شعرية الصورة والمجاز في ديوان «مرسوم بلون خفيف»
إن المبدأ الذى صكه ماوتسى تونغ «دع مئة زهرة تتفتح» يبدو قابلًا للحضور دومًا، لكن فى الأدب يأخذ الأمر منحى آخر أكثر نوعية، حيث يعزز الخطاب النقدى الخلاق من الموهوبين الحقيقيين، وهم يشقون طريقهم.
بعد ديوانين مميزين هما «قلب أراجوز» و«هزيمتين وأوصل» يأتى الديوان الثالث «مرسوم بلون خفيف» لشاعر العامية الشاب إبراهيم رفاعى.
إبراهيم المولع بالعناوين، والذى يعد العنوان لديه حاملًا نفسًا جماليًا من قبيل «هزيمتين وأوصل»، وكذا عناوين ديوانه الأخير «مرسوم بلون خفيف»، الصادر فى القاهرة «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، فثمة جمالية ما تختلف من عنوان لآخر من بين قصائده المتتابعة.
يصدر الشاعر ديوانه بمقطع لمجهول من ترجمة ضى رحمى، يحيلك على تيمة الجسد، وتجلياتها المتعددة، وهى تيمة مركزية فى الديوان، لا من منظور كتابة الجسد، ولكن من منظور ما يمكن أن نراه تماسًا مع شعرية الحواس وهى تعيد تشكيل العالم عبر تجددها:
«اليوم أخبرنى أستاذى
أن خلايا أجسادنا بأكملها
تهلك وتستبدل كل سبع سنوات
كم هو مريح معرفة
أنه يومًا ما
سوف أمتلك جسدًا لم تلمسه قط».
ويهدى الشاعر ديوانه على نحو يحيل المتلقى فيه على ديوانيه السابقين؛ فضلًا عن ديوانه الجديد/الثالث: «مرَّة تالتة..
لأمى وأبويا
مرَّة أولى..
لـــ بنت الحلال
اللى دايمًا بتعلِّى سقف جنانى
«أيْوَه.. يعنى لأ، ولأ.. يعنى أيوه».
ويعد عنوان الديوان «مرسوم بلون خفيف» جملة مجتزأة من المسار الشعرى فى قصيدة «دماغى بتشغى هلاوس»، وهى جملة معبرة عن جوهر القصيدة والديوان معًا، حيث الوجود المفضى للعدم والعدم المنبئ عن وجود سابق، والرهافة التى تظلل الحالين:
«كل التُّهم واقعة فى حجرى..
والسِكّيِنَة سارقة السكان فى قلبى..
حطام الخناقة بيِلْمَع فى حبِّة عينى..
والجرحى أعرفهم قبل سابِق..
منهم اللى قاطِع نَفَس..
واللى لسّه فيه حلاوة روح
من يومها واقف زى ما أنا..
ثابِت كأنّى حتَّة م الرصيف..
كأنّى مرسوم بلون خفيف..
بقلِّب فى الوشوش الرايحة والجايّة
أرمى عليهم السلام
واعرض عليهم ملامحى يمكن حد يتعرَّف عليّا».
تبدو شعرية الصورة بمثابة العنصر المهيمن على المقطع السابق، وعبر تلك الصورة الفنية بدءًا من «والسكينة سارقة السكان فى قلبى/ حطام الخناقة بيلمع فى حبة عينى»، يتم تحويل الواقع الحى المسكون بالقسوة والقلق إلى فن.
سبع وثلاثون قصيدة تتنوع مساحاتها الكمية خاصة فى القصائد الأخيرة القصيرة. وتبدو القصائد مشكلة لحالة عامة من تفلت الأيام، والزمن، والموت المجانى، ومحبة الحياة، والخوف من المجهول، وجميعها تيمات متواترة فى الديوان، مصحوبة بمزيج من الإحساس العارم بالإخفاق، ومداعبة العالم والحياة، وهذا ما نراه بدءًا من القصيدة الأولى «بقى عادى ياكلنى الوقت»، ووصولًا إلى القصيدة الأخيرة «طبطبة الإيد ع الصدر».
فى قصيدته الأولى «بقى عادى ياكلنى الوقت»، يتسرب الزمن، ويتبدل، ويصبح الاستهلال الشعرى معتمدًا على تكنيك الإشارة إلى الوقت «آخر الليل»، منتقلًا إلى سعة زمنية أكثر براحًا، تعتمد على آلية الاجترار «أعد السنين بشغف»، وما تثيره من شجون داخل الذات الشاعرة، وما تخلقه من تماسات نفسية مع المتلقى، حيث كل شىء مكرور، ورتيب، ودافع إلى الشجن. والذات الفردية تدور فى دائرة مغلقة؛ ولم يكن لها سوى مصادقة الوقت ذاته؛ ويصبح الشعور بالخوف حالًا مسيطرًا، الخوف الذى وصفه نابليون هيل من قبل فى «قوانين النجاح» بأنه أكثر المشاعر عرقلة للذات الفردية، ونمائها. ويبدو الخوف هنا قرينًا للاغتراب الذاتى، حيث إخفاق الإنسان الفرد فى أن يكون ما يريده:
«آخر الليل..
