الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صبحى موسى: هناك مثقفون رفضوا إزاحة الإخوان إلا بالديمقراطية وتناسوا أن «هتلر» جاء بالصندوق

صبحى موسى
صبحى موسى

- اليساريون سعوا بعد 25 يناير ليكونوا رجال الدولة الجديدة 

- يسار السلطة ليس معناه أن تكون ضدها أو نقيضها بل الاستقلال عنها

- الثورة تأكل أبناءها.. فما بالنا لو أننا أمام ثورتين؟ 

- الثقافة المصرية فى مأزق مرعب وتعانى من هجمات من المشرق والمغرب

- نعيش مرحلة تداخل فيها الجيد بالسيئ وأصبح الفرز فيها ضعيفًا

- الرواية التاريخية تسد الثغرات التى لم يتعرض لها المؤرخون

يمتلك الروائى صبحى موسى أهم ميزة يحتاج إليها أى مبدع، وهى الاشتباك مع الواقع ومع قضاياه وتحليلها بل وتفكيكها بشكل يكسب الكتابة متعة فنية، ويعطيها أيضًا نفسًا واعيًا يمنح القارئ فهمًا للحياة وما يدور حوله من مجريات.

فى روايته الأحدث «كلاب تنبح خارج النافذة»، يعيد «موسى» تحليل وتفكيك ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ولكن هذه المرة فيما يخص الندوب النفسية التى خلَّفتاها على جدار أرواح أبطاله. 

وتمثل الرواية نافذة لفهم الواقع الاجتماعى على إثر ثورتين مرت بهما مصر، وتداعياتهما على الحياة العامة والأحاسيس النفسية لأبطال العمل الذى يعتبرون انعكاسًا طبيعيًا لشخصيات تعيش فى المجتمع.

عن الرواية وما تحمله من أفكار ورؤى، وعن المشهد الثقافى المصرى بكل أحواله وأزماته، أجرت «حرف» مع صبحى موسى الحوار التالى.

■ تبدو شديد التعاطف مع أبطال «كلاب تنبح خارج النافذة» وكأنك عرفتهم وعاشرتهم عن قرب.. هل هناك ملامح من هذه الشخصيات فى الواقع حرضتك لخلقها روائيًا؟

- ليس أمام الكاتب سوى أن يتعاطف مع شخوص أعماله كى يتفهم موقفهم، ويعرف الفلسفة التى يعمل من خلالها كل منهم، فالكاتب ليس آلة تسجل كل ما يدور أمامه، ولا أنه عاد لينتقم لكنه يشرح النماذج التى يتعامل معها، ساعيًا لفهم منطقها فى الحياة، ثم يضعها بجانب غيرها من الشخوص أو الحيوات الأخرى بفلسفاتها المختلفة، ومن خلال المفارقة والتباين ستصل الرسالة التى يريد أن يوصلها الكاتب، بعيدًا عن الخطابة والإنشاء، فهذا منطق الفن فى أى عمل.

أما عن شخوص «كلاب تنبح خارج النافذة» فهم مثل كل شخوص أعمالى الأخرى، بعضهم متخيل وبعضهم نبت من الواقع أو له ظلال فى الواقع، لكننى أفارق هذا الواقع وأكمل مسار الشخصية وفقًا لآليتى: التصعيد الدرامى، والتخييل الروائى الذى يقوم على توقع مصائر شخصيات بتلك الصفات التى تم الاتفاق ضمنيًا عليها، ومن ثم فنسبة الواقعى لا تتجاوز فى المجمل عشرة بالمائة، سواء بدأت هذه الشخوص من الواقع أو تم اختراعها اختراعًا، فما يعنينى فى الكتابة هو الفكرة التى أعمل عليها، والتى أسعى لإيجاد الشخوص الذين يمكنهم التعبير عنها.

