مدينة الأسرار والقلاع 5.. «الله فى براغ».. الكنائس تشق السحاب.. والتشيكيون أقل تدينًا
جمهورية التشيك رائدة فى العلمانية واللادينية بين الدول المجاورة لها والتى كان الكثير منها أيضًا تحت الحكم الشيوعى
إذا وقفت على قمة تل بيترين فى براغ، فسوف تندهش من جمال المدينة الأخاذ. من هنا يجرى النهر قبل أن يقسم هذه المستوطنة القديمة إلى قسمين، فى الشتاء؛ هنا مكان للأسواق الصاخبة رغم تساقط الثلوج فى بعض الأحيان، على يسارك ستلاحظ برج كاتدرائية القديس فيتوس يطل من خلف جدران قلعة براغ التى تقف شامخة، إذا كنت محظوظًا، فسوف تغرب الشمس ببطء خلفها لتكشف عن صورة ظلية مذهلة تحتفى بهدوء بالمكان الذى دُفن فيه الملك تشارلز الرابع، وفى المكان نفسه ألقى رئيس الأساقفة بيران، فى خضم الشيوعية، خطبته الأخيرة التى غيّرت أشياء كثيرة فى براغ.
من كل مكان فى براغ، ستلاحظ كيف تقطع الكنائس السحب، من المؤكد أنك ستفترض أن هذه الوجهة السياحية الشهيرة مليئة بالحماسة المسيحية، ومع ذلك، فإن التاريخ والأرقام يرسمون صورة مختلفة تمامًا للمشهد الدينى فى براغ.
مشهد دينى معقد
منذ أول مجموعة أشخاص سكنت هذه الأرض، «سلتيك بوى»، جاءت بدايات براغ الكهنوتية الغامضة، ثم جلبت القبائل السلافية التى تبعتها نكهتها الخاصة من الروحانية الوثنية التى تغلغلت داخل المجتمع ببطء، ثم تشابكت فى المسيحية التى تم تقديمها إلى البوهيميين فى براغ فى القرن العاشر.
خلال مراحل معقدة من الصراع الدينى وصلت جمهورية التشيك إلى المشهد الحالى باعتبارها واحدة من الدول الأقل تدينًا فى العالم، ويظل فهم المشهد الدينى المتنوع فى جمهورية التشيك أمرًا بالغ الأهمية لفهم التعقيد الثقافى والتاريخى لهذه الأمة الجميلة، فالحياة الدينية المعقدة لجمهورية التشيك، لعبت دورًا رئيسيًا فى تشكيل الهوية التشيكية.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع 4.. أشباح وأساطير.. الحكايات الشعبية عن الرعب فى براغ
ومن المثير للدهشة أن التاريخ التشيكى يشتمل على ثروة من الشخصيات والأفكار الدينية، مثل جان هوس، وهو المُصلح الذى أثر على مارتن لوثر، وجماعة إخوان مورافيا الشهيرة، التى قامت فى غضون عشرين عامًا بتوعية أكثر مما قامت به الكنيسة البروتستانتية بأكملها فى المائتى عام التالية مجتمعة.
على الرغم من تاريخ التشيك الدينى الغنى، إلا أن التشيكيين المعاصرين هم علمانيون للغاية ويشككون فى الدين، ربما سبب هيمنة الكنيسة الكاثوليكية التى استمرت قرونًا وما تلاه من التأثير الساحق للشيوعية، فيما يزعم بعض الاستطلاعات أن مواطنى التشيك أكثر عرضة لرفض وجود الله والظواهر الخارقة للطبيعة من أى بلد آخر.
تاريخ الدين
رحلتى بين الكنائس فى براغ كان يلزمها فهم واضح لتاريخ الدين فى جمهورية التشيك الذى يمتد إلى ما يقرب من ألف عام، مما يجعل قراءته رائعة، بدءًا من التنصير الأولى إلى فترات الإصلاح الدينى، والقمع، ثم العلمنة النهائية.
كانت هناك لحظات سلمية وعنيفة فى تاريخ الدين فى جمهورية التشيك، فكان للوثنية السلافية تأثير على المنطقة قبل وصول المسيحية التى دخلت إلى بوهيميا فى القرن التاسع عندما وصل القديسان كيرلس وميثوديوس، ثم زرع قادة الإصلاح البوهيمى مثل جان هوس فى القرن الخامس عشر، بذور التنوع الدينى من خلال خلق صدع داخل الكنيسة الكاثوليكية.
بعد قرون من التطور اللاهوتى والإصلاح والتغيرات الاجتماعية والسياسية، أصبح دور الكنيسة التشيكية فى كل من الثقافة والتاريخ معقدًا، والحقيقة أن الكنيسة التشيكية ساعدت فى تنصير المنطقة فى وقت مبكر، وارتبطت الكنيسة التشيكية بالكاثوليكية، حيث هيمنت الكنائس والكاتدرائيات والتقاليد الكاثوليكية على المشهد الدينى فى البلاد.
