدر من المؤانسة، لكن الصوت سرعان ما انطلق من جديد:

ـ دعنى قبل أى شىء أعبر لك عن إعجابنا بقدراتك، كنا نتابع على مدى أشهر إبداعاتك، ولما رأينا أنك تتفوق على الجميع رجونا صاحب العالم أن يشاهد بعضها، وبرغم مشاغله استجاب لرجائنا، وبعد أن عرضناها عليه قال إننا على حق، أنت وعدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة ممن نتابعهم هم الذين حظوا بشرف أن يرى صاحب العالم بنفسه إبداعاتهم، مالك كل الأرض وكل الناس وكل الوقت، ولما جربنا الأخذ ببعض ملاحظاتك وطبقناها على إحدى نجماتنا، تغير الحال إلى الأحسن، أخذًا بنصائحك صعدت هذه النجمة فى أقل من شهرين من رانك ٣٢٥ إلى رانك ٦٠، بصراحة كنا مندهشين، ارتفعت نسبة مشاهدة أفلامها بمتواليات هندسية، ثم كانت ملاحظتك الجبارة على أداء نجمة النجوم ليندا بولونيسكى، الشيطانة كما تسميها، عندما قلت لصديقتك ديلارا وأنتما تعبثان إن كل شىء فى الآنسة بولونيسكى مُعجز: شقارها، طولها، وزنها، كيرفاتها، ذوقها فى الملابس وفى اللانجيرى، فتنة ملامحها، موسيقى صوتها، الأوضاع التى تتخذها، استنهاضها الحميم لشريكها، وعبقريتها فى التماهى مع النهايات، ثم قلت وأنتما تضحكان إن هذه المحتالة، تقصد الآنسة بولونيسكى، بالطبع تفرض على مخرج أعمالها مسارات تحسن رؤيته للاسكريبت». (ص ٥٤).

يعمق الكاتب دلالة «مجمع شركات صناعة الحب»، ويجعلها وجهًا من وجوه الاستشراق، حيث محاولة تكريس صورة ذهنية جامدة، أو ما أطلق عليه إدوارد سعيد من قبل «شرقنة الشرق»، أى الشرق كما يريده الغرب، ويتصوره، ويسعى إلى تبنى الشرقيين أنفسهم تلك الصورة الماضوية القديمة، التى تحيل الإنسان الشرقى إلى محض صورة نمطية جاهزة، وهذا ما يبرز فى المقطع التالى»: «لقد وقع عليك الاختيار يا سيد عبدالحميد لتكون رجل العام، مجمع شركات صناعة الحب يختار واحدًا من بين عشرة أشخاص تنطبق عليهم شروط الاختيار، بعد أسبوعين من الآن سنعلن عن القائمة القصيرة، وبعد أسبوعين آخرين سنعلن عن الفائز، ونحن من الآن نعرف أنك الفائز، فالفارق بين النقاط التى حصلت عليها من قبل المحكمين وبين نقاط أقرب منافسيك شاسع، ولقد وضعنا تصورًا لكيفية تقديمك للعالم، تخيلناك ترتدى زيًا فرعونيًا مع عقال عربى، فى يدك اليمنى مفتاح الحياة، وفى يدك اليسرى الصليب، وحول رقبتك مسبحة يسر. سنضعك فى هودج فوق جمل عربى جميل، وسنقدمك بهذه الصورة، وسيبث الحفل للعالم كله، لن تتخيل يا سيد عبدالحميد ملايين الدولارات التى ستنهال عليك عندما تتصدر صورك شاشات الدنيا، وأغلفة المجلات الكبرى، والحوارات التى سيجرونها معك فى الفضائيات، سيصب كل هذا بالطبع فى مصلحة الصناعة التى بدأت تعانى من مقدمات الركود، ومن جانبنا نحن سنعطيك مكافأة مالية كبيرة، أكبر من كل توقعاتك، وسنمنحك حق ارتياد كهوفنا فى جزر الكاريبى، ومعك من تشاء من نجماتنا، فى أى وقت من السنة، ولأية مدة». (ص ٥٦، ٥٧).

غلاف رواية ملحمة السراسوة 

المرئى واللا مرئى

فى «صاحب العالم» أيضًا تلوح نساء دهمش الخفيات، بتنوعهن، ونصبح أمام رواية المرئى واللا مرئى، المعلوم والمجهول، حيث تظلل لعبة التشويق الدرامى الحكاية منذ البداية وحتى المختتم، ويبدو عبدالحميد دهمش البطل المركزى فى الرواية عونًا للمتلقى على اكتشاف العالم، ومعاينة مناطق خبيئة تتقاطع فيها الهلاوس مع الظنون مع تقنيات العالم الجديد، حين ينتهك خصوصية الإنسان الفرد.

تنهض الرواية أيضًا على جدل الحكاية الأم «حكاية دهمش»، والحكايات الفرعية المنطلقة منها، التى تعزز من آلية الترصيع السردى فى الرواية، وتمنحها دلالات أعمق. 

غلاف رواية ملحمة السراسوة - شياطين.. ملائكة

فى «صاحب العالم» ثمة شخوص متعددون، يصنعون زخمًا هائلًا من الحكايات التى تتدفق بلا عناء، يراهن فيها أحمد صبرى أبوالفتوح على أن الحكاية متن الرواية، وتصبح إدارة السرد وتنظيمها مناط الجدارة هنا. حيث يوظف السارد الرئيسى الحكى بضمير الغائب؛ فى محاولة لإضفاء مسحة موضوعية على الحكاية المركزية المدهشة من جهة، وتحريكًا لمفاصل السرد وزواياه المتعددة من جهة ثانية. 

هنا توحيدة، ورفاق المقهى، والآخر المتنصت، وابن الأخت، حبيبات، ونساء مغريات، نوال، وحبقة، وهوامش ما بعد القاع، ورزق مرزبة الذى يمثل الشخصية الحافزة التى تدفع بالموقف الدرامى إلى وجهة أبعد، ويختزن فريحة شعبية هائلة تبدو فى حواراته المتناثرة مع صديقه القديم/ الجديد «الأستاذ عبدالحميد».

وبعد.. هذا نص تحضر الإشارة إلى عنوانه فى متنه لا لتفسيره؛ ولكن لجعله عرضة للتأمل، وللسخرية، تلك التى تزداد مساحات حضورها وفق آلية تنتج المعنى، وتضيف دلالات أعمق للحكاية.