مدينة الأسرار والقلاع 2.. ما تبقى من الشيوعية وهتلر فى شوارع براغ
قصة براغ بدأت من أسطورة، بطلتها هى الدوقة التشيكية فى القرن الثامن ليبوش وزوجها بريميسل، مؤسس سلالة بريميسليد، تقول الأسطورة إن ليبوش وقف على منحدر صخرى فوق نهر فلتافا وتنبأت قائلة: «أرى مدينة عظيمة سوف يمس مجدها النجوم»، وأمرت ببناء قلعة وبلدة تسمى براغ فى الموقع.
لم تبخل على براغ بشىء.. منحتنى صورًا من كل العصور والأزمنة فى أسبوع واحد فقط، تنتقل بسرعة من عصر لعصر، حتى أسرع من آلة الزمن، أول ما رأيت فى براغ كانت العربات التاريخية التى تجرها الخيول.. تسير فى الشوارع، وفى الطريق إلى البلدة القديمة رأيت عرضًا بملابس تنتمى إلى العصر البوهيمى! سألت أحد التشيكيين: هل اليوم هى ذكرى لحدث ما؟ أجاب: لا.. هذه عروض مستمرة، هكذا نتذكر تاريخ مدينتنا، وهكذا نعرف السياح عليها.
كان صادقًا، لكن على الرغم من العروض، لا تزال براغ مدينة تخبئ أسرارًا، لكنها تعرض التاريخ، لا يمكن للمدينة أن تخفى ما عاصرته وشهدته، حتى لو كانت غامضة، فالشوارع والبنايات والجسور تحكى.. تحكى بدون توقف.
براغ مدينة سكانها، ليس لزوارها، من زار العواصم الكبيرة فى العالم مثل روما ونيويورك وباريس وبرشلونة سيفهم معنى أن تكون المدينة مُحتلة من الضيوف والمهاجرين والسياح واللاجئين، براغ لا، براغ هى مدينة أهلها، ربما فى البلدة القديمة، تشعر بأنها مدينة للزوار عندما ترى الأفواج من السياح تشعر بأنها احتلت، لكن فى أحياء المدينة الأخرى وشوارعها وأزقتها سترى التشيكيين كثيرًا. ستعرفهم بدون جهد، ومهما كنت طويلًا، فهم أطول منك. أقصر تشيكى يتجاوز 190 سم.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع.. لا شىء يوازى الغموض فى براغ
القلعة التى تحولت إلى مدينة
اكتشاف براغ صعب، الخيوط متشابكة، كل ما تراه عيونك اليوم مرتبط بشكل أو بآخر بشىء ما حدث فى الماضى.
بدأت براغ كقلعة، من المستوطنة المحصنة التى كانت موجودة فى الموقع منذ عام ٨٠٠، حيث يعود تاريخ البناء الأول تحت قلعة براغ إلى عام ٨٨٥، ثم تم إنشاء حصن براغ البارز الآخر، وهو حصن بريميسليد فيسيهراد، فى القرن العاشر، أى بعد حوالى ٧٠ عامًا من تأسيس قلعة براغ.
وأصبحت المنطقة مقرًا للدوقات، ومن ثم مقرًا لملوك بوهيميا، ثم أصبحت براغ مقرًا مهمًا للتجارة حيث استقر بها التجار من جميع أنحاء أوروبا، بما فى ذلك العديد من اليهود، كما ذكر ذلك التاجر والمسافر اليهودى الإسبانى أبراهام بن يعقوب فى عام ٩٦٥.
توسيع المدينة فيما حول القلعة جاء بالتدريج، فى عام ١٢٥٧، فى عهد الملك أوتوكار الثانى، تم تأسيس مالا سترانا «الحى الأصغر» الذى كان يقع على الضفة المقابلة لـStaré Mesto «المدينة القديمة».
ازدهرت براغ فى عهد تشارلز الرابع، الإمبراطور الرومانى المقدس وملك بوهيميا من أسرة لوكسمبورج الجديدة، فى القرن الرابع عشر «١٣٤٦-١٣٧٨». بصفته ملك بوهيميا والإمبراطور الرومانى المقدس، قام بتحويل براغ إلى عاصمة إمبراطورية، أمر تشارلز الرابع ببناء منطقة المدينة الجديدة التى تسمى «نوفى ميستو» المجاورة للمدينة القديمة ووضع التصميم بنفسه، كما تم بناء كاتدرائية القديس فيتوس القوطية، داخل أكبر ساحات قلعة براغ، فى موقع القاعة المستديرة الرومانية هناك، وهنا يمكن لمس براغ الأولى.
عاصمة الممالك
ادعى المؤرخ اليهودى ديفيد سولومون غانز أن المدينة تأسست باسم Boihaem فى عام ١٣٠٦ قبل الميلاد على يد الملك القديم بويا، وفى حوالى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، ظهرت قبيلة سلتيك فى المنطقة، وأنشأت لاحقًا مستوطنات، سميت المنطقة بوهيميا وهو ما يعنى «موطن شعب بوى».
