السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مدينة الأسرار والقلاع.. لا شىء يوازى الغموض فى براغ

حرف

يحلم الناس بأشخاص ومواقف، وأنا فى حلمى ظهرت براغ عدة مرات، لم أعرف السر، قُلت لنفسى قد أعرف عندما أذهب إلى هناك يومًا.. ذهبت وعُدت ولم أعرف.. سبب مجهول قد يدفعك لزيارة براغ.. وسبب مجهول آخر قد يدفعك للعودة إليها.. لن تعرف أبدًا لماذا ذهبت ولا بماذا عدت؟

لا تبحث عن إجابات للأسئلة حول براغ، قد تعود أكثر حيرة مما ذهبت، ببساطة يمكن وصفها بمدينة الأبواب المغلقة، فهى لا تعطى سرها لأحد، كما أن حقًا بنايتها التاريخية كل أبوابها العتيقة التى لا تزال كما هى دائمًا مغلقة، إذا سألتنى عن الغموض فى المُدن، أقول لك إن لا شىء يوازى الغموض فى براغ.

صور المدن مثل صور النساء، قد تخدعك أو تضلك، أو تظهر أجمل مما هى فى الواقع، لكن براغ لا.. فى عصر «التيك توك» يمكننا أن نسميها مدينة دون «فلاتر».. صورها تشبه حقيقتها، من أى جانب ودون أى رتوش أو ألوان، ما تراه على جوجل، هو براغ التى قد تراها فى الحقيقة، فى الصباح مدينة حيوية ممتلئة بالحياة والسياح وأماكن الاستمتاع، فى المساء تتحول المدينة إلى أرض للقلاع المفتوحة، وبعيدًا عن الحياة الليلية، فإن ليس هناك ما هو أفضل من التيه بين الجسور والقلاع. 

سألت صديقًا زارها: ما رأيك فى براغ؟ أجاب محتارًا: «جميلة لكنى لم أفهمها.. غامضة وأنيقة، أحبها لكنى لم أفهمها»، شعرت بالهدوء، فلست وحدى التى لم أفهمها، وكان الطريف أن الغرباء الذين التقيتهم هناك لم يفهموها أيضًا، ولكننا جميعًا اتفقنا على أننا استمتعنا هناك.

كنت هناك فى الأسبوع الأخير من فبراير، الجو كان باردًا، قارس البرودة، الثلوج تهبط فجأة وتذوب فجأة، الشمس تظهر دقائق، ثم تختفى، والأمطار لا يمكن التنبؤ بها، الطقس الشتوى يتناغم بشكل لا يمكن وصفه مع القلاع والكنائس والحصون التى تشق السماء فى شموخ.. اللوحة كانت جميلة وغامضة.. لا أعرف من أين أبدأ بفك طلاسم تلك المدينة؟!

الأسطورة والغموض فى اسمها

براغ، مثل مدن كثيرة، لها نصيب كبير من اسمها، التشيكيون لا يقولون «براغ»، يقولون «براها»، وهو الاسم التشيكى لبراغ، وهى مشتقة من كلمة سلافية قديمة تعنى «سريع»، هناك من يرى أنها إشارة إلى أصل المدينة القديمة التى كانت تقع عند نقطة عبور نهر فلتافا، حيث التدفق السريع للمياه هناك.

وهناك من يرى أن «براها» هى مرتبطة بالكلمة التشيكية prah «بمعنى العتبة»، وهى الكلمة التى ترتبط بأسطورة الأميرة «ليبوش»، زوجة المؤسس الأسطورى لسلالة بريميسليد «إحدى القبائل التى سكنت تلك الأرض»، حيث اختارت «ليبوش» اسم العتبة، التى تشير إلى الموقع الصامد قبل المنحدرات فى النهر، أو ربما «العتبة» التى قد تصل بك إلى القلعة.

تم اقتراح اشتقاق آخر لاسم براغ من na praze، وهو المصطلح الأصلى لصخور التلال الصخرية التى بنيت عليها القلعة الأصلية، فى ذلك الوقت، كانت القلعة الأولى «براها» محاطة بالغابات، وتغطى التلال التسعة للمدينة المستقبلية- ولم تظهر المدينة القديمة على الجانب الآخر من نهر «فلتافا»، وكذلك المدينة الصغرى أسفل القلعة الحالية إلا فى وقت لاحق، بل يمكننا اعتبار أن القلعة سبقت المدينة، فهى المدينة التى بنيت من قلعة.

