الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

طايع الديب يكتب: شعار الشمامين.. من طرائف «أدب الجريمة» فى مطلع القرن الماضى

القرن الماضى
القرن الماضى

فى عشرينيات القرن الماضى تعرّض محامٍ مشهور للسرقة أثناء سيره فى منطقة وسط البلد.

كان الرجل يحمل بضعة جنيهات ذهبية، أيام ما كان الجنيه من الذهب الخالص، فى كيس نقود وضعه فى جيب داخلى أخفاه فى صديرى البدلة. مع ذلك، شقّ نشال محترف الجيب وسرق الكيس، لكن السلاح تعدى إلى جسم المحامى فأحدث به جرحًا ظاهرًا.

لم يذهب الضحية إلى قسم البوليس، إنما أخذ طريقه إلى حى بولاق أبوالعلا، معقل النشالين والهجّامين و«شيوخ المنسر» وقتها. وسأل حتى عثر على الرجل المطلوب، فدخل عليه، وخيط من الدم ينزل على ملابسه. حيّاه، وكشف له عن القطع فى البدلة والجرح الدامى فى جنبه، ثم قال: قطع الهدوم ماشى، لكن الجرح ده لزمته إيه يا معلم؟ إنت مشغل ناس عيال متعرفش أصول الصنعة!

بعد دخلة المفهومية هذه، المتشفعة بالأصول، دعا «شيخ المنسر» المحامى للجلوس: اتفضل يا سيدنا الأفندى. وأمر له بقهوة مظبوط، وشىء من الكيف، إن كان من أصحاب الكيف. 

شدّ المحامى نفسًا من الجوزة، لمجاراة الجو، وناولها إلى «شيخ النشالين»، الذى جبد نفسًا أشعل به الفحم حتى طقطق فى الأجواء، ثم سأله عن المكان الذى وقع فيه الحادث، فأخبره. نادى المعلم: هاتوا لى الجحش اللىّ اسمه «سيد ديكا» فورًا!

جاء «ديكا» على عجل، فبادره شيخه بقلم مسموع على قفاه، وشخط فيه: طول عمرك جايب لنا الفضايح بين ولاد الكار يا حمار، وكمان هتسوّأ سمعتنا عند الأستاذ الأفوكاتو؟ 

وردّ المعلم للمحامى الكيس، معتذرًا له عن «عيوب الصنعة»، وهو يطالبه بعدم المؤاخذة عما حدث له، عارضًا عليه التكفل بمصاريف علاج جرحه الطفيف، فشكره الرجل وأعطاه جنيهًا ذهبيًا، وانصرف إلى حال سبيله. 

هذه الحكاية، يرويها الدكتورالسعيد مصطفى السعيد، أستاذ القانون الجنائى بجامعة القاهرة فى ستينيات القرن الماضى، فى كتابه «من أدب الجريمة» الصادر عام ١٩٦٤.

والكتاب، واحد من الكتب الغريبة التى قد تعثر عليها بالصدفة فى «سور الأزبكية». ومصدر غرابته، أنه يكشف عن وجهة نظر «المجرم المبدع»، إن صح التعبير، فى الجريمة. ويسجل ما تواضع عليه المجرمون فى مهنتهم من «آداب» معتبرة لا يصح فى عرفهم الخروج عنها. وما حول ذلك مما يمكن اعتباره نوعًا من «أدب الجريمة»، يدافع فيه الجانى عما فعله، أو- على الأقل- يبرر لنفسه فعلته.

للجريمة أيضًا «آداب»

افتتح د. السعيد كتابه بمقدمة ممتعة، ذكر فيها أن الجريمة قديمة قدم الإنسان، حتى قبل نزوله الأرض، ما يؤكده قول الشاعر: أبوكم آدم سنّ المعاصى.. وعلّمكم مفارقة الجنانِ.

ولكن، هل يمكن أن تكون هناك علاقة من نوع ما بين «الأدب والجريمة»؟

يجيب الكاتب أن «الجرائم، فى حقيقتها، خليط من المآسى والعبر، يقترن فيها السخط بالرضا، والعار بالفخار، والنذالة بالشهامة، والجبن بالشجاعة. وهذه كلها من ميادين الأدب. ولا يخلو الحال من أديب يتصل بالجريمة على نحو ما، فينفعل بها، ويصوّر انفعاله فى أدبه». 

