الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«نلتقى فى أغسطس».. أسرار نشر رواية ماركيز الأخيرة التى قال عنها «لا تصلح.. يجب تدميرها»

ماركيز
ماركيز

كان الوسط الثقافى العالمى على موعد مع حدث فى غاية الأهمية، الأربعاء الماضى، بالإعلان عن طرح رواية «نلتقى فى أغسطس» للكاتب الأشهر صاحب الشعبية الطاغية غابرييل غارسيا ماركيز، التى تُنشر للمرة الأولى.

وأثار طرح الرواية حالة كبيرة من الجدل، فى ظل تخوف الملايين من محبى «ماركيز» حول العالم من تشويه إرثه الأدبى، عبر نشر عمل «غير مكتمل» له، فصحيح أن الأديب الراحل عمل على «نلتقى فى أغسطس» بجد وتفانٍ، لكن تدهور ذاكرته فى سنواته الأخيرة أخر نشرها، ولم يعطها حقها فى مراجعة وتنقيح المسودة الخاصة بها من الأساس.

بل إن «ماركيز» نفسه رفض نشر هذه الرواية، وقال عنها قبل سنوات قليلة من وفاته: «هذه الرواية لا تصلح للنشر. يجب تدميرها». ومع ذلك، قرر نجلاه «رودريجو» و«غونزالو» استعادتها من أرشيف جامعة «تكساس» الأمريكية ونشرها، مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة لوفاة الكاتب الكبير.

لكن «رودريجو» دافع عن قرار الأسرة بنشر الرواية، قائلًا: «فى نظرى أنه عندما قال إن العمل لا يصلح، فقد كان فاقدًا للقدرة على الحكم بشكل سليم على العمل، إن هذه الرواية ليست بنفس قيمة رواياته الأخرى، ولكنها لا تعتبر ذنبًا، أو بمثابة كارثة لا يمكن تجاوزها، ولكنى أظن أنه كان فى حالة صحية لا تجعله من إدراك أو الحكم على الأشياء».

شبكة «بى بى سى» كان لها حوار مع مُحرر الرواية، كريستوبال بيرا، والذى نترجمه لقراء «حرف» فى السطور التالية، لنتعرف على أبرز كواليس الرواية الأخيرة لـ«ماركيز»، تلك التى وصفها بأنها «لا تصلح للنشر ويجب تدميرها».

■ كيف وصلت إلى رواية «نلتقى فى أغسطس»؟.. وما الذى دار بينك وبين جارسيا ماركيز حول هذه الرواية؟

- كنتُ مُحررًا لـ«جارسيا ماركيز» منذ عام ٢٠٠١، عندما تعاونت فى تحرير مذكراته: «عشت لأروى»، لتبدأ علاقتى بالمؤلف كمحرر له عن بُعد، وهى العلاقة التى استأنفناها وجهًا لوجه بعد ذلك، عندما ذهبت إلى المكسيك فى ٢٠٠٦، ثم استمرت علاقتى معه فى تحرير «لم أتٍ لألقى خطابًا»، وهو الكتاب الذى جمع كل خطاباته، ونُشر فى ٢٠١٠.

وأخيرًا، كما ذكرت فى ملاحظة المحرر الواردة فى الرواية الأخيرة، طلبت منى وكيلة جارسيا ماركيز، كارمن بالسيز، عام ٢٠١٠، أن أشجعه على إنهاء روايته «نلتقى فى أغسطس»، والتى لم أكن أعرف عنها شيئًا، وعندما عدت إلى المكسيك، أخبرته بذلك، وكان قد انتهى بالفعل من المسودة الأولى للرواية فى ٢٠٠٤. 

فى ذلك الوقت، ٢٠١٠ و٢٠١١، بدأ ينسى، كان قد بدأ بالفعل فى نسيان الكثير من الأشياء تدريجيًا، ولم يكن يستطيع أن يعمل على تطوير الرواية، لكنه كان مكرسًا جهده على تصحيح كلمة أو جملة لتحسينها، وهنا برزت عبقريته، فى تلك التصحيحات الصغيرة.

تمكنت من قراءة ٣ أو ٤ فصول من الرواية بصوت عالٍ أمامه، وأعجبنى الأمر كثيرًا، لاحظت أن الموضوع كان جديدًا عليه أيضًا، مع بطلة لم تظهر فى أعماله السردية السابقة، واستمر فى تدوين الملاحظات، فى نسخة خامسة من بين النسخ التى كان يعمل عليها، حتى توقف أخيرًا مع تقدم مرضه.