أما الكلمة الإنجليزية «prague»، فهى كلمة مستعارة من اللغة اللاتينية القديمة، تم نطقها باللغة الإنجليزية لتتناغم مع كلمة «غامض»، ولا يوجد تفسير لماذا هذا الاسم.. فالحديث عن براغ والغموض يصعب فصله!

فى الأيام الحديثة، كان لبراغ نصيب كبير من الألقاب، مثل «مدينة المائة برج»، استنادًا إلى إحصاء أجراه عالم الرياضيات فى القرن التاسع عشر برنارد بولزانو؛ فيما يقدر عدد أبراج عام ٢٠٢١ من قبل خدمة معلومات براغ بـ٥٠٠، وشملت الألقاب لبراغ أيضًا: المدينة الذهبية، أم المدن وقلب أوروبا، والمدينة الغامضة.. أما أنا فأسميها «مدينة الأسرار والقلاع».

التاريخ لم يمت

إذا أردت أن تركب آلة الزمن وتعود إلى الماضى، إلى الأربعينيات.. اذهب إلى براغ، إذا أردت أن ترى أوروبا القديمة التى لم تدمرها الحرب، ستجدها فى براغ.

قبل الحرب العالمية الثانية، وعندما بدأ هتلر خطته للسيطرة على أوروبا، استولى النازيون على تشيكوسلوفاكيا دون مقاومة، «كانت قصة التضحية بها من قبل دول أوروبا على اعتبار أن هتلر كان سيكتفى ولا يغزو دول أوروبا، ولكن إذا منحت الذئب ضحية واحدة فهو لن يكتفى».

استيلاء النازيين على براغ منحها طوق النجاة من دمار الحرب، فحافظت على تاريخها وتراثها، واليوم بإمكان «براغ» أن تمنح كل مدن أوروبا «غمزة» بأنها المدينة التى نجت، وحافظت على تراثها، والجميع حولها دُمر وأعيد بناؤه، بينما براغ حافظت على هندستها المعمارية التاريخية، فكانت- ولا تزال- تحتوى على مجموعات من الهندسة المعمارية الأكثر تنوعًا فى العالم، من الطراز الرومانى، إلى القوطى، وعصر النهضة، والباروكى، وعصر النهضة الجديد، والقوطى الجديد، والفن الحديث، والتكعيبى، والكلاسيكى الجديد.

يمكن وصفها، «دون تحيز»، بأنها من أجمل مدن أوروبا، التاريخ لم يمت هناك، البنايات والجدران تتذكر، والشعب التشيكى يتذكر، وأنا أتذكر.

لماذا تذهب إلى براغ؟

براغ هى مُجلد ضخم للهندسة المعمارية ثلاثية الأبعاد، المصليات والأقبية الرومانية، والكاتدرائيات القوطية، والقصور والحدائق الباروكية، والهندسة المعمارية التكعيبية الفريدة، تجعلها مكانًا لا مثيل له فى العالم، ليس من الضرورى أن تكون خبيرًا فى الفن الهندسى حتى تتمكن من تقدير التنوع المعمارى للمدينة.

سوف تظل قاعة سانت مارتن المستديرة وكنيسة السيدة العذراء، وقصر فالنشتاين ومبنى البلدية، ومبنى فرانك جيرى الراقص، رمزًا للهندسة المعمارية الحديثة فى براغ محفورة فى ذاكرتك إلى الأبد.

ليس فقط المبانى، البنايات الضخمة ذات الأبواب التاريخية المغلقة مربوطة ببعضها بجسور مهيبة، فى براغ وحدها، يمتد أكثر من ثلاثين جسرًا للمشاة، وتلتف مياهها بلطف على حواف عشر جزر، وكل يوم تنزلق العشرات من البواخر وقوارب التجديف فى نهر فلتافا، ويكتمل المشهد بجسر تشارلز الذى يعود تاريخه إلى القرون الوسطى وتماثيله الباروكية، حيث كتب التاريخ حكاياته هناك.