أعِد السنين بشَغَف
أبيِّتها ف سريرها
أغطِّى منها حاجات..
واسيب حاجات مكشوفة..
أسأل نفسى يا ترى وصِلْت هنا إمتى..؟
جيت برِجْليّا..
واللا ركِبْت آلة الزمن
بقيت أب وليَّا عيال وزوجة
بقيت موظف عند الخوف
ولىّ إمضا
بقيت نُسخ كتير..
بنصحى ويّا الشمس نِسْعَى
بقى عادى ياكُلنى الوقت
ويشاركنى كمان سجايرى
واحدة عنده..
واحدة عندى..
لـــ حد ما يخْلَص الليل
وتخْلَص كل الشوارع
وما يبقاش قدامنا غير البحر
أقْصِّر الشر..
وارجع بغُلبى..
شايل العيش والملح
لزوم العِشْرَة..
والروتين اليومى».
إن فكرة التشظى الإنسانى كانت بحاجة إلى تعميق أكبر، يتجادل فيه المعرفى والجمالى، فالإنسان الفرد لم يعد ذا هوية أحادية، لكن هناك ما أسماه فرانسوا ليوتار بالهويات المتعددة للإنسان الفرد.
يكسر إبراهيم رفاعى أفق التوقع لدى المتلقى «الفيل مش فى المنديل ولا حاجة، ولا حتى فى علبة عبدالمنعم إبراهيم»، ويتناص هنا مع السينما فى المشهد الشهير فى فيلم «سر طاقية الإخفاء» على نحو ساخر ودال، وترتحل القصيدة إلى منطقة أبعد فى اللعب الفنى، مثلما نرى فى هذا المقطع: «الفيل مش فى المنديل ولا حاجة، ولا حتى فى علبة (عبدالمنعم إبراهيم)، خاتم سليمان بقى أفقر منّى، الرد روح السؤال، ده إن كان فيه أصلًا رد، كلمة السِر فى مساحة الدَفَا الصُّغيَّرة، والبطولة فى لحظة رجوع جوز الشَرابَات التايه، اللقطَة دى بالذات بتشتِّت الدماغ، وكفيلة بإنها تولَّع نار الفِتْنَة، حشو الحُفر المتْنَتْورة فى الذات بكلمة شُكر، إجراء احترازى ضد النكَد والوِش الخشب، وجَر رجْل لابتسامة مالهاش هدف».
وفى القصيدة الأخيرة «طبطبة الإيد ع الصدر» نرى تلك القصائد القصيرة التى تتشكل من مقطع شعرى واحد ينهض على تقنية المفارقة، والتى تبرز فى القصائد الأخيرة من الديوان، وبذلك فهى تغاير فى بنائها الشكلى القصائد الأولى التى اتسمت بالطول النسبى، وتشكلت من أكثر من مقطع، واعتمدت أكثر من تكنيك، وإن ظلت شعرية الصورة بنية مهيمنة على النص من جهة، والاستعارات البلاغية والمجازات الشعرية حاضرة من جهة ثانية:
دَهْشِة المطر رغم كل المحاولات
البنت لسَّه بجمالها
العناوين الغلط، والمسافات..
طبطبة الإيد ع الصِّدر..
منتهى الرِقَّة
تلحق تاخد دورك
مفتاح البيبان كلمة
مشوار البحر نَفَس
جهّز العِدّة..
الجرأة حلوة..
والروح زَحمَة..
برج المراقبة نُكتة
ما تستناش إنذار
طول الوقت خدعة
رمال متحركة وكُتَل خراسَان».
ثمة دوال مركزية فى الديوان، تعد من معجم العامية المصرية المتجذرة من قبيل «الزغزغة/ بنت الحلال».
تخط القصائد نفسًا واحدًا، ولكن ترسمه بتنويعات مختلفة، ناعم، و«خفيف» الروح حتى المساحات الكمية الأوسع فى القصائد الأولى تبدو متماهية مع الروح الرهيفة التى تظلل أجواء الديوان.
وبعد.. ثمة شاعر حقيقى، وموهوب هنا، نراهن عليه، ابن للروح المصرية فى تجليها فى شعر العامية المكتنز بأسماء عديدة لافتة. يحفر مشروعه الخاص، ويحتاج إلى الحفر أعمق فى الدلالة الشعرية؛ خاصة وأن الصورة الفنية تأتيه طوعًا، يبنى عليها مقاطعه الشعرية، ويسطر من خلالها نصه الممتع.