لماذا نكتب للأطفال؟
- يؤكد الأدباء والمبدعون مقولة مفادها أن الكتابة للطفل عملية بالغة الصعوبة على كل مستوياتها
- يؤلف أدب الأطفال دعامة رئيسيةفى تكوين شخصيات الأطفال عن طريق إسهامه فى نموهم العقلى
يمثل أدب الأطفال مجالًا مهمًا للدراسة، نظرًا لتأثيره على قطاع كبير من المجتمع من ناحية، ولدوره المحورى فى عملية التنشئة من ناحية أخرى، لقد بدأ أدب الأطفال- تاريخيًا- بوصفه وسيلة تعليمية لتربية الأطفال، وتهذيب سلوكهم، عبر حكايات تعبر بطريقة ما عما يريد المعلم/المربى أن يغرسه من قيم فى عقل الطفل ووجدانه، ولكن المعضلة الأساسية تكمن فيما وصل إليه هذا المجال من ناحية الدور وكذلك من ناحية الانتشار، فأدب الأطفال- كما يبدو- قديم قدم قدرة الإنسان على التعبير، مثلما هو حديث حداثة القصة التى ترويها «المدرسة» فى فصول الدراسة اليوم، أو يذيعها «المذيعون» فى ركن الأطفال فى الإذاعة والتليفزيون هذا الصباح، أو يحكيها «الآباء» و«الأمهات» و«المربيات» بجوار أسرّة الأطفال عند النوم، أو يرويها «الرواة» فى مجتمع الأطفال ليطلق العنان لخيالاتهم وطاقتهم الإبداعية، وتطوير وعيهم وطريقة فهمهم للحياة، وينمى إدراكهم الروحى، مثلما ينمى محبتهم للجمال وللمعرفة، ويبنى فيهم الإنسان ويصنعه، فإذا كان لا بد للمجتمع أن يمنح أبناءه أفضل ما يملكه، بل وما تملكه الإنسانية، فإن للأدب فى هذا السياق دورًا مهمًا وحيويًا فى تنمية الطفل وتطوير عقله، وتهذيب سلوكه، من خلال تأصيل ميله إلى قيم الحق والخير والجمال، ومن خلال قدرته على جذب اهتمام الطفل وتأثيره على مشاعره وطريقة تفكيره.
فخ الوصاية: الجدل الأخلاقى حول أدب الأطفال
عندما نتحدث عن الجدل الأخلاقى فى أدب الطفل نعنى به «إشكالية القواعد العامة التى تحكم المحتوى»، فلا نقصد هنا الشكل التقليدى للأخلاق، بل نقصد المبادئ والقيم الأساسية التى يدور الفن فى مدارها، فلكل فن مجموعة من القواعد الخاصة التى تهتم بطبيعة وأدوات هذا الفن أو ذاك، والسبل التى يسير فيها من حيث الشكل والمضمون، وهو موضوع يخص «نقد الفن» وسنناقشه لاحقًا، وموضوع يخص القيم التى تحكم الفن، فاليونان القدماء كانوا يرون فى كل فن صنعة وفى كل صنعة فنًا، ومن ثم فالطبيب فنان وصناعته الشفاء، والكاتب فنان وصنعته التأليف، وهكذا، ولكل صنعة قواعدها وأخلاقها التى تحكمها، فعلى سبيل المثال، يعد قسم «أبقراط» مجموعة القواعد والقيم التى تحكم فن/صنعة الطبيب. ومن هنا فإن غاية الفن أخلاقية بامتياز؛ حيث يسعى من خلالها إلى استثمار الفنون فى التنشئة والتربية والتعليم، بما ينمى إمكانات العقل ويطورها، ويهذب الذوق واللذات الحسية. وليس الانسجام الذى يدعو إليه أرسطو فى تصوره للفنون إلا دليلًا على ضرورة الانسجام الذى ينبغى أن يَسِم حياة الفرد فى علاقته بذاته وبمجتمعه. والواقع أن غاية الفن عند أرسطو، وكما يرى المحدثون، هى تحقيق التوازن النفسى لدى الفرد، والتكامل بين أعضاء المجتمع، ومن هنا كان الفن من ضرورات الحياة البشرية، ولقد كان لفلسفة أرسطو فى الفن تأثير عظيم فى العالم الأوروبى. فتأثر النقاد بكتابه «فن الشعر»، خاصة فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعنه أخذ الكلاسيكيون المعايير العقلية للنقد الفنى، وأهمها ضرورة توفر الوحدة العضوية فى العمل الفنى، وكثيرون هم الخبراء والفلاسفة الذين يطرحون أهدافًا وأدوارًا للفنون، خاصة عندما يكون جمهورها المستهدف هو الأطفال. ومن هنا فعندما نتحدث عن أدب الأطفال فنحن نتحدث عن فعل قصدى فى طبيعته، يستهدف إحداث تغيير ما فى «المتلقى» وهو فى هذه الحالة الأطفال، وكما يرى أرسطو فإن الفن أداة لـ«التعليم». ونحن نحكم على الفن من خلال المنطق العقلانى فى «صنعه»، لأن الفعل إذا تم بعقلانية دفعنا نحو «الأخلاق» ومن ثم نحو السعادة، ولا بأس فى أن تتحرك مشاعر الجمهور بسببه، لأن فى ذلك مشاركة إنسانية لصفة توحدهم المشاعر/ العاطفة.
