لعبة الضمائر السردية فى رواية «نصفها الغائب»
«نصفها الغائب» رواية صدرت مطلع هذا العام «2024» عن دار العين بالقاهرة، وهى الرواية العاشرة فى مسيرة الكاتبة المصرية جمال حسّان التى تعمل استشارية الطب النفسى بالمملكة المتحدة. فى العديد من رواياتها السابقة كانت جمال تقدم سردية المدينة المقاومة كمحاولة لتقويض الاستعمار من خلال رواياتها «بورفؤاد 1973» «من شدوان إلى بورتوفيق» «نساء الهلباوى سيرة محامى حادثة دنشواى»، «1956». لا يمكن أن نقول إن جمال حسّان فى روايتها الجديدة «نصفها الغائب» قد توقفت عن استكشاف وبناء سردية مقاومة، لكن يمكن أن نقول إنها تستكشف أرضًا جديدة تنسج فيها روايتها من خيوط نفسية وحضارية، لكن طريقة النسج هذه لا تسمح بقيام معركة تقليدية بين «مستعمِر» و«مُستعمَر»، أو «شرق» و«غرب»، ذلك أن الخيوط متشابكة على نحو شديد التعقيد.
فعلى الرغم من عدم استناد الرواية إلى حدث مركزى قادر على إثارة انتباه القارئ لعالم الرواية، فإن تفاصيل بناء الذات الراوية لرؤيتها لنفسها وللعالم من حولها هى ما تستطيع أن تشغل بال القارئ ولا تتركه دون الوصول لدرجة من التفهم لضعفها وأخطائها وربما التعاطف مع أزمتها الإنسانية. فقد أدى مفتتح الرواية دورًا مهمًا فى عملية توريط القارئ فى الحالة النفسية التى يقرأ عنها بمجرد استخدام الراوى فى هذا المفتتح ضمير الجماعة نحن، ليصبح تشكك الراوى فى الحياة والممات والأحلام باعتبارها خدعًا وليست حقائق، هو الدليل الذى يستهدى به القارئ لتتبع الخرائط التى حفرها الزمن تحت جلودنا. إن حفر الزمن جزء من الحكاوى، لكن تصديق أنها تخصنا يتوقف على استعداد كل قارئ لحكايته لشق الصدور ونزع الأقنعة مثلما فعلت شخصيات هذه الرواية، استجابة لذلك المفتتح «لو رشقنا عارضًا بسكين لانشقت الصدور ونزعنا القناع وقفز هلع السنين، فنسرد الحلم والحنين ونتبادل تحية الصباح. اللهُمّ اجعله خير» «الرواية، ص٥».
هناك ثلاث استجابات مختلفة لدعوة هذا المفتتح للكشف عما فى الصدور وسرد الحلم والحنين واستكشاف حفر الزمن تحت الجلود؛ فقد جاءت الاستجابة الأولى باستخدام ضمير المتكلم عبر فصول الرواية من الشخصية الرئيسية وهى الشابة فرح. ومن خلال الحكى بضمير المتكلم تعثر فرح متنقلة بين الواقع والأحلام على نفسها فى صورة طفلة تائهة بين طرفى حبل هما الأب والأم، ثم تعثر على تلك اللحظة التى حاولت فيها أثناء طفولتها الهروب من الدنيا بتعاطى الإسبرين وهى فى المدرسة. وبالمراوحة بين الأحلام والواقع، تسرد فرح محاولة العثور على سعادتها بعيدًا عن ذلك البيت لاسيما بعد انتحار أمها، فتجد مصادفة فى القاهرة الشاب الإنجليزى جاكوب والذى يساعدها على أن تحب نفسها رغم إحساسها بزيادة الوزن، لكنها تحبه هو كحضن تلجأ إليه تستمد منه وحده السعادة والثقة بالنفس متوهمة أنها تتمرد على الأب! تسرد فرح رحلتها باعتبارها رحلة نضج نفسى بعد الفطام الذى أجبرت عليه بعد ترك جاكوب لها فى لندن لتصبح متشردة، فتستعيد من الذاكرة صورة أمها وهى تهمس لها «لا ترتكبى أى حماقة يا فرح. ألم أنبهك يا حبيبتى من قبل؟» «الرواية، ص١٠٤».
