الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مصطفى عبيد: «ابنة الديكتاتور» بطلتها شخصية حقيقية وحكيت قصتها فى رواية هربًا من المساءلة القانونية

مصطفى عبيد
مصطفى عبيد

- «سناء بكاش» لعبت دورًا كبيرًا فى تاريخ الحركة الأدبية والثقافية فى مصر

- كانت عميلة لـ«القلم السياسى» فى الملكية وتولت عملًا سريًا أكبر فى الحقبة الناصرية

- المرأة الوحيدة التى تسللت إلى صالون العقاد.. والأديب الكبير أجلسها بجواره

يجيد الروائى مصطفى عبيد التفتيش بصبر ودأب فى خزائن التاريخ، فيستخرج منها دُررًا ولآلئ يصنع منها جواهر شديدة الجمال، ولعلّ آخر جوهرة قدمها لقرائه هى روايته الجديدة «ابنة الديكتاتور»، التى صدرت قبل أيام عن الدار المصرية اللبنانية.

ولأنه كاتب محترف، يمارس مصطفى عبيد فى «ابنة الديكتاتور» لعبة سردية شديدة الذكاء، وهى التواطؤ كمؤلف مع شخوص العمل، فيجعل حفيدة البطلة «سناء بكاش»- على سبيل المثال- تكرهه وتنظر إليه فى تعالٍ، قبل أن تمنحه ثقتها وتسلمه مذكرات جدتها الشخصية الاستثنائية التى تقوم عليها الرواية.

لكن الحيلة الأخطر الذى استخدمها الكاتب فى «ابنة الديكتاتور»، هو بناء الشخصية الأساسية بشكل يحاكى شخصية حقيقية لعبت أدوارًا سرية فى تاريخ مصر المعاصر، مستخدمًا تلك التورية كوسيلة لحماية نفسه من أى مساءلة قانونية قد يتعرض لها فى هذا السياق.

عن كواليس كتابته الرواية، وكيف بنى شخصياتها دراميًا، أجرت «حرف» الحوار التالى مع مصطفى عبيد.

■ بداية.. عَمّ تدور فكرة «ابنة الديكتاتور»؟

- فكرة الرواية قائمة على سؤال محورى ومهم، ألا وهو إلى أى مدى نستطيع التضحية بأشياء مهمة فى سبيل الوطن، فهناك من يضحى بجهده وهناك من يضحى بوقته، أو بأمواله أو بنفسه.

 لكن ماذا لو كان الإنسان مدعوًا للتضحية بأخلاقه، وبمعنى أدق أن يضحى بالأعراف والتقاليد التى اتّفق عليها فى المجتمع، هذه الفكرة الأساسية للرواية وتقوم عليها الشخصية المحورية، وهى فتاة شديدة الجمال بل جمالها استثنائى ومن مواليد سنة ١٩٢٩، وبشكل ما تم تجنيدها للعمل فى القلم السياسى خلال عهد الملك فاروق، وكانت مصنوعة لتُقحم فى الوسط الأدبى الثقافى، لتصبح عينًا للقلم السياسى على الوسط الأدبى، ولكن فيما بعد ومع التحول من الملكية إلى الجمهورية، هذه السيدة لم يتم استبعادها وإنما طورت واستخدمت بشكل أوسع ونفذت عملًا سريًا واسعًا وكبيرًا جدًا وصارت ملء السمع والبصر.

بطلة الرواية شخصية حقيقية وكاتبة معروفة جدًا، وقد حاولت اللجوء إلى الرواية للكتابة عنها تجنبًا للمساءلات القانونية، حتى لا أتهم بالإساءة إلى شخص بعينه، أو إلى عائلات بعينها؛ لذا كانت هذه هى الفكرة الأساسية للرواية، والقائمة على مذكرات هذه الكاتبة التى عثرت عليها حفيدتها، وتحاول أن تعيد قراءة المشهد وطرح السؤال المهم والإجابة عنه، وهو إلى أى مدى نستطيع التضحية من أجل الوطن، لأنه يحتمل إجابات مختلفة لا إجابة واحدة، وهل نقبل أن نضحى بسمعتنا وشرفنا فى سبيل خدمة الوطن أم لا؟