براغ هى مدينة للمشى، التجول على الأقدام هو متعة فريدة هناك، فحدائق ومتنزهات براغ التاريخية من أعظم كنوز براغ، يوجد أكثر من مائتى منها، أقدمها تأسس فى العصور الوسطى، كانت حدائق براغ الأولى عبارة عن حدائق رهبانية؛ ثم ظهرت الحدائق الخاصة المجاورة للقصور أو المنازل باهظة الثمن فى وقت لاحق خلال عصر النهضة.

براغ من المدن التى يمكن أن تجزم بأن لها «صوتًا»، صوت الساعة الشهيرة فى البلدة القديمة، أجراس الكنائس، والعازفين على الطرقات، وهناك ما هو أكثر، فبراغ يمكن أن ترضى مستمعى الموسيقى الكلاسيكية ومحبى موسيقى الروك والبوب وكل الأنواع الأخرى، فى كل صيف، تنبض جزر ومتنزهات براغ بالحياة مع العديد من المهرجانات الموسيقية؛ بما فى ذلك مهرجان ربيع براغ الدولى للموسيقى، ومهرجان براغ الخريفى الدولى للموسيقى، ومهرجان براغ الدولى للأرغن، ومهرجان دفورجاك براغ الدولى للموسيقى، ومهرجان براغ الدولى للجاز، وكذلك المهرجانات السينمائية، مهرجان فبراير ومهرجان عالم واحد السينمائى، تستضيف المدينة أيضًا مهرجان كُتاب براغ، وأيام الفولكلور فى براغ، واجتماع كورال براغ، ومهرجان شكسبير الصيفى، ولكن بعيدًا عن كل ذلك، فإن عازفى الكمان والتشيللو على جسر تشارلز هم الأقرب إلى قلبى. ولو كنت من مدمنى التسوق، فهناك العديد من مراكز التسوق الحديثة «بالاديوم، نوفى سميتشوف، تشودوف، أركادى بانكراك، والمزيد»، أو فى شارع باريزسكا، شارع التسوق الأكثر تميزًا فى براغ، والذى يضم العديد من أفضل العلامات التجارية الفاخرة فى العالم، إذا كنت تريد أن تأخذ شيئًا ثمينًا من براغ إلى منزلك، فجرب متجرًا للتحف. المجوهرات والأحجار الكريمة هناك من علامات المدينة. تعد المدينة أحد المراكز الثقافية فى أوروبا، حيث تشمل بعض المؤسسات الثقافية المهمة مثل المسرح، حيث أقيمت العروض الأولى لمسرحية موزارت دون جيوفانى، كما يوجد بالمدينة العديد من المتاحف العالمية، بما فى ذلك المتحف الوطنى، متحف العاصمة براغ، المتحف اليهودى، متحف ألفونس موتشا، المتحف الإفريقى، متحف الفنون الزخرفية، ومتحف نابرستيك.

على الرغم من أن العاصمة التشيكية تُلقب بـ«مدينة المائة برج»، إلا أنها فى الواقع لديها أكثر من ٥٠٠ برج، يمكنك اكتشاف المدينة من أعلى، بعد أن تجولت فيها على الأرض، توفر لك براغ منصات للمراقبة، يمكنك الاستمتاع بقلب البلدة القديمة من منصة المراقبة فى برج قاعة المدينة القديمة، واكتشاف سحر أسطح المدينة الصغرى من برج كاتدرائية سانت فيتوس، وإذا كان لديك بعض الطاقة يمكنك من تسلق تل فيتكوف، الذى يهيمن عليه التمثال المهيب للقائد العسكرى جان جيزكا، أو الوصول إلى قمة قلعة براغ، سترى المدينة فى مشهد بانورامى كلها وقت الغروب. فى أيامى الأولى فى براغ، التقيت سائحة مكسيكية، ذهبنا معًا فى جولة سيرًا على الأقدام، كان انطباعنا عن براغ، متشابهة، رغم خلفيتنا الثقافية المختلفة، وقفت أنا وهى أمام أحد الرجال «المتشردين» الذى يسجد على الأرض فى مشهد غريب.. لا ينظر إليك ولا يخيفك ولا يطلب شيئًا، ولم نفهم، سألنا التشيكيين: أجابوا بأنها طلاسم معينة للمتشردين، ونداء ما لتحقيق شىء ما، أو ربما لانتظار هدية من المارة كتعويض عن تهميشهم فى المجتمع.