إذ يؤلف أدب الأطفال دعامة رئيسية فى تكوين شخصيات الأطفال عن طريق إسهامه فى نموهم العقلى، النفسى، الاجتماعى، العاطفى، اللغوى، وتطوير مداركهم، وإغناء حياتهم الثقافية.. وهو ليست أداة- بحد ذاته- لفائدة الطفل بقدر ما هو أداة للنهوض به وبالمجتمع كله.. إنه وسيلة من وسائل حياة الطفل التى هى أساس حياة المجتمع كله، وعليه يقوم البناء النفسى والعقلى والاجتماعى والعاطفى للإنسان الجديد.
بينما يرى آخرون تعدد أدوار أدب الأطفال وتنوع أهدافه، ما بين تربوية واجتماعية ووجدانية...إلخ، وهو الأمر الذى يجعل كاتب الأطفال أمام معضلة إبداعية وأخلاقية، فالكتابة للكبار تتحرر فيها القدرة الإبداعية بشكل كبير، بينما الكتابة للأطفال تتزايد فيها التحديات، نظرًا لطبيعة الفئة المستهدفة، ومهما تكون طبيعة النص الأدبى المقدم للطفل، فلا بد أن يحقق جملة من الأهداف التى يضعها الكاتب نصب عينيه حين يقوم بإعداد النص الأدبى، وبمقدار ما يتمثل الطفل تلك الأهداف، يكون نموه باتجاهات النمو المختلفة، العقلى والتربوى والمعرفى واللغوى، فلا خير إذن فى نص لا يسهم فى تنمية الطفل فى هذه الجوانب أو بعضها على الأقل. ولا يشترط أن يتضمن النص الواحد جميع الأهداف، وربما توصل كاتب النص إلى تحقيق أهدافه بجملة من النصوص، تتكامل وتتضافر فى تحقيق جملة من الأهداف المرسومة.
يقول «شيللر» فى رسالته المعنونة «فى التربية الجمالية للإنسان»: «إن الفن ينبغى له أن يكون أساس التربية، فتنمية الحس الجمالى هى جوهر تنمية العقل والأخلاق»، ومن هنا فنحن بحاجة إلى مدخل تربوى يتصف بسمات بعينها بحيث يصبح سهلًا، بسيطًا، غير مكلف، بالإضافة لأن يكون ممتعًا، ويخلق الأمل فى التغيير، ويتجاوز ثنائية المعلومات/السلوك، وداعمًا للمهارات العقلية على تنوعها... إلخ، وأن يهتم أيضًا بالمعلومات والقيم ودمجهما معًا بعمقهما واتساع مساحتهما، إذ ينبغى أن يكون داعمًا للمهارات المتنوعة والمختلفة، وقادرًا على أن يخلق عملية تفاعلية بمجهودات بسيطة وموارد مناسبة، بحيث يصبح مرتكزًا على الطفل ذاته، مع الوضع فى الاعتبار دور أكثر فاعلية وتفتحًا للمربى/المعلم، متماشيًا مع ثقافتنا الاجتماعية وداعمًا للتطوير والتحديث المنشود فى ضوء استراتيجيات وخطط التعليم الحديثة التى يتم اعتمادها.
ينبغى أن يسهم الأدب إذن فى تنمية الأطفال من خلال جوانب متعددة، سواء الجانب العقلى، وتنمية خياله، وكذلك الجانب الإدراكى، أو الجانب الوجدانى... إلخ، ومن ثم يلعب دورًا مهمًا، ومن خلال سلوكيات الشخصيات الذين يعجب بهم الطفل ويقدرهم، فيقلدهم ويتبنى ممارساتهم دون تردد.
وعبر عملية اكتشاف الذات، ينتقل الطفل إلى إدراك الموجودات من حوله «الجمادات، النباتات، التعرف على دوره فى الحياة، التعرف على دور الآخرين»، وهى عملية مهمة وسيتم بناؤها اعتمادًا على تعميق مدركاته وخلق المعانى التى يختارها بفاعلية ونشاط من خلال خبراته الحسية، تلك الخبرات التى سوف تتحول إلى معلومة «الوظيفة الإدراكية»، ثم يقوم بتفسير تلك المدركات الحسية بحيث يصبح لها معنى فى علاقتها ببنى المعنى الخاصة بهم «الوظيفة التفسيرية التأويلية».