ثم جاءت حركة جان هوس فى القرن الخامس عشر وهى حركة إصلاحية دينية كبرى فى الكنيسة التشيكية. وكان هدفها انتقاد الحركة للكنيسة الكاثوليكية والمحافظة على الهوية التشيكية الكاثوليكية، ثم انخفض التنوع فى القرن السابع عشر التفوق الكاثوليكى فى الأراضى التشيكية.
مع قيام النظام الشيوعى بترويج الإلحاد وقمع الدين، شهد القرن العشرون اضطرابات سياسية واجتماعية كبرى، أيضًا كان الدين يلعب دورًا بها.
والحقيقة أن تشيكوسلوفاكيا دخلت العصر الشيوعى بتراث دينى متنوع. كانت هناك تسعة معتقدات رئيسية مدرجة فى تعداداتها: الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الروثينية، الكنيسة الإنجيلية للأخوة التشيكيين، اللوثرية، الكالفينية، الأرثوذكسية، الكنيسة الإصلاحية التشيكية «الهوسيتس»، الكنيسة الكاثوليكية القديمة، واليهودية.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع 3.. ما الذى قدمته براغ إلى العالم؟
أثرت الحقبة الشيوعية على الحياة الدينية فى براغ، وعقدت أكثر مما ينبغى المشهد الدينى فى البلاد، مما جعل قسمًا كبيرًا من الناس لا يؤمنون بالله، أو لا أدريين، أو غير متدينين، ولكن على الرغم من ذلك لا تزال الكاثوليكية والبروتستانتية تزدهر فى البلاد، وفى الوقت نفسه تقدر الجمهورية التشيكية الحرية الدينية والتسامح، فتاريخها الحافل بالتعددية الدينية والقمع إلى جعلها رائدة فى تعزيز التسامح والاحترام للعديد من الأديان.
معدلات التدين
اعتبارًا من عام ٢٠٢١، تم تعريف ١١.٧٪ من السكان بالمسيحية «الكاثوليكية بالكامل تقريبًا» بينما تم تحديد ١٠.٨٪ بالهويات أو المعتقدات الدينية الأخرى، فى التعداد السكانى لعام ٢٠٢١، أعلن ٤٧.٨٪ من التشيك أنهم لا يؤمنون بأى دين، بينما لم يستجب ٣٠.١٪.
وفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، فإن حوالى سبعة من كل عشرة تشيكيين «٧٢٪» لا ينتمون إلى مجموعة دينية، بما فى ذلك ٤٦٪ يصفون دينهم بأنه «لا شىء على وجه الخصوص» و٢٥٪ إضافيين يقولون إن «الملحد» يصف هويتهم الدينية. عندما يتعلق الأمر بالمعتقد الدينى - على عكس الهوية الدينية - يقول ٦٦٪ من التشيك إنهم لا يؤمنون بالله، مقارنة بـ ٢٩٪ فقط يؤمنون به.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع 2.. ما تبقى من الشيوعية وهتلر فى شوارع براغ
فى العصر الحديث، يُعرف الشعب التشيكى فى المقام الأول بأنه ملحد أو لا أدرى أو روحانى شخصيًا، تؤمن الأغلبية بالمفاهيم الروحية مثل القدر أو المعجزات، ولكن فى استطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث، قال ٧٢٪ من التشيك إنهم لا ينتمون إلى أى دين معين.
إحصائيًا، هذا يضع جمهورية التشيك كواحدة من أكثر الدول غير الدينية فى العالم، خلف دول مثل اليابان والصين. ومع ذلك، فإن هذه الإحصائيات، تفشل فى التقاط التجربة الكاملة للمسيحية التشيكية بشكلها الحالى.
اليوم، براغ هى مدينة دولية رائعة، وقد ارتفع عدد المغتربين بشكل حاد فى السنوات الأخيرة، وقد جلبوا معهم نهجًا جديدًا للمسيحية، حيث يجتمع العديد من التجمعات الإنجيلية الدولية كل أسبوع، ولديها فرق توعية تخدم اللاجئين والمشردين فى قلب المدينة. وبالمثل، فإن الكنيسة الأنجليكانية الناطقة باللغة الإنجليزية، إلى جانب الطوائف الأرثوذكسية والكاثوليكية ذات اللغات المختلفة، أصبحت مأهولة بشكل متزايد بالمغتربين والطلاب الدوليين. فى مكان تم فيه قمع المسيحية ذات يوم- أصبح من المستحيل الآن تقريبًا السير فى مدينة براغ القديمة دون الحصول على منشور دينى، أو المرور ببرج المراقبة، أو التعثر فى شكل من أشكال الأداء المسيحى، خاصة فى عيد الميلاد وعيد الفصح، وخلال عطلات نهاية الأسبوع تُقام الحفلات الموسيقية فى الكنائس والتى يتردد فيها قراءات من الإنجيل.