وبذلك، لا يسجل المؤلف «أدب الجريمة»، هنا، على ألسنة المتهمين والمجرمين أنفسهم فقط، بل على لسان بعض معاصريهم، من الكُتّاب والشعراء المشاهير، وغيرهم ممن أدركتهم حُرفة الجريمة والأدب.

وفى الآداب العالمية، حتى المحلية، ظهر أدباء من العدم تخرجوا فى غياهب السجون، ثم خرجوا منها ليصبحوا من أشهر كُتاب العصر، ومنهم جان جينيه الأديب الفرنسى الذى كان فى شبابه لصًا وتاب عن السرقة، ثم أصبح من أشهر كُتاب عصره بعد أن تبنّاه الفيلسوف جان بول سارتر. وأيضًا مواطنه هنرى شاريير مؤلف رواية «الفراشة» البديعة، أحد أهم كتب أدب السجون فى العالم. 

وعندنا كذلك، من خريجى الليمان وأصحاب السوابق، الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، الذى سُجن فى مطلع حياته بتهمة تزوير مستندات رسمية، وحكى عن ذلك بنفسه فى مذكراته، وكانت له قضايا جنائية أخرى غير معلومة.

ولم يكن الكاتب الكبير خيرى شلبى ليصور حياة المهمشين والهنجرانية واللصوص بهذه الدقة والأصالة، لو أنه لم يعش هو نفسه حياة التشرد والصعلكة، ويخالط المجرمين و«يتكيّف» معهم، خلال عيشه فى أحواش «تُرب البساتين» زمنًا.

سجل شلبى، ثقافة الحشاشين الخاصة. وذكر فى رواية «صالح هيصة» أنه كان هناك أكثر من ٦٠ «غُرزة» فى شارع واحد. وهى أماكن خاصة كان يجرى فيها تعاطى المخدر بعد حظر الحشيش، وتغض سلطات الأمن الطرف عنها.

ورأى الرجل، فى حوار جرىء، أن «قعدات الحشيش فى تلك الغُرز تشبّه جلسات الذكر من حيث الانسجام والتوّحد، وتذيب الفوارق الطبقية والإنسانية بين البشر، وكأنها توّحد بينهم». 

وصية «فيلسوف الحرامية»

يشير السعيد، إلى أن للجريمة آدابًا منذ القدم، إذ يحدثنا التاريخ عن «صعاليك العرب» فى الجاهلية والإسلام. وهم طائفة من اللصوص كانوا يأخذون المال والمتاع بقوة السلاح، وذاع أمرهم، واشتهروا بمروءتهم على قدر شهرتهم باللصوصية، فقد كانت لهم آداب يلتزمونها، منها أنهم لا يسرقون إلا البخلاء من الأغنياء، والغشاشين. أما الغنى الكريم الذى يعطى الفقراء فلا يتعرضون له. وكان أعلاهم ذكرًا الشاعر عروة بن الورد، الذى سُمّى «أمير الصعاليك». وهو شاعر مجيد وله ديوان مشهور. ذاع صيته فى السماحة والمروءة والنجدة، رغم كونه لصًا كبيرًا. حتى إن أحد خلفاء بنى أمية قال فيه: «من زعم أن حاتم الطائى أكرم العرب، فقد ظلم عروة»! 

ومن آداب الجريمة، وليس أدبها، وصية اللص الشهير «عثمان الخياط» الذى عُرف بهذا اللقب فى العشرينيات لمهارته فى سد «النقب» الذى ينقبه فى الجدار للسرقة سدًا محكمًا حتى كأنه خيّط الحائط.

جاء فى هذه الوصية، التى كان يلقيها الخياط فى جمع من أتباعه الحرامية والهنجرانية: «ما سرقت جارًا، ولا كريمًا، ولا كافأت غادرًا بغدره أبدًا. اضمنوا لى ثلاثًا أضمن لكم السلامة، اتقوا الحُرمات، ولا تستوطوا حائط الفقير، ولا تتجرأوا على بيت الكريم. واعلموا، بعد ذلك، أنكم أولى بما فى أيديهم «يقصد أيدى الضحايا»، لكذبهم وغشهم، وتركهم إخراج الزكاة، وجحودهم الودائع».