■ ماذا حدث للرواية بعد وفاة جارسيا ماركيز عام ٢٠١٤؟

- بعد وفاته، رأت العائلة أن الوقت لم يحن بعد لنشر تلك الرواية، والتى كان قد صرّح أيضًا بعدم رغبته فى نشرها فى سنواته الأخيرة.

وصلت جميع أوراق جارسيا ماركيز، بما فى ذلك هذه المخطوطة، إلى جامعة «تكساس» فى «أوستن»، لتصبح جزءًا من الأرشيف الكبير لـ«جارسيا ماركيز»، ولم تكن هذه الرواية متاحة للجمهور فى البداية، لكن بعض الناس تمكنوا من رؤيتها.

بعد أن رأى بعض الناس المخطوطة، وقالوا إنها جيدة جدًا ويجب نشرها، قرر أبناء جارسيا ماركيز أخيرًا تجاهل رغبة والدهم ونشرها، وهنا طُلب منى العمل على النسخة النهائية للرواية.

■ ما العلاقة التى ربطت جارسيا ماركيز بروايته «عن الحب وشياطين أخرى» بخلاف تجاهله لها فى سنواته الأخيرة؟ ما رأيه فيها؟

- فى مقابلة أجريت معه فى مدريد، عندما قرأ الفصل الأول من هذه الرواية علنًا، أخبر «ماركيز» الصحفية أنه كان يكتب سلسلة من الروايات القصيرة، حول موضوع «الحب فى مرحلة النضج»، و«عن الحب وشياطين أخرى» كانت جزءًا من ذلك.

عندما عاد إلى منزله، عام ٢٠٠٢، بعد تعافيه من السرطان فى «لوس أنجلوس»، عاد إلى مخطوطة ما ستصبح لاحقًا «ذكريات غانياتى الحزينات»، وأنهى كتابتها فى غضون عام، ونُشرت بالفعل، ثم كرس عامًا كاملًا للعمل على مسودة رواية «نلتقى فى أغسطس».

أرسل لاحقًا مخطوطة إلى وكالة «بالسيز»، وهى النسخة الخامسة التى تخلى عنها، تخلى عنها بمعنى كان راضيًا عنها إلى حد ما، كما أخبر سكرتيرته مونيكا ألونسو، والتى تلعب دورًا أساسيًا، فهى من كانت تساعده وتحتفظ بالمخطوطات.

فى سنواته الأخيرة، عندما بدأت ذاكرته تخونه، ولم يتعرف على أشياء كثيرة، ذكر عدة مرات أنه لا يريد نشر الرواية، وأنها ليست جاهزة، إلخ، لكن، كما يقول أبناؤه فى مقدمة الكتاب، الرواية لم تكن مصقولة، لكنها كانت مكتملة، كما سيرى القراء. لم أضطر إلى إضافة أى كلمة، بالطبع. لا داعى لأن أقول إننى لم أضف أى شىء.

■ ما التفاصيل التى يمكنك إخبارنا بها عن عملية تحرير الرواية؟ وما التحديات التى واجهتها؟

- كان التحدى الأكبر هو الاحترام المطلق لعمل جارسيا ماركيز، وهذا عمل ذو مسئولية هائلة. لحسن الحظ، أتيحت لى فرصة التعاون والعمل معه عن قرب، أكثر من مرة، وبالتالى كنت أعرف عمله جيدًا، وأسلوبه، وعملت معه فى التصحيحات، وكنت أعرف الطريقة التى يعمل بها، وهذا ساعدنى.

كان أهم شىء هو قراءة المخطوطة الكاملة، والتحقق من وجود القصة كاملة وناضجة، لم يكن هناك ما يمكن فعله لإنهاء أى شىء أو إضافة جملة أو نهاية، كان كل شىء موجودًا.

لقد قمت بعملى كمحرر مع المخطوطة، التى كانت موجودة فى مستند «Word»، والنسخة أو المسودة الخامسة، التى تركها مطبوعة مع العديد من التعليقات المكتوبة بخط اليد على الهوامش، مع التغييرات التى يجب أن تُضاف، وأشياء من هذا القبيل. هذه الأشياء التى ساعدتنى فى عملية التحرير، للوصول إلى النص النهائى.

أى إننى لم يكن على سوى السير وفقًا لما هو مكتوب بالفعل، ومخطط له، هذه هى الأشياء المتاحة لى كمحرر، والتى استطعت أن اتخذ قراراتى فى ضوئها. على سبيل المثال، كان يمكن أن أحذف عبارة أو جملة، شطبها هو بنفسه.