إننا لا نحصل على مدركاتنا من الأشياء وإنما تأتى مدركاتنا من داخلنا، وهذا ليس معناه أنه لا يوجد شىء خارج وجودنا، بل يعنى أنه لا يمكن أبدًا معرفة الأشياء خارجنا أيًا ما تكون هذه الأشياء إلا بواسطة فلترتها، أى تصفيتها من خلال النظام العصبى للإنسان، وأن ما ندركه يعد بالتأكيد وظيفة لخبراتنا وافتراضاتنا وأهدافنا «أى حاجاتنا السابقة». بعبارة أخرى فإن الشخص المدرك هو الذى يقرر ما طبيعة هذا الشىء؟ وأين يقع ؟ ولماذا؟ وفقًا لهدفه وفى ضوء الافتراضات التى يضعها، وهذا معناه أن الشخص يميل إلى إدراك ما يريد ويحتاج إلى إدراكه.
وربما يصبح من الضرورى أن أنهى هذه النقطة حول الجدل الأخلاقى وأدب الطفل- لأطرح ما أظنه رؤية واضحة، وتعبيرًا محددًا عن هذه النقطة- بما كتبه أحد رواد أدب الأطفال فى مصر والعالم العربى «أحمد نجيب»: هل نستجيب لنداءات أدب الأطفال فى بلادنا، وهو يهيب بنا أن ندخل به عصر النهضة الكبرى على أرضنا الخالدة العريقة، بما يتفق مع دوره الخطير فى دنيا الطفولة صانعة المستقبل، والتى ستحمل عبء تشكيل الحياة على هذه الأرض الطيبة فى مطلع القرن الحادى والعشرين، فى الوقت الذى تبدأ فيه البشرية الألف الثالث من تاريخها الميلادى على سطح هذا الكوكب، بحضارة رهيبة معقدة، واندفاع تكنولوجى لم يسبق له نظير.
فهل نرتفع بأطفالنا إلى مستوى قدرهم الجديد؟ وهل نرتفع بأدب الأطفال إلى مستوى مسئولياته الكبرى كأداة رئيسية فى بناء شخصيات صناع المستقبل فى القرن الجديد؟
إنها أمانة الأجيال فى عنق كل من يستطيع أن يضىء شمعة على الطريق، أو يضع لبنة ليرفع صرح الطفولة شامخًا عاليًا فى السماء.
لا شك أن نقاشًا من هذا النوع قد يظنه البعض فعلًا تسلطيًا بامتياز، يفرض على الفنان/المبدع نوعًا من القيود التى تحد من قدراته، وتقف حائلًا بينه وبين تقديم فن جميل وممتع، فليس من الضرورى أن يكون للأدب وظيفة بما يعنى أن الفن من أجل الفن، والإبداع من أجل الإبداع، ولا يمكن أن يوصف العمل بالإبداع إلا لو كان حرًا بلا قيود أو رقابة. وهو رأى أراه خاليًا من المعنى فى معظم عباراته، إذا كان المقصود هو «الأدب». فالأدب فى أصله- رغم كونه فعلًا إبداعيًا جماليًا- فعل اجتماعى/تواصلى بامتياز، وطالما قام المبدع بعرضه على جمهور من المتلقين، فينبغى له أن يقدم «معنى»، ومن ثم رسالة ما. وإن كان هذا لا ينفى على نحو من الأنحاء ضرورة تمتعه بالتقنيات والجماليات التى تخصه وتحكم معطياته، وهنا تكمن المعضلة، ويتجلى التحدى الإبداعى.
غواية الإبداع: الجدل الفنى حول حرفية الكتابة للأطفال
ربما يكون الفارق الجلى بين أدب الأطفال وغيره فارقًا يتعلق بالموضوع مثلما يتعلق بالأسلوب، ويظهر هذا فى المستوى اللغوى، والأسلوبى، مثلما يظهر فى الموضوعات التى يتطرق إليها، أو القضايا التى يعالجها، فالنص الأدبى هو الذى يمتاز بتوفر الشروط الفنية، والجمالية، والإبداعية التى تميزه عن النص العادى، وهو اشتراط ضرورى لأدب الأطفال مثلما هو ضرورى للأدب بصفة عامة، فلا بد لـ«المتلقى» أن يدرك ما فى النص من جمال وإبداع، وأن يتمكن النص من نقل تجربة الأديب ورؤيته بوضوح.