■ يحمل غلاف روايتك إشارة إلى أنها مستوحاة من أحداث حقيقية.. حدثنا عن كواليس كتابة هذا العمل؟

- رواية «ابنة الديكتاتور» مستوحاة من أحداث حقيقية كما هو مبيّن على غلاف الرواية، لأن الشخصية المحورية فى العمل هى محاكاة لشخصية حقيقية لعبت دورًا كبيرًا فى تاريخ الحركة الأدبية والثقافية فى مصر خلال مرحلة مهمة، وهى مرحلة التحول من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى وما صاحب ذلك من صعود لتيار سياسى جديد، وحدوث تحولات سياسية كبرى فى بنية المجتمع المصرى.

وما أوحى لى بفكرة الرواية هى فقرة فى الكتاب الشهير لأنيس منصور ربما هو الكتاب الأهم له، وهو «فى صالون العقاد.. كانت لنا أيام» وباعتباره أحد مرتادى الصالون منذ الأربعينيات وكان أحد التلامذة المقربين لعباس محمود العقاد.

فقد لفت نظر أنيس منصور فى عام ١٩٤٤ تحديدًا، أن امرأة مبهرة شديدة الجمال- كما يقول- دخلت الصالون للمرة الأولى فى تاريخه، وقام لها العقاد بنفسه وصافحها وأجلسها إلى جواره، وكانت المرة الوحيدة التى تشارك فى ندواته امرأة، وهذه المرأة هى من استرعت انتباهى، ووجدت فيما بعد تشابهًا فى ما قاله مصطفى أمين فى كتابه «عمالقة وأقزام» فى باب بعنوان «فوازير»، إذ يشير فيه إلى بعض الشخصيات السياسية المهمة دون أن يصرح بأسماء أصحابها، وكان من بينهم شخصية بعنوان «مدام رولان» والتى هى فى الحقيقة شخصية فرنسية لعبت دورًا مهمًا فى السياسة.

وكان مصطفى أمين يرى أن هناك «مدام رولان» مصرية أيضًا، ويشير إلى سيدة شديدة الجمال كانت تحرك خيوط السياسة والأدب والمجتمع خلال فترة زمنية، وكان تحديدًا يقصد نفس الشخصية التى تحدث عنها أنيس منصور فى كتابه عن «العقاد».

هذه الشخصية بدأت تلمع فى ذهنى، فبدأت أبحث عن خيوط متشابكة ومتكاملة لقراءتها، ثم بحثت فى محاضر تحقيقات قضايا مهمة فى التاريخ السياسى المصرى ووجدت أن اسمها ورد كشاهدة، فبدأت أتتبع ما كتبته وكيف كانت فى زمانها شخصية عظيمة ولامعة جدًا جدًا، ثم انطفأ ذكرها حتى إنه لم يعد يعرفها أحد. 

ومن هنا بدأت فكرة الرواية، وهو تقديم استقراء لشخصية طمست أو نسيت وتم تجاهلها عن عمد، وكانت تلك هى البداية الحقيقية لكتابة الرواية أو تجميع مادة متكاملة عنها.

■ تذكر حفيدة بطلة الرواية أنها قابلت باحثًا يحمل اسمك.. فهل قصدت أن تتورط فى السرد ومسار الأحداث أم جاء ذلك عفويًا؟

- حفيدة بطلة الرواية، قابلت شخصًا يحمل اسم «مصطفى عبيد» ويتسم بأنه شخص متطفل مغرور لم تحبه بطلة الرواية، وكان ذلك مقصودًا لأنها إحدى الحيل التى يلجأ إليها بعض الكتاب والروائيين لكسر فكرة الإيهام أو الإيحاء بواقعية القصة، ربما يكون ذلك حدث بالفعل وربما أكون قد قابلت هذه الشخصية فى الحقيقة، وربما أكون متوهمًا هذه المقابلة لكن فى النهاية هى محاولة أو حيلة جديدة قد يستطيبها البعض ويستحسنها، وربما يرفضها البعض وينفر منها وفى النهاية الحكم للقارئ عن مدى أهميتها ولزومها.