حتى أصبحت براغ هى العاصمة التاريخية لمملكة بوهيميا، ومقر إقامة العديد من أباطرة الرومان المقدسين، أبرزهم تشارلز الرابع «حكم من ١٣٤٦ إلى ١٣٧٨» ورودولف الثانى «حكم من ١٥٧٥ إلى ١٦١١»، وكانت مدينة مهمة لملكية هابسبورج والإمبراطورية النمساوية المجرية.
لعبت المدينة أدوارًا رئيسية فى الإصلاحات البوهيمية والبروتستانتية، وحرب الثلاثين عامًا وفى تاريخ القرن العشرين باعتبارها عاصمة تشيكوسلوفاكيا بين الحربين العالميتين والعصر الشيوعى بعد الحرب، لم يكن أحد يتوقع أن نبؤة الدوقة ستصبح حقيقة، وستتحول براغ من مجرد مستوطنة إلى عاصمة دولة أوروبية حديثة، ولكن للحظة ستشعر بأنها لا تزال «مدينة بوهيميا» القديمة.
اقرا ايضًا: أشباح هونولولو: قصة جاسوس يابانى جندته الاستخبارات الأمريكية فى الحرب العالمية
فى شوارع براغ، سترى اسم «بوهيميا» كثيرة على اللافتات والمحال، وسط البضائع وفى القطع التذكارية، والمعنى واضح، لا تزال براغ تعتبر نفسها عاصمة المملكة. كنا نعرف البوهيميين على أنهم الأشخاص الجامحون الذى يفعلون كل شىء بطريقتهم، لا يمكنك استبعاد هذا المعنى عن بوهيميا التى تراها فى براغ، فالتشيكيون هادئون، غير متطفلون، يفعلون ما يحلو لهم بالطريقة التى تحلو لهم. لا يزعجونك ومطلوب منك ألا تزعجهم.
مدينة الاضطرابات
لم تكن فقط، فى قلب «الممالك» كانت أيضًا فى قلب «تجارة أوروبا»، كانت بالمدينة دار سك العملة وكانت مركزًا تجاريًا للمصرفيين والتجار الألمان والإيطاليين. ومع ذلك، أصبح النظام الاجتماعى أكثر اضطرابًا بسبب القوة المتزايدة لنقابات الحرفيين «التى غالبًا ما تمزقها الصراعات الداخلية».
تم بناء جدار الجوع، وهو جدار تحصين كبير جنوب «البلدة الصغيرة» ومنطقة القلعة، أثناء المجاعة فى ستينيات القرن الرابع عشر، حيث أمر ببنائه تشارلز الرابع كوسيلة لتوفير فرص العمل والغذاء للعمال وأسرهم.
توفى تشارلز الرابع عام ١٣٧٨. وفى عهد ابنه الملك وينسيسلاوس الرابع «١٣٧٨-١٤١٩»، أعقب ذلك فترة من الاضطرابات الشديدة، والتى لم تكن بسبب الاقتصاد بل الدين أيضًا، خلال عيد الفصح عام ١٣٨٩، أعلن أعضاء رجال الدين فى براغ عن أن اليهود دنسوا القربان «الرقاقة الإفخارستية» وشجع رجال الدين على نهب وحرق الحى اليهودى، قُتل ما يقرب من جميع السكان اليهود فى براغ «٣٠٠٠ شخص»، فى الحى اليهودى ستسمع تلك الحكاية، ولكنك فى الوقت نفسه سترى كم تقدر براغ تاريخ «يهودها».
كانت المدينة أيضًا، فى قلب إصلاحات الكنيسة، ففى عام ١٤٠٠، كان عدد سكان براغ ٩٥.٠٠٠ نسمة، مما يجعلها ثالث أكبر مدينة فى أوروبا «بعد باريس والبندقية»، وبدأت المدينة حينذاك تخطو خطواتها فى طريق إصلاحات الكنيسة عندما ألقى جان هوس، عالم لاهوت ورئيس جامعة تشارلز، وعظًا فى براغ لما أسماه إصلاحات جذرية للكنيسة الفاسدة، وبعد أن شعرت قيادات بأنه أصبح خطيرًا جدًا على المؤسسة السياسية والدينية، تم استدعاء هوس إلى مجلس كونستانس، وتم تقديمه للمحاكمة بتهمة الهرطقة، وتم حرقه فى كونستانز عام ١٤١٥، وبعد أربع سنوات، شهدت براغ أول عملية إلقاء من النوافذ، عندما تمرد الناس بعد وفاة هوس، حيث عرفت المدينة طريق الانقسامات.