■ ما الذى تقصده بذلك على وجه التحديد؟

- هناك مثالان ذكرتهما فى ملاحظاتى كمحرر.

فى الرواية، تنتهى البطلة فى نهاية الفصل الأخير وهى فى سن الـ٥٠، ما يعنى أن عمرها فى الفصل الأول هو ٤٦ عامًا.

المسألة هى أنه فى الفصل الأول، يصف البطل الشخصية الرئيسية كأنها امرأة تقترب من سن الشيخوخة، وهو نفسه يضع علامة على هذه الجملة، ويضع علامة استفهام عليها.

من الواضح أنه كتب الفصل الأول قبل أن يكتب نهاية الرواية بكثير، وحين أعاد القراءة فى وقت لاحق أدرك أن امرأة تبلغ من العمر ٤٦ عامًا ليست قريبة مما نفهمه من سن الشيخوخة.

فى تلك اللحظة- بصفتى محررًا- ببساطة أستطيع أن أفسر هذه العلامة التى تركها، وأفهم ما كان يريد قوله من خلالها، فأزيل هذا الإشارة إلى سن الشيخوخة، ولا يرتبك القارئ، لأنها امرأة تبلغ من العمر ٤٦ عامًا.

مثال آخر هو أن البطلة تلتقى برجل فى الفصل الأول، وفى الفصل الأخير، بعد سنوات، تلتقى به مرة أخرى، فى شارع بمدينة ساحلية، ولا تتعرف عليه فى البداية، لأنه يقول إنه أصبح له شاربًا لم يكن له عندما التقت به.

وفى الفصل الأول، يظهر الرجل بالفعل بشارب.

هذه مسائل تتعلق بالتماسك والنضج السردى، الذى كان سيراه بنفسه حين يراجع النص مراجعة نهائية. لذا كان من الضرورى إزالة ذكر الشارب من ذلك الفصل الأول، لكى يكون لهذه الإشارة الأخيرة معنى.

ببساطة كانت تدخلاتى كالتالى:

- اتباع جميع الجمل التى ترك تعليقات عليها، بما يتيح التحكم ببساطة فى التماسك السردى للنص والتسلسل الزمنى والأسماء، إلخ. أرجو أن يكون هذا التفسير مفيدًا.

- بعد ذلك، ما كان علىّ فعله هو بعض التغييرات التى جاءت من التحقق من البيانات والمعلومات المذكورة داخل النص، مثل أسماء المؤلفين المذكورين، وهذا هو العمل الطبيعى للمحرر، وهو تقديم بعض الأسئلة المتعلقة بتماسك النص نفسه.

■ ما الذى تمثله هذه الرواية فى أدب جارسيا ماركيز، خاصة أنها آخر عمل ينشر له فى مسيرته؟

- القراء هم من سيصدرون حكمهم على «نلتقى فى أغسطس»، وأعتقد أن هذه الرواية تُسدل الستار على جميع أعماله السردية ببراعة، وأنه فى أعماقه كان مدركًا لذلك.

إنها رواية لها بطلة نسائية، لم تكن موجودة فى أى من رواياته السابقة. والنساء مهمات جدًا فى رواياته، منذ «مائة عام من العزلة» وفى جميع سردياته، لكن لم يكن لهن دور بطولى مثل دور «آنا ماجدالينا باخ»، بطلة «نلتقى فى أغسطس»، وهى امرأة تقرر استكشاف حياتها الجنسية وحريتها، ويسبب لها ذلك صراعات، لكنها تستمر فى ذلك الطريق، على الرغم من أنها امرأة سعيدة نظريًا، ولا تملك أسبابًا موضوعية أو حقيقية للقيام بكل ما قامت به داخل الرواية، أو ما سنعرفه عند القراءة.

لهذا السبب، وصفها ابنه «رودريجو» بأنها «رواية نسوية». أعتقد أن هذه الرواية تجعلنا نعيد النظر إلى جميع أعمال جارسيا ماركيز، خاصةً دور المرأة فيها، ليبدو أننا نعيد اكتشاف روايات وأعمال «ماركيز» بعد قراءة هذه الرواية، وأعتقد أن هذا هو السبب فى أهميتها.

بعد ذلك، من حيث أسلوبه فى السرد، تحدث الرواية فى مكان وزمن غير محددين، ربما فى الثمانينيات أو التسعينيات، فوق جزيرة على ساحل كولومبيا، لكن لا يُعرف ذلك على وجه اليقين، فهو لم يرد ترك علامات محددة على المكان، وهذا أمر جديد.