ويؤكد الأدباء والمبدعون مقولة مفادها أن الكتابة للطفل عملية بالغة الصعوبة على كل مستوياتها، ومجال لا يستطيع أى مبدع خوض غماره، فهو فن عصى على كثيرين من الكتاب والمبدعين «أو هكذا ينبغى أن يكون» إذ لا يقدر الجميع على السيطرة على أدواته، وتقديم أعمال مبدعة قادرة على جذب الطفل والتأثير فيه، فنحن أمام جمهور/متلقٍ من نوع خاص، يستلزم سمات استثنائية لشخص وقدرات الراغب فى القيام بهذا الفعل الإبداعى على مستويات عدة، فإلى جانب قدرته على الكتابة بمميزاتها الفنية، وجمال الأسلوب، وطرافة الأفكار، وتعالى المعنى وسموه، وخصوبة الخيال، يتحتم عليه أن يقدم كل هذا فى سياق قدرة الأطفال على التعامل مع ما يقدمه، فى حدود مهاراتهم التعليمية، ومستوى تحصيلهم، وطبيعة خبراتهم المعاشة، وقدراتهم العقلية والنفسة. الأمر الذى يستدعى أن يكون المتصدى للكتابة للطفل صاحب موهبة استثنائية، وخيال واسع وخصب، ولغة متمكنة وسلسة فى الآن ذاته، مع تمتعه بثقافة موسوعية متجددة، وأن يدرك أن ما يقوم به من فعل سيترك أثرًا فى روح شخص ما «سلبًا أم إيجابًا» وسيسهم فى تغيير رؤية شخص ما للعالم، وهو ما يعنى مسئولية إنسانية غير محدودة الأبعاد، وفى واقع الأمر فإن قلة قليلة من الكتاب يمكنهم الخروج من مأزق الأسلوبية من ناحية، والنجاة من فخ الوصاية والعظة من ناحية أخرى، من خلال قدرتهم على صياغة توليفة إبداعية دون أن يطغى أحدهما على الآخر. فيقدمون له عملًا إبداعيًا أصيلًا، يصبو نحو الحق، والخير، والجمال، ومفعم بالخيال والأمل والحياة.
عالم صوفى: تجليات الكتابة الإبداعية
يطرح شوبنهاور مقولة مفادها: إن الحقيقة تكون دائمًا أكثر جمالًا إذا تعرت، ويكون التأثير عميقًا بقدر ما يكون التعبير عنها بسيطًا، ويرجع ذلك إلى أنها من خلال تعبيرها البسيط تستحوذ استحواذًا كاملًا على روح القارئ، ولا تدع له من الخواطر الجانبية ما يشتت ذهنه، ومن ناحية أخرى فإن القارئ يشعر بأنه لا يوجد من يحاول خديعته، وإفساد إدراكه بفنون البلاغة غير المفيدة. يدرك المتفحص لكتاب «عالم صوفى»، وعبر صفحاته وطوالها، مدى احترام الكاتب للطفل/المتلقى من خلال طرحه الأفكار، وسرده التاريخ بصدق وموضوعية، دون تقليل من قيمة الفكرة، أو تكبر معرفى على المتلقى، أو استهانة بعقله.
قدم الكاتب النرويجى «جوستاين غاردر»، عبر صفحات كتابه «عالم صوفى» التى وصلت إلى أربعمائة صفحة دون أى رسوم أو صور توضيحية، رواية جاذبة ومشوقة حول تاريخ الفلسفة، تعرض فيها لموضوعات شديدة الصعوبة والتعقيد بسلاسة وجمال، وقدم عبر الكتاب قصة «موازية» مشوقة تتصاعد أحداثها وتصل لذروة حبكتها الدرامية، بينما هذا السرد التاريخى يتقدم بتؤدة وأناقة، حيث اتسمت العبارات ببساطتها التركيبية وبيان معناها، واتسمت الأفكار المتضمنة «رغم صعوبتها المتوقعة» بالتحديد والوضوح، ورغم طول الكتاب، وكثرة الصفحات، تمكن الكاتب من جذب المتلقى حتى نهاية رحلة الكتاب، دون أن يشعر المتلقى بالملل أو الرغبة فى التوقف، وهذا النجاح يعود لأسباب فنية تتمثل فى قدرته على الوصول للأسلوب المناسب والمعايير اللازمة لصناعة كتاب ناجح، فلقد خلا الكتاب من الأساليب الإنشائية التى تعتمد على الوعظ والنصيحة، والتى يشعر المتلقى معها بتعالى الكاتب وتكبره المعرفى أو الأخلاقى، ومن ثم يشعر وكأنه تحت وصاية ما، وهو ما نجح الكاتب فى تلافيه ببراعة، رغم أن الكتاب يعد فى مضمونه كتابًا يستهدف تقديم معلومات تاريخية محددة، وأفكار فلسفية معقدة.