الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

آخر أحفاد الروم.. حكايات جزيرة «إمبروس»: الطعام بسكويت اللوز والرقص حتى الفجر

جزيرة إمبروس
جزيرة إمبروس

- تقع الجزيرة تحت الإدارة التركية لكن سكانها ما زالوا متمسكين بتراثهم اليونانى

- أجدادهم تعرضوا للتهجير القسرى إلى شبه جزيرة البلقان

- منازلهم القديمة المبنية بالأحجار ما زالت قائمة وتواجه الزمن

تمثل جزيرة إمبروس حالة استثنائية فى الجغرافيا السياسية للبحر الأبيض المتوسط، ليس لموقعها الساحر بين مياه بحر إيجة فقط ولكن فى قدرة مجتمعها على التمسك بتاريخه ولغته وثقافته. ومن ينظر من بعيد إلى الجزيرة، يخطف عينيه مشهد الصخور البركانية ذات اللون «البيج»، وكذلك الشجيرات الشائكة التى تصمد فى مواجهة الرياح الموسمية الشديدة، وبجوارها المسارات المنحدرة التى تسير عليها قطعان الماعز، وهى المسارات القريبة من الشاطئ والمطلة أيضًا على أرخبيل الجزر المجاورة وخاصة «ساموثريس».

 

ونشاهد أيضًا على الجزيرة، قرية «جليكى» الواقعة على قمة تلة شديدة الانحدار، تسمى «حلوة» باللغة اليونانية أو «مع اللوز» باللغة التركية، حيث يهدأ الصخب مع صمت المكان وصمت القرى المجاورة أيضًا، والتى يتحول المساء فيها إلى حالة من السكون لا تقطعه إلا أصوات الأنغام التى تعطى إحساسًا دافئًا، وربما تستمع إلى أصوات الماعز وهى تتجول وتنقر حوافرها وتتقافز تحت أشجار اللوز والتوت والزيتون الملتوية التى تظلل الأزقة المرصوفة بالحصى بين المنازل الحجرية التى تعود إلى العصور الوسطى.

وبحسب ما قاله الكاتب التركى مات هامنسون  فى مقاله على موقع «world literaturetoday»، تظهر آثار الحداثة أيضًا بشكل واضح فى الجزيرة رغم بدائية المكان، حيث تظهر محطة صغيرة لشحن السيارات الكهربائية مثبتة على الجدار الخارجى لمنزل يبدو جديدًا، ومصنوعًا من صخور مستخرجة من موقع الجزيرة، وفى جواره عقار تتصاعد عليه النباتات ويبدو عتيقًا ويشبه نمط البناء اليونانى، ويبدو وكأن ذكريات سكانه القدماء ما زالت حاضرة وترفرف حول المكان.

وهناك أكثر من طريقة لرؤية جزيرة إمبروس التابعة إداريًا لتركيا، وتحمل اسمين، الأول تركى وهو «السماوى»، والثانى يونانى وهو «إمبروس»، وهو الاسم الذى يتكرر كثيرًا فى الملحمة اليونانية الإلياذة للشاعر هوميروس.

التاريخ السياسى

عززت القصص حول تاريخ المكان إرادة وقدرة المجتمع فى الجزيرة على التمسك بهويته، رغم أن الجزيرة بعيدة كل البعد عن الأفكار الثورية التى اعتنقتها قطاعات من الشعب اليونانى.

وربما تستمد تلك الإرادة من تاريخ اليونان نفسها فى الدفاع عن نفسها أثناء الحرب العالمية الأولى، وتحولها من إمبراطورية إلى دولة قومية، وتمسك السكان بطابعهم وأنماط حياتهم التى تتشابه حتى فى جميع الجزر اليونانية الموجودة فى بحر إيجة.

وظلت تلك الإرادة حاضرة رغم نجاح تركيا فى الحصول على السيادة الإقليمية على مضيق الدردنيل، وهو الأمر الذى وضع جزيرة إمبروس فى منطقة جغرافية محفوفة بالمخاطر.

بعد توقيع معاهدة لوزان فى عام ١٩٢٣، تعرض اليونانيون الأصليون فى إمبروس للخطر لكنهم لم يطردوا من أماكنهم، حيث منحت الدولة التركية اليونانيين، الذين بلغ عددهم آنذاك حوالى خمسة آلاف نسمة، حق البقاء فى الجزيرة، بينما لم يتمتع إخوانهم فى تراقيا والأناضول بمثل هذه الامتيازات، فتم تهجيرهم قسريًا تحت خطر الموت إلى شبه جزيرة البلقان.

وتحدد هويات المجتمعات الناطقة باللغة اليونانية فى تركيا وفى الأراضى العثمانية السابقة بوضوح من خلال كلمة «روم» التى تحتل الصدارة فى معجمهم ولغتهم، وهى مقياس للتضامن التاريخى بينهم، حيث يطالب المجتمع اليونانى بحقوق تعود إلى العصر الرومانى البيزنطى. هو ما ينطبق أيضًا على شعب «إمبروس»، مع الوضع فى الاعتبار أن سكان الجزيرة لديهم نمط ثقافى خاص بهم، مع لهجة محلية وعادات تعود إلى فترة زمنية عتيقة ربما تنافس أو تتواكب مع التراث القديم لـ«بوسيدون» الذى ورد ذكرها فى ملحمة الإلياذة.

ويبلغ عدد سكان اليونانيين الروم فى جزيرة إمبروس حاليًا المئات، وقد انخفض هذا العدد نتيجة للتهجير الممنهج الذى فرضته الدولة التركية منذ ستينيات القرن العشرين.