وكان لـ«الخياط» تخريجات فلسفية معتبرة، الهدف منها تحويل السرقة إلى فلسفة، منها ما أورده المؤلف من قوله لأصحابه: «لم تزل الأمم يسبى بعضها بعضا، ويسمّون ذلك غزوًا، وما يأخذونه غنيمة، وهو من أطيب الكسب. وأنتم فى أخذ مال الغدّارين والفجرة أعذر، فسمّوا أنفسكم غزاة»!

على نقيض هذه الأخلاقيات الرفيعة، ما أورده المؤلف على لسان عباس العقاد، الذى سُجن فترة فى قضية نشر، من أن نزلاء «سجن مصر» سرقوا ساعة جيب من إمام مسجد السجن، أثناء خروجهم من صلاة الجمعة!

فى «مديح الحشيش»

تغنى المدمنون وأصحاب الكيوف، فى مطلع القرن السابق، بأنواع المخدرات المختلفة، وعلى رأسها الحشيش والأفيون والكوكايين. وأنتجوا بذلك نوعًا من الأدب، الذى خلّدته الكتب باعتباره شكلًا طريفًا من أشكال الأدب الشعبى. 

فى تلك الفترة، كان تدخين مخدر الحشيش فى المقاهى والطرقات العامة أمرًا عاديًا، كما هو الحال فى بعض دول أوروبا حاليًا، حين أصبحت هولندا عام ١٩٧٦ أول دولة أوروبية تسمح بتعاطى الحشيش، أى أننا سبقنا الأوروبيون فى ذلك بأكثر من نصف قرن! 

اشتهر مقهى اسمه «قهوة سى خليل» فى حى شبرا، وقتها، بتقديم «الحشيشة» الجيدة. وروى أحمد شفيق باشا فى مذكراته بعض ما قيل من أشعار مجهولة المؤلف فى معرض الثناء على هذا المقهى، ومنها قول أحدهم:

كل شىء فى مصر ثقيل.. إلاّ قهوة سى خليل

الكيوف فيها نضيفة.. والحشيش مالوش مثيل

ويقول المؤلف إن مطربًا معروفًا فى عصره- لم يذكر اسمه- سجّل خلال الأربعينيات من القرن أغنية فى «مديح الحشيش» على أسطوانات، تم توزيعها فى الأسواق، ولقت إقبالًا كبيرًا من الجمهور، حتى رددها الحشاشون من أرباب «الغُرز». 

كلمات هذه الأغنية الطريفة تقول:

جوزة من الهند عليها غاب.. مدندشة بالدهب ومجمعة الأحباب

جبدت منها نفس العقل منى غاب.. زعقت من عزم ما بى وقلت يا توّاب

تتوب عليّا من الجوزة وشرب الغاب!

يضيف السعيد: «ثم ظهرت المخدرات البيضاء، كالهيروين والكوكايين، واستشرى خطرها فنشطت السلطات فى تعقب أصحاب المخدرات جملة. ولكن الآثار السيئة سريعة الظهور للمخدرات البيضاء جعلت الجمهور ينظر إلى أصحابها نظرة دون نظرته إلى أصحاب الحشيش، فصار وصف (شمّام) فى الوعى الشعبى أدنى بكثير من (حشّاش)».

وشعر الجمهور بخطر تلك المخدرات البيضاء، التى كانت حديثة العهد فى مصر وقتها، فظهر مونولوج شعبى شاع فى الأفراح والمناسبات، وغنّاه الشيخ السيد درويش: 

شم الكوكايين.. خلاّنى مسكين

مناخيرى بتوّن.. وقلبى حزين

ويبدو أن هذه الأغانى لم تعجب الشمّامين، بدعوى أن الكوكايين مثل غيره من المخدرات والخمور، وأنهم أحرار فى أنفسهم:

اشمعنى يا نُخ.. الكوكايين كُخ

هو انت شريكنا.. حتى ف مناخيرنا؟!