■ تذكر بطلة روايتك «سناء بكاش» أنها لو عاد بها الزمن لاختارت نفس اختياراتها الأولى.. هل هذا يعنى إيمانها بهذه الاختيارات مهما كانت عواقبها؟

- أعتقد أن هذا القرار نسمعه دائمًا من أصحاب الأعمال المهمة والعظيمة، فهى ترى نفسها امرأة عظيمة ولعبت دورًا مهمًا، وقدمت تضحيات فى سبيل الوطن لأن البعض قد ضحى بنفسه وبحياته أو وقته أو ماله، وهى ضحت بما هو أعظم وأهم وهو السمعة والشرف والأخلاق إيمانًا منها بأنها تجاهد أو تناضل فى سبيل الوطن، لكن ما مدى صحة ذلك، هذا ليس سؤالنا، إنما هو سؤال عام للجميع وتختلف إجابته من شخص لآخر، لكن إيمانها بذلك يقر بأنها فعلت أمورًا عظيمة، وأنها مع كل ما حدث وكل ما يمكن أن توصم به، تؤمن بأن ما فعلته أمر عظيم.

■ لماذا احتفظت «سناء بكاش» بمذكراتها؟ ولماذا سلمتها لحفيدتها لتنشرها؟

- احتفاظ «سناء بكاش» بمذكراتها تعبير عن إيمان ويقين بأن الناس يجب أن تعرف وتعلم بأنها ضحت وقدمت وأعطت وقدمت أمورًا كثيرة جدًا، وكان هدفها الأساسى خدمة الوطن، وربما يكون ذلك نوعًا من التبرير النفسى أو التكفير لدى بعض الشخصيات فى أواخر عمرها، أو نوعًا من التنبيه لآخرين بألا يسيروا على نفس الدرب، وكلها أمور قابلة لتفسيرات عديدة.

■ إلى أى مدى كانت بطلتك «سناء بكاش» صادقة فى مذكراتها؟ أو بمعنى آخر هل كذبت لتتجمل؟

- من المؤكد أن ما سجلته «سناء بكاش» فى مذكراتها، قد تكون صادقة فيه فى أمور وكاذبة فى أمور أخرى، ولا يمكن التأكيد على صدق أى حكى تاريخى، وحتى المذكرات الرسمية للقادة والزعماء والرؤساء والوزراء والساسة، كلها قد تحمل صدقًا أو كذبًا، هذا أمر وارد ومحتمل، والحكم فى النهاية يكون للقارئ الذى عليه أن يقول إن كان قد اقتنع بأن هذا الكلام صادق، من عدمه.

■ الرواية تطرقت لمناطق شائكة فى سيرة «سناء بكاش».. كيف عالجت الشخصية على المستوى النفسى؟

- «سناء بكاش» حاولت أن تقدم نفسها فى الرواية، بالتأكيد أولًا على تضحياتها فى سبيل الوطن. وثانيًا وهذا شديد الأهميةـ إظهار ما تعرضت له من مواجع ومآس ومن تحولات كبرى ثم ما انتهت إليها الحال فى النهاية من شبه عزلة، وتجاهل من مجتمع يتصور أنه يجب أن يبتعد عنها تطهرًا منها.

■ إذا ما كانت المذكرات صالحة لكتابة الرواية.. هل تصلح أيضًا كمصدر تاريخى توثيقى؟

- بالقطع، المذكرات تصلح لكتابة الروايات كما تصلح للحكى التاريخى، فنحن نعرف التاريخ دائمًا من حكى الآخرين، وإحدى وسائل أو أدوات الحكى هى المذكرات واليوميات.