لا شك أن تجربة التشرد فى لندن قاسية حتى لو كانت لساعات خاصة إذا كانت لفتاة مثل فرح، لكن تجربة العيش مع الآخرين دون خوف تمحو بعض آثار القسوة، فتصفو النفس وتصبح أكثر قدرة على رؤية ذاتها كإنسانة جديرة بالحب. خاضت فرح تجربة العيش فى بيت أسرة مصرية بعد أن عثر عليها إمام مسجد صغير بلندن، رجل طيب أقرب للصوفية ودعاها للعيش مع أسرته، فكانت فى حضن أسرة قادر على تضميد جرحها لبعض الوقت، ثم عاشت فرح فى دار رعاية مسنين كانت تعمل بها فنضجت نفسيًا حين عاشت تفاصيل قصة حب السيدة هيذر المصابة بالسرطان وزوجها باتريك الذى يأتيها لدار رعاية المسنين ليصبغ لها شعرها ويحسّن مزاجها ويبعث فيها الحياة بوعده لها بأن يراقصها بعد الشفاء على أنغام زوربا مثلما فعلا فى ليلة زفافهما. إن العيش بجوار المسنين لرعايتهم أتاح أيضًا لفرح أن تختزن فى وجدانها صوت السيد مورو العجوز الذى يتشبث بالحياة مستعينًا بالعلم ليحقق حلمه فى التمكن من استعادة الحياة وإعادة تشكيلها من جديد فيعيش نوعًا من اليوتوبيا الممتزج بقدرة العلم على تخليق خلايا جذعية تحفظ ذاكرته ومعارفه كأستاذ جامعى ليبقى قادرًا على الحضور والتجدد فى مواجهة حالة الجحود التى يلاقيها من أبنائه الذين يريدون الحجر عليه للحصول على ممتلكاته! وإذا كانت تجارب المُسنين ذات أهمية فى إنضاج فرح عاطفيًا ونفسيًا فإن صداقتها مع أنيتا مساعدة مدربة اليوجا علاقة محورية فى تشكيل وعى فرح بذاتها وبالعالم من حولها. فأنيتا الشابة مثل فرح تصبح نموذجًا للقوة والتصالح مع النفس من وجهة نظر فرح لقدرتها على مواجهة ظروف أشد قسوة من ظروف فرح؛ إذ تكفى قدرتها على مواجهة تذكرها للحظة التى أركبتها أمها الأتوبيس عندما بلغت السادسة عشرة لتسربها من البيت كما يتم تسريب الحيوانات الأليفة حتى لا تعود للبيت ثانية، ذلك لأن الأم تريد بعد ترملها من والد أنيتا، أن تعيش مع حبيبها الجديد «يوهان» دون مسئولية عن أنيتا!
إن تجربة السفر إلى لندن جعلت من استخدام ضمير الأنا عند فرح ضميرًا للبحث عن الذات فى رحلتها فى عوالم الآخرين والعودة منها بنضج نفسى وتماسك روحى يعينها على مواجهة ذاتها لتتمكن من عملية فطم نفسها عن الآخر والعثور على نصفها الغائب فى الذاكرة والأحلام والكوابيس والخروج من التيه الذى تعيشه منذ طفولتها.
وإذا كان استخدام ضمير الأنا مع فرح يمثل الاستجابة الأولى لدعوة مفتتح الرواية للحكى عما فى الصدور من حنين وأحلام وآلام، فإن استخدام المُخاطب «أنت» يمثل الاستجابة الثانية لتلك الدعوة، وقد وظفت الكاتبة جمال حسان تقنية ضمير المُخاطب الذى يحدّث نفسه مع والد فرح. وهذه الطريقة فى السرد تعكس حالة التوتر لدى الشخصية التى تقرر أن تتخذ من نفسها ذاتًا بديلة تتحدث إليها، وربما يتم اختزال العالم الخارجى وتهميشه فى حوار الذات مع نفسها باعتبارها ذاتًا بديلة، حيث تهيمن أزمة الذات مع نفسها على بقية علاقاتها مع الشخصيات الأخرى ومع كل ما يحيط بها. وقد يؤدى التركيز على مخاطبة الذات لنفسها على أنها ذات بديلة إلى بطء حركة السرد وزيادة الملمح الغنائى عليه بل وتكرار سرد أحداث أكثر من مرة أو سرد أحداث متشابهة دون أن يكون للتكرار أى ضرورة أو فائدة فيما يتعلق بتطور الأحداث أو تطور حركة السرد. فالأب كاتب روائى وصحفى مشهور، وبقدر شهرته ونجاحه الصحفى والروائى كان فشله فى دوره الاجتماعى كزوج وأب. ومن هنا هيمن تصوره للكتابة باعتبارها قدس الأقداس للدفاع عن نفسه باعتبارها ذاتًا مميزة يحق لها ما لا يحق للآخرين المحيطين بها!