لماذا التشيك ليسوا متدينين
احترام الأديان، والتاريخ الغنى، وعدم تدين التشيكيين، صنع هذا المشهد الذى قد تحتاج لتفسيره، فبينما تشق الكنائس السماء، الأرقام تقول إن التشيكيين غير متدينين. عادة ما يتم تفسير السبب فى ذلك على أنه نتيجة للشيوعية. قمع الدين هو تكتيك للنظام الشيوعى، والذى كان يهدف إلى محاربة أى قوة منظمة يمكن أن تتهدده، مثل الكنيسة الكاثوليكية.
لكن ما الذى جعل جمهورية التشيك رائدة فى العلمانية واللادينية بين الدول المجاورة لها، والتى كان الكثير منها أيضًا تحت الحكم الشيوعى؟ ولنأخذ على سبيل المثال جارتها بولندا، التى ظلت كاثوليكية إلى حد كبير بعد سقوط النفوذ السوفيتى، الدولة الوحيدة القريبة التى تقترب من اللامبالاة التشيكية بالدين هى إستونيا.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع.. لا شىء يوازى الغموض فى براغ
ورغم أن إستونيا وقعت تحت حكم النظام الشيوعى مثل تشيكوسلوفاكيا، إلا أنها تبعد مسافة كبيرة عنها ولها تاريخ مختلف إلى حد كبير، ولا يمكن ربط التجربتين معًا بقواسم مشتركة، وبالتالى، فمن المنطقى أن نستنتج أنه لا يمكنك مجرد الإشارة إلى الشيوعية باعتبارها الإجابة على سبب عدم تدين التشيكيين.
والحقيقة أنه لا توجد إجابة محددة، وليس حدثًا واًاحد هو الذى أدى إلى تغيير وجهات النظر الدينية فى البلاد. بل يعتقد العديد من المؤرخين أن التاريخ الطويل من المشاعر المعادية للكاثوليكية ورفض الدين المنظم أدى إلى الإلحاد البارز الذى نشهده فى جمهورية التشيك اليوم.
إحدى اللحظات المميزة فى التاريخ الدينى لجمهورية التشيك كانت فى عام ١٤١٥ عندما أحرقت الكنيسة الكاثوليكية جان هوس بتهمة الهرطقة، والذى كان كاهنًا كاثوليكيًا كان لديه عدد كبير من الأتباع المعروفين باسم الهوسيين، فيما كان يُعرف آنذاك بوهيميا، أدت وفاته إلى مزيد من انتفاضة نفوذ الهوسيين ورفض الكنيسة الكاثوليكية.
وبعد أكثر من مائتى عام، انتهت حرب الثلاثين عامًا، وحكمت الإمبراطورية النمساوية المجرية الكاثوليكية ما أصبح فيما بعد جمهورية التشيك، حيث أُجبر شعب بوهيميا على اعتناق دين لم يتفقوا عليه لعدة قرون.
ومن غير المستغرب أن هذا لم يؤد إلى مشاعر إيجابية تجاه الكنيسة الكاثوليكية، حيث استمر النفور من الكاثوليكية لأجيال ولم ينمو مرة أخرى إلا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أصبحت تشيكوسلوفاكيا دولة مستقلة تحرر فيها التشيكيون أخيرًا من الكاثوليكية عام ١٩١٨، ولذلك، فإن الحقيقة من الصعب اتهام الشيوعية بأنها السبب وراء قلة تدين التشيكيين، فالشيوعية جاءت بعد قرون من كراهية الكاثوليكية فى الثقافة التشيكية.
ربما ساعدت الشيوعية فى المشهد الحالى، لكنها ليست السبب الوحيد، وربما بسبب الشيوعية لم يكن من الصعب أن يترسَّخ الإلحاد فى معتقدات الأمة، ورغم أن سقوط الشيوعية أدى إلى ارتفاع طفيف فى اهتمام الناس بالديانات المنظمة، لكنه لم يستمر.. وعادت براغ لتصبح هى براغ.
اكتشفت المدينة، وتحدثت مع أهلها، ولم أجد الإجابات التى عزمت على إيجادها فى بداية الرحلة، فبراغ سحرها يكمن فى غموضها، وفى قدرتها الفريدة على تحويل أسئلتك البسيطة إلى أسئلة أكثر تعقيدًا.. والأهم من كل شىء أنها جميلة بشكل لا يصدق.