■ أشرت فى الرواية إلى المتحولين/ الملتحقين بركب الإخوان عقب ٢٥ يناير ٢٠١١.. كيف تحول هؤلاء من النقيض إلى النقيض رغم إدراكهم التام طبيعة وتاريخ الجماعة الإرهابية؟

- للأسف حدث هذا بالفعل من قبل مثقفين عاديين وأحيانًا يساريين، فالبعض رأى أن هذه فرصتهم كى يكونوا رجال الدولة الجديدة بديلًا عن رجال دولة مبارك، فلكل دولة رجال، فلم لا يكونوا هم رجال هذه المرحلة، خاصة أن اليمين أو التيار الدينى بشكل عام لا يوجد لديه كتاب، وإن وجد فهم فى الأغلب الأعم ضعاف ومباشرون وأعمالهم مليئة بالخطب، وهؤلاء كانوا بعد ٢٥ يناير. لكن البعض الآخر، وهو أكثر شرفًا، اختلط عليه الأمر، فقد رأى أن هكذا تكون الديمقراطية. وما دامت الديمقراطية قد أتت بالإخوان فلا ينبغى الخروج عليهم إلا عبر نفس الطريقة، وهى الديمقراطية أو صناديق الانتخاب، وهؤلاء يمكن التعاطف مع موقفهم لأنهم لا يدركون أن «هتلر» أتى عبر صناديق الانتخاب أيضًا، أى أنه ليس شرطًا أن تأتى الديمقراطية بالأخيار، ولا بد من التدخل الحاسم للشعب كى يقطع الطريق على الديكتاتورية. 

المشكلة الأكبر فى الذين تغير موقفهم بعد ذلك، وهؤلاء ليسوا إخوانًا ولا متعاطفين معهم، لكنهم لم يجدوا ما خرجوا من أجله.

■ يسأل بطلك فى «كلاب تنبح خارج النافذة» عن الجبهة التى كان يقف معها أمل دنقل/ المثقف.. لماذا الإصرار على أن تكون المعادلة حدية، إما مع أو ضد؟ وفى رأيك ما أسباب وقوف المثقف ضد السلطة الحاكمة حتى لو كانت تحقق المصالح العامة؟   

- كان أمل دنقل يقول: «أيها الواقفون على حافة المذبحة، أشهروا الأسلحة»، وكان بطل الرواية يسأل نفسه عن أى أسلحة يقصد الشاعر أمل؟ هل يقصد الورقة والقلم أم الدبابات والمدرعات، وكأن السؤال بالأساس عن الاتجاه الذى يقف فيه الشاعر ويرى من خلاله المذبحة، فكلا الطرفين على الحافة، القاتل والمقتول على الحافة. والقاتل معه أدواته المعروفة، والمقتول ليس معه سوى الورقة والقلم، لكن أدوات القاتل تضيع وتنسى بعد فترة من الزمن، أما الورقة التى يكتبها المقتول فإنها تظل حية وقوية، بدليل أننا ما زلنا ننشد مع أمل «أيها الواقفون على حافة المذبحة، أشهروا الأسلحة».

أما حدية المسألة فهناك لحظات فى التاريخ لا يصح فيها اللون الرمادى، فتلك المواقف الباهتة لا يتخذها سوى الانتهازيين والجبناء، أما الشجعان خاصة فى أوقات المعارك الحاسمة، فإنهم لا يمكنهم أن يلونوا ضمائرهم ولا أن يقولوا إنهم لا يعرفون موقفهم.

يمكن القول إن المثقف لا يقف ضد السلطة، لكنه أيضًا ليس تابعًا لها. بمعنى أن تفكيره ورؤاه نابعة من تكوينه الثقافى الأوسع والأهم. وعادة ما يقولون: المثقف على يسار السلطة. أما الذين معها أو الموالون والمؤيدون لها فإنهم يجلسون على اليمين. ويسار السلطة ليس معناه الضد أو النقيض، ولكن معناه الاستقلال عنها. أى أن المثقف يقول رأيه بغض النظر عن إن كان متفقًا مع وجهة نظر السلطة أو مختلفًا عنها، وعلى السلطة أن تحترم ذلك، ولا تسعى لجعل كل الرؤى شبيهة لموقفها، فنفع المثقف دائمًا أكبر من ضرره.