«يعلم الله وحده كيف يختمر الطعام والشراب فوْح المرأة فى باطنك، لتصعد إلى نافوخك شرارة جيشان العاطفة والصدمة والمفارقة والسخرية والتعقيد لزوم الحبكة الفنية» «الرواية، ص١٤٠».
إن استخدام ضمير المخاطب «أنت» لسرد ما فى الذاكرة من مواقف متشابكة مع أحلام وتخيلات الأب الكاتب على مدى رحلة التعرف على الذات هو استخدام لأحد إمكانات تكنيك تيار الوعى شديد الإثراء للرواية المعاصرة. وقد مكّن هذا التجلى من تجليات تيار الوعى فى رواية «نصفها الغائب» الأب من أن يضع يده على النقطة المعتمة فى حياته ويضىء ما حولها حين يستدعى مواجهة مع فرح تتحول لما يشبه محاكمة نفسية تمتلك فيها فرح زمام الأمور لأنها تغوص فى أسباب انتحار أمها بالكشف عن الانفصال النفسى الذى حدث بين أمها وأبيها، وكيف أن الشغف بالكتابة الذى كان ينبغى أن يكون نقطة التقاء بين الزوجين تحوّل إلى مفترق طرق لأن الأب جعل من الكتابة نارًا وقودها النزوات وتفريغ البيت من جوهره ليكون مناسبًا لكاتب، فكان تحققه كاتبًا يعنى بالضرورة وأد مشروع الزوجة الكاتبة!
المدهش أن سرد الأب لأحلامه بضمير المُخاطب الذى يحدّث نفسه يبدو كأنه رد فعل مضاد لصوت الأب عند سرده عن واقعه فى ماضيه وحاضره وهو فى كامل وعيه، فإذا كان الأب الكاتب يسوّغ تميز ذاته الكاتبة ويبرر لها حقها فى تلبية احتياجاتها للشهوة والتفرغ للكتابة والعيش منفردًا لحظة الإبداع وهو فى البيت، فإنه فى سرده لأحلامه يبدو جامعًا فى حلمه بين شهوته مع الشابة الروائية التى تلاعبه ويلاعبها كثعلبين، وبين فزعه على ابنته فرح.
«الحلم الذى رأيته بالأمس أفزعك وأبقاك قلقًا حتى الصباح،«..» نمت فى شهوة على ثغر الحبيبة واستيقظت فى عرق بارد على صراخ فرح، وهى تسبح فى مياه البحر عارية وسمكة قرش ضخمة تلتهم ساقيها» «الرواية، ص٢٣٩».
لقد خططت الكاتبة جمال حسّان للفصل بين صوت الابنة فرح وصوت الأب الكاتب، فاختارت لكل منهما فصولًا بعينها، واختارت لفرح السرد بضمير الأنا بحسب حركة الذاكرة، واختارت للأب السرد المُخاطب الذى يحدث نفسه بحسب حركة الذاكرة أيضًا. والملاحظ أن القارئ ربما يقرأ بشكل منفصل عن مخزون ذاكرة ومشاعر متبادلة بين الأب والابنة لكنها مكتومة، ولو كان التعبير عنها ممكنًا فى شكل حوارى ربما لارتاحت الصدور مما بها من هموم. وفى الوقت نفسه، قدمت الرواية استجابة ثالثة مختلفة لدعوة المفتتح لسرد ما فى الصدور، لكنها استجابة جمعت بين السرد بين ضمير الأنا والسرد بضمير المُخاطب الذى يحدّث الآخر الغائب، وليس الذى يُحدّث نفسه، وهذه الاستجابة يمثلها صوت الشابة أنيتا صديقة فرح فى لندن، ففى رحلة بحثها عن الأم نجد السرد بضمير الأنا يتم توظيفه فقط لوصف الحدث الإيجابى الذى قامت به أنيتا لمواجهة ذكرياتها السلبية عن أمها، وهو ما قامت به أنيتا من رحلة للبحث عن أمها فى ضيعة قريبة من أوسلو، ثم اعتذار زوج أمها لها لأن أمها لن تستطيع مقابلتها لانشغالها، ثم عودتها الاضطرارية بسيارة فيركب لجوارها رجل شرقى تراه ثرثارًا!