■ يغلب على معظم رواياتك استنادها لوقائع تاريخية حدثت بالفعل.. هل خططت لهذا مسبقًا؟

- اهتمامى وإصرارى على الكتابة التاريخية أو كتابة روايات لها خلفيات تاريخية، نابع من عشقى للتاريخ. أنا ممتزج بالتاريخ وأشعر بأنه يتكرر دائمًا فى بلادنا بأشكال مختلفة وأسماء أخرى. وأتصور أننا يجب دائمًا أن نتعلم من التاريخ، ففيه عبر مهمة جدًا، ودروس مستفادة، ولكن للأسف الشديد لا نستفيد منها. 

يضاف إلى ذلك أيضًا أن التاريخ بحكاياته وكواليسه وأسراره ومواقف شخوصه، يصلح كمادة درامية شديدة الإبهار لكل من يتجول أو ينبش فيه.

■ فى «ابنة الديكتاتور».. أين الواقع وأين الخيال؟

- الواقع فى رواية «ابنة الديكتاتور» هو المساحة الكبرى، حكى الأحداث التاريخية العامة، سواء الأحداث التاريخية المعروفة للناس مثل حادث ٤ فبراير، وانتهاء الحرب العالمية الثانية وحريق القاهرة واغتيال النقراشى باشا وثورة يوليو ١٩٥٢، وكلها أمور لا يجب التلاعب بها بالخيال لأنها أمور موجودة ومعروفة ومسلم بها لدى الناس.

لكن مساحات الخيال تضيف بعض المشاهد والحوارات والشخصيات فى بعض الأحيان التى قد تربط المتلقى بحدث مهم وتكشفه بشكل أشمل وأوسع، وهذه إحدى المزايا التى يتيحها فن السرد فى حكى ما مضى.

■ هل تستدرك الرواية التاريخية ما أسقطه التاريخ الرسمى؟

- مثلما قلت لكِ أنا متحفظ على تعبير الرواية التاريخية. ومصطلح رواية تاريخية، وأفضل عليها مسمى «رواية ذات خلفية تاريخية». لأن الرواية يجب أن يكون العنصر الأساسى فيها هو البناء الدرامى والخيال وافتراض ما هو غير موجود يقينًا، وليس نقل شىء أو وقائع وأحداث موجودة بالفعل.

وبالطبع الرواية التاريخية أو الرواية ذات الخلفية التاريخية لا تصلح كمادة لحكى التاريخ، هى فقط يمكن أن تطرح تساؤلات أو تضىء مناطق معتمة أو تلفت انتباه القارئ ليفتش بنفسه ويستقرئ التاريخ ببحث واقعى، فالرواية فى النهاية هى حكاية قصة خيال يمكن للكاتب بمنتهى البساطة أن يدعى أن حدثًا ما لم يحدث،  مثلما على سبيل المثال، قد يدّعى أحد أن الملك فاروق لم يخرج من مصر، ويقيم بناءً روائيًا كاملًا وفق ذلك، أو مثلًا يقول إن محمد على فشل فى البقاء فى مصر وتم خلعه. نستطيع أن نفترض أى افتراض فى التاريخ ونبنى عليه عوالم، والرواية ذات الخلفية التاريخية ليست تاريخًا يقينًا أو قاطعًا.

■ العديد من المبدعين والنقاد يرفضون الرواية التاريخية ويقولون إنها ربما تكون عملًا إبداعيًا لكن ليست رواية.. فما رأيك؟

- لا أعرف يقينًا من الذى يرفض الرواية ذات الخلفية التاريخية. أنا لا أسمى الرواية رواية تاريخية، بل أسميها رواية ذات خلفية تاريخية لأن الرواية هى حكى وقصة، وهى وحبكة وشخوص من لحم ودم وحوارات وبالقطع هناك جانب كبير من الخيال، فنحن لا نعيد حكى الماضى، فحكى الماضى كما هو لا يبهر، وهناك خيوط فاصلة ما بين السرد الروائى للروايات التى لها خلفية تاريخية، وبين الروايات الرسمية كحكى مباشر ورسمى. 

وأعتقد أن القارئ أصبح لديه الخبرة الكبيرة التى تجعله يستطيع التفرقة والانتقاء بين عمل وعمل آخر فى هذا الشأن.