فى عام ١٦١٨، أثارت عملية الرمى الثانية الشهيرة فى براغ حرب الثلاثين عامًا، وهى فترة قاسية بشكل خاص بالنسبة لبراغ وبوهيميا. تم خلع فرديناند الثانى ملك هابسبورج، واستولى فريدريك الخامس على مكانه كملك على بوهيميا، تم تحويل براغ قسرًا إلى الكاثوليكية الرومانية، ثم دخلت المدينة الحرب على إثر هجوم شنه ناخبو ساكسونيا «١٦٣١». فى عام ١٦٨٩، دمر حريق كبير مدينة براغ، لكن هذا أدى إلى تجديد المدينة وإعادة بنائها، وفى الفترة من ١٧١٣ إلى ١٧١٤، ضرب الطاعون مدينة براغ.
مقر الحرب على الشيوعية
التشيكيون ينتقضون بطبيعتهم، ويرفضون ما لا يريدونه بقوة، عندما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الإمبراطورية النمساوية المجرية وإنشاء تشيكوسلوفاكيا، تم اختيار براغ كعاصمتها وقلعة براغ كمقر للرئيس توماش جاريج ماساريك. فى ذلك الوقت كانت براغ عاصمة أوروبية حقيقية تتمتع بصناعة متطورة للغاية، فى ١٥ مارس ١٩٣٩، أمر هتلر الجيش الألمانى بدخول براغ، وفى اجتماع ميونخ اعتقد الحلفاء أنه إذا تم منح هتلر تشيكوسلوفاكيا فسيتوقف عن غزو باقى الدول.
ومن قلعة براغ أعلن هتلر بوهيميا ومورافيا محمية ألمانية، وكانت حينذاك تضم عددًا كبيرًا من السكان اليهود التشيكيين والألمان «ومعظمهم من السكان الأصليين الناطقين باللغة الألمانية»، وبعد دخول هتلر تم ترحيل معظم اليهود وقتلهم على يد الألمان.
فى عام ١٩٤٢، شهدت براغ اغتيال أحد أقوى الرجال فى ألمانيا النازية- راينهارد هايدريش- خلال عملية الأنثروبويد، التى أنجزها الأبطال الوطنيون التشيكوسلوفاكيون جوزيف جابسيك ويان كوبيش، وأمر هتلر بأعمال انتقامية دموية.
فى ٥ مايو ١٩٤٥، قبل يومين من استسلام ألمانيا، حدثت انتفاضة فى التشيك ضد ألمانيا، حيث قُتل عدة آلاف من التشيك خلال أربعة أيام من القتال الدموى فى الشوارع، وعند فجر يوم ٩ مايو، استولى جيش الصدمة الثالث التابع للجيش الأحمر على المدينة دون معارضة تقريبًا. الأغلبية «حوالى ٥٠.٠٠٠ شخص» من السكان الألمان فى براغ إما فروا أو طُردوا وتم تحرير براغ.
وبعد ذلك أصبحت براغ مدينة فى بلد خاضع للسيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية للاتحاد السوفيتى، وبدأت براغ رحلة أخرى فى مقاومة الشيوعية التى عرفت فيما بعد بربيع براغ، والذى كان يهدف إلى تجديد المؤسسات السياسية بطريقة ديمقراطية.
وهو ما دفع الاتحاد السوفيتى لقمع هذه الإصلاحات من خلال غزو تشيكوسلوفاكيا والعاصمة براغ فى ٢١ أغسطس ١٩٦٨. وقد أدى الغزو بواسطة المشاة والدبابات إلى قمع أى إصلاحات بشكل فعال.
لكن براغ انتفضت لاحقًا عدة مرات، حتى عام ١٩٨٩ عندما صدّت شرطة مكافحة الشغب مظاهرة طلابية سلمية، اكتظت شوارع براغ بالثورة المخملية، واستفادت عاصمة تشيكوسلوفاكيا إلى حد كبير من المزاج الجديد، حتى سقوط الستار الحديدى، ثم انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين «التشيك» و«سلوفاكيا».
من يسر فى براغ فسيجد نفسه محاصرًا بتلك الأحداث، الجدران ترسم الجرافيتى وتتذكر، الميادين التى شهدت الاضطرابات تحكى القصص، المسيرات التى تحيى الذكرى تتحرك، المدينة تتذكر، وستذكرك فى كل فرصة تسنح لها، كيف تحولت براغ من أسطورة إلى حقيقة، وكيف صمدت أمام كل فرصة لهدمها.
مثلما ترى «بوهيميا» فى مكان، سترى أيضًا «بقايا التاريخ الشيوعى» فى شوارع براغ، وبينما «الفخر» هو ما يربط براغ ببوهيميا، فإن «الرفض» هو ما يربط براغ بـ«الشيوعية».
وقفت لأكثر من ساعة فى ميدان «وينسلست»، حيث ثار الشعب ضد الشيوعية، وعندما رأيت صور الاحتجاجات العنيفة، لم أصدق أن هذا الميدان الواسع الأنيق شهد أقسى عاصفة احتجاجات عرفتها براغ.