وازدادت عمليات التهجير فى أعقاب المذابح التى حدثت للأرمن عام ١٩١٥، ولا يزال القوميون الأتراك الذين يتزايد تأثيرهم يومًا بعد يوم ينكرون تلك المذابح حتى الآن.

قرية الحزن 

كانت الجزيرة مركز اهتمام الأدب اليونانى خاصة بعد اكتشاف «دينيز كافوكجوغلو» ما وصف بالأبعاد الداخلية للحياة فى إمبروس، باعتبار تلك الأبعاد عائدة إلى التراث اليونانى الرومى، حيث سجل ذلك فى كتابه «قرية على جزيرة الحزن» والذى يعد من أهم الأعمال التى تناولت الجزيرة، ونشر عام ٢٠١٣، قبل نحو عقد من وفاة مؤلفه فى مايو ٢٠٢٣، والغريب أن الأخير كان مقيمًا فى إمبروس ويعيش فى منزل حجرى قديم بجوار جيران من «الروم الثرثارين»، حسب وصفه.

ونفى الكاتب كافوكجوغلو إلى ألمانيا لمدة ٢٢ عامًا، بينما كانت تركيا تعيش تحت الأحكام العرفية، وكان إحدى ضحايا استبداد الدولة التركية أواخر القرن العشرين. وعندما عاد أصبح كاتب عمود فى صحيفة «جمهوريت» اليومية، والتى كانت تعتبر آخر المعاقل الصحفية للمعارضة فى تركيا قبل ما وصف بـ«تطهير وسائل الإعلام» فى أعقاب محاولة الانقلاب فى عام ٢٠١٦.

على الرغم من ذلك، لا يزال منزله فى «إمبروس» قائمًا، وهو منزل ذو فناء خارجى واسع ومسكون بعائلات من القطط، وبجواره مطبخ خارجى بجانبه مدفأة فى الهواء الطلق.

وفى كل ليلة، تسمع أصوات الجيران المختلطة بين اليونانية والتركية بجوار المنزل، حيث يتحدث سكان القرية بصوت عالٍ فى جو احتفالى.

ويحكى كتاب «كافوكجوغلو» قصة اليونانيين فى «إمبروس»، الذين تشكل الأحاديث والتحليل حول أصواتهم الجزء الأكبر من مادته، ويحتوى الفصل الثانى على أكثر من ١٠٠ صفحة من المقابلات التى تنقل التاريخ الشفوى للأشخاص، الذين صورهم المؤلف وكتب سيرتهم بعد الاستماع إلى قصص نجاتهم مما وصف بـ«عنف الدولة».

ويعتبر تناقص أعداد الروم فى جزيرة إمبروس أمرًا مؤثرًا للمجتمع هناك، لأنهم ظلوا فى الفترة من عام ١٩٢٣ إلى عام ١٩٦٣ مهيمنين على جزيرتهم ومتمسكين بها، وكانوا يتمتعون بالحكم الذاتى الإدارى داخل الجمهورية التركية، وعندما تم تهجيرهم كان ذلك بمثابة المسمار الأخير فى نعش الروم فى الأناضول.

وعلى الرغم من ذلك، كان شتاتهم جزءًا من النسيج الثقافى للجزيرة، حتى مع بداية عودتهم البطيئة فى تسعينيات القرن العشرين من خلال أعمالهم التجارية، حيث أنشأوا مقهى «ستين آدا»، الذى يقع فى زاوية من زقاق ضيق فى باديملى، ويعرض صورًا لتاريخ عائلى بالأبيض والأسود فوق قائمة من المشروبات الكحولية محلية الصنع. ويتحدث موظفو المقهى باللغة التركية لكن بلهجة يونانية.

أدب الشتات

بلغ عدد السكان المحليين من الروم فى الجزيرة ذروته ليصل إلى ٩ آلاف نسمة، إلا أن تأثيرهم الأدبى لا يمكن إنكاره، فقد أظهرت الباحثة التركية سيفكان إركان فى أطروحتها للدكتوراه لعام ٢٠٢٠ بجامعة كلية لندن، بعنوان «العثور على جزيرة إمبروس: تاريخ مكانى للنزوح والتوطين»، أن شعب الروم فى إمبروس ينتجون نوعًا خاصًا من الأدب، ليس فقط فى الكتب ولكن فى شكل روايات شفهية، وثقها مركز دراسات آسيا الصغرى فى أثينا. ومن المجلد الصادر عام ٢٠٠٧ بعنوان «الشتات والذاكرة: شخصيات النزوح فى الأدب المعاصر والفنون والسياسة»، الذى حرره مارى أود بارونيان وستيفان بيسر ويولاندا جانسن، تنقل إلينا إليف بابول لمحات فى مقالها بعنوان «الوطن أم الغربة؟»، من هوية «روم إمبروس» ضمن ما يسمى بـ«أدب الشتات». ويتطرق الأدب المرتبط بإمبروس كثيرًا إلى قصة خيانة حدثت من جانب ما يوصف بـ«اليونان الأم» تجاه الجزيرة، بسبب تردد اليونانيين فى الوقوف إلى جانبها على المستوى السياسى الدولى فى اللحظات الحاسمة من المفاوضات الدولية، وهو ما يظهر كثيرًا فى أعمال الأدباء فى الجزيرة. ويلعب الأدب الإمبروسى دورًا مهمًا فى الحفاظ على ثقافة الجزيرة التى قاومت محاولات التغيير أو الطمس من الدولة، خاصة لتراثها الثقافى واللغوى أو من موجات الحركات القومية المتطرفة العنيفة فى تركيا، والتى أدت إلى مقتل مواطن رومى من إمبروس فى عام ٢٠١٩. ولا يزال اليونانيون يجتمعون كل يوم على جزيرة الحزن لسرد قصصهم، وتناول بسكويت اللوز والرقص حتى الفجر.