والملاحظ هنا أن ضمير الأنا مع «أنيتا» لم يوظف لحكى ما فى صدرها من آلام ومشاعر سلبية أو أحلام وكوابيس، مثلما كان الحال مع استخدام ضمير الأنا مع شخصية فرح، والملاحظ كذلك أن طريقة ترويض أنيتا لذكرياتها السلبية تم من خلال الحوار المباشر مع فرح عن ذكرياتها وآلامها والتى أوصلتها لدرجة البكاء على كتفها، مما ساعدها على بلورة صورة واضحة عن آلامها وآلام أمها فى الوقت نفسه!
«أعترف أننى تعلمت الكثير دون أمى، وتعذبت بفقدانها بما يكفى وتغير مجرى حياتى تمامًا. ورغم ذلك، ففى كثير من الليالى أجدها تتمدد بجوارى وفى عينيها دموع ثابتة، أفزع من نفسى ومنها ومن شراسة ما كان والكابوس الراقد بيننا» «الرواية، ص٧٠».
ولا يقل أهمية عن الفضفضة لفرح لترويض الذكريات السلبية، ما تعرضت له شخصية أنيتا من إسماعها مجبرة صوت ذلك الشاب الشرقى الثرثار الذى وجدت نفسها مضطرة لصحبته فى سيارة تعود بهما إلى أوسلو عقب فشل مسعاها لمقابلة أمها. إن وضع أنيتا فى وضع المُستمعة لشخص يحكى إحساسًا بالإهانة والقهر يسكنه لكونه فلسطينيًا يعيش فى هذا العالم، يجعل من استخدامه ضمير الأنا فى الحكى صوتًا شخصيًا يبحث عن نصفه الغائب المتجاوز لكل الأشخاص وهو الإحساس بأن لك وطنًا حاضرًا وليس معنى سابحًا فى الغياب! إن تجربة الاستماع لصوت عزيز الفلسطينى تجعل من صوته بعد اغتياله قيمة عليا أو بمثابة روح تسكن جسد أنيتا، ومن ثم نراها أكثر قدرة من فرح ومن أبيها معًا؛ إذ تسرد حكايتها بضمير المخاطب ليس لمخاطبة نفسها وإنما لاستحضار أمها والحديث إليها، لترويض ذكرياتها السلبية، بعد أن كان كل همها الهروب من ذكرياتها.
«بطريقة ما كان همّى أن أهرب من كل يذكرنى بك. «الرواية، ص١٥٧» [...] كنت فى حاجة لاستعادة الإحساس بقدمى على أرض صلبة والتسكع، لربما ألقاك ليس لنفتح صفحة جديدة، بل نغلقها دون صراخ» «الرواية، ص١٦١».
إن لعبة الضمائر السردية فى رواية «نصفها الغائب» للكاتبة جمال حسّان ليست مجرد لعب بالتقنيات دون وعى بما وراء هذا اللعب من دلالات. ولعل من أوضح دلالات هذا اللعب، هو الكشف عن أن البناء الفنى لهذه الرواية، هو عبارة عن توزيع واعٍ لأدوار كل ضمير سردى على شخصيات الرواية بما يتناسب وقدرة كل ضمير على رسم تصور كل شخصية لعلاقتها بالعالم من حولها، ومن ثم كان توزيع الضمائر السردية على الشخصيات بناء لمسارات مختلفة لعلاقات الشخصيات الرئيسية «فرح- الأب- أنيتا» فى قدرة كل منها على ترويض الذكريات السلبية وترميم الحياة، مما يجعلنا نقول إن الاستجابات الثلاث لدعوة المفتتح بحكى ما فى الصدور لم تكن مختلفة فى طرق السرد التى قدمتها، وإنما كانت مختلفة فى النتائج التى حققتها كل نتيجة فى ترويض الذكريات السلبية.