■ البطل/ الكاتب فى نفس الرواية يتأفف من صداقة «رزق الله» رغم منادمته له فى البار، هل يفسر موقف الكاتب/ المثقف من مجتمعه وعزلته عنه تراجع دوره لصالح الجماعات المتشددة؟

- المثقف فى هذه الرواية شخصيتان أو وجهان بحكم المرض الذى يعانى منه، وهو تعدد الهويات التفارقى. ومن ثم فشخصية منهما تحب «رزق الله»، وهى صديق أثير له، وشخصية تتأفف منه وترى أنه ليس على دينها. وهنا أمر مهم، فغالبية المثقفين المصريين والعرب يعيشون هذه الأزمة من الازدواج والتناقض، هم ليبراليون وتنويريون فى جانب من تكوينهم، وهم سلفيون وتقليديون متشددون فى جانب آخر من هذا التكوين، وهذه المعركة لم تحسم بعد. والشاهد على ذلك أننا لو تركنا أحدهم يتحدث لمدة خمس دقائق سنجده يدعم أفكاره بالعديد من الأحاديث والآيات، وكأنه خطيب مسجد.

■ بعض وقائع الرواية يعاد إنتاجه سرديًا أكثر من مرة بطريقة المونتاج السينمائى.. هل وضحت لنا الأمر أكثر؟ وهل يمكن اعتبار ذلك نزالًا مع متلقيك؟ أم حيلة فنية؟ 

- لا يمكن لكاتب أن يدخل فى نزال مع متلقيه، لكن هناك مستويات من التلقى، وكل كاتب يضع فى تخطيطه أو فى اعتباره وهو يكتب عددًا من هذه المستويات، فهناك مستوى يحبه البسطاء الباحثون عن التسلية والتشويق، وهناك مستوى يبحث عنه القارئ المثقف الذى يريد أن يعمل ذهنه، ويشعر بالمتعة بأنه كاتب مشارك فى إنتاج النص من خلال تفكيكه وتركيبه وإعادة تأويله، وكل كاتب يسعى أن يشتمل عمله على كلا المستويين.

■ لماذا يغلب على أبطال روايتك العجز والتشوهات سواء نفسية أو جسدية؟

- أبطال روايتى تعرضوا لهزتين عنيفتين فى وقت قصير، ما أحدث لهم اضطرابات نفسية، وكان لا بد أن أبرز هذا الاضطراب، ومن الضرورى أن يظهر ذلك على الجسد، كى يراه الناس ويشعرون بمأساويته، فالجانب النفسى وحده قد لا يكون كافيًا. ومن ثم كان الجميع يعانون من أمراض إما نفسية أو جسدية، جميعهم كانوا يعانون من تشوه واضطراب. وغالبًا ما يقولون إن الثورة تأكل أبناءها، فما بالنا لو أننا أمام ثورتين وعشرات التوابع.

■ إعادة الحكاية بين «ثابت» والراوى تحيل إلى أكثر من سؤال: هل يمكن للروائى أن يكون مؤرخًا؟ وما رأيك فى الرواية التاريخية؟ وهل تسد الرواية التاريخية فراغ التأريخ للمهمشين ممن سقطوا من السرديات التاريخية الكبرى؟

- الرواية تتعرض لفكرة التأريخ بشكل واضح. فالأحداث يتم رصدها من خلال وجهات نظر شهود العيان أو المؤرخين، وكل يرى الأمور حسب موقعه أو مصلحته وتوجهه وتطلعاته وموقفه، ومن ثم ففكرة الحقيقة المطلقة مثالية مطلقة.

والرواية التاريخية عمل صعب، وليس بسهولة ما يقوله البعض عنها، أو حتى ما يتعامل البعض به معها، لكن الفارق بين التاريخ والرواية التاريخية أن الرواية تسد الثغرات التى لم يتعرض لها المؤرخون، وأنها تعيد إنتاج التاريخ ولكن من وجهة نظر الكاتب وموقفه، فضلًا عن زمنه وقضاياه، الأمر الذى يتعرض له المؤرخ أيضًا أثناء عمله، لكن المؤرخ ملتزم بوجود مصادر ومراجع لكل فكرة أو حدث، وتتوقف أهميته كمؤرخ على مدى تحققه من المصادر والمقارنة بينها، أما الروائى فإنه ملتزم بعدم مخالفة الثابت والمعروف من التاريخ، وله أن ينسج من خياله ما سكت عنه المؤرخون وفقًا لشروط ومنطق الأشخاص والفترة التى يكتب عنها.

■ هل تراجعت الرواية المصرية أمام غيرها فى محيطها الإقليمى كما تذهب بعض الآراء؟ وهل للجوائز دور فى هذا؟

- تنتج مصر من الأعمال الروائية ما يوازى مجموع ما تنتجه كل المنطقة العربية مجتمعة، ولديها كتّاب يفوق تعدادهم تعداد كتاب المنطقة العربية تقريبًا، ولديها أجيال من هؤلاء الكتاب ليست موجودة فى أى مكان بالعالم العربى، ولديها تاريخ فى هذا الفن، وصراع حول التجديد والتجويد فيه لا يوجد إلا فى البلدان صاحبة براءة اختراع الفن الروائى.

لكن الحقيقة أيضًا أن الثقافة المصرية فى مأزق مرعب، فهى تعانى من هجمات متوالية من قبل المشرق والمغرب عليها، والكل بات لها كارهين، وصاروا يتطاولون عليها، وكلما سعى المثقفون المصريون إلى التباسط والمهادنة وجدوا تعاليًا غريبًا، ونكرانًا مدهشًا لتاريخها وتاريخهم، وكأن هذه هى الفرصة الأخيرة للآخرين كى يثبتوا جدارتهم للقيادة، ولن يحدث ذلك إلا بتهميشها وإزاحتها من طريقهم.

■ كيف ترى المشهد الثقافى المصرى الراهن؟

- كلمة المشهد الثقافى الراهن كلمة كبيرة ومتعددة، فهناك الراهن الروائى والشعرى والإعلامى والنقدى والفكرى، وهناك الندوات والمؤتمرات والأنشطة، وهناك المؤسسات والأفراد وهناك المسئولون والجمهور، وهناك دور النشر والمجلات والسلاسل والمواقع الإلكترونية، ومن ثم فمن الصعب الحديث عن كل هذا مرة واحدة، فكل منها يحتاج إلى وقفة طويلة وكبيرة، خاصة أننا نعيش فى عنق زجاجة منذ سنوات، وننتظر الخروج منه. بمعنى أنها مرحلة تداخلت فيها كل الأمور ما بين الجيد والسيئ، وأصبح الفرز فيها ضعيفًا، لكن فى العموم نحن الراهن الثقافى الأقوى والأهم فى المنطقة العربية ككل.

■ بعد اقتراح وزير الثقافة بعقد لقاءات مع أطياف الحقل الثقافى المصرى.. ما الذى تحتاجه الثقافة المصرية لتسترد ريادتها؟

- الثقافة المصرية تحتاج إلى خطة ثقافة جديدة تتوافق مع معطيات العصر وتحدياته، وهذا ما رصدته فى كتاب «تحولات الثقافة فى مصر».

■ متى يرضى المثقفون عن وزارتهم ويكفون عن الشكوى من نتائج الجوائز والنشر وغيره؟

- ليس من المطلوب أن يرضى المثقفون عن وزارة الثقافة، لكن المطلوب أن ترضى الوزارة عن المثقفين، وتبحث فى كيفية التواصل بينهم وبين الجمهور أو تسويقهم فى الخارج، فهذا هو دورها، لكنها فى الأغلب الأعم تعمل على نقيضه، ربما لضعف ثقافى لدى كثير من مسئوليها أو ضعف إدارى بها، وربما لرغبة فى أداء دور غير الذى يتوقعه المثقفون منها.

■ لماذا غاب تأثير النقد الأدبى مقارنة بحضوره فى السابق و«الستينيات مثالًا»؟ وهل تؤدى المراجعات الصحفية دور الناقد خاصة مع انتشار منصات عديدة ينشر الكل آراءه وقراءاته عليها؟

- النقد الأدبى لم يغب، لكن غابت الوسائط التى كانت تنقل للناس هذا النقد، فمثلًا كانت الجرائد توزع بالملايين، وكانت المجلات توزع بالآلاف، وكان من يكتبون عن الأعمال الأدبية هم النخبة والمختصون، لكن الآن تراجعت كل المجلات والجرائد، وما هو موجود منها لا يطبع سوى عدد ضئيل لا يراه أحد، ولم يعد أحد بالأساس يحرص على متابعته، فقد استحوذت وسائل التواصل الاجتماعى على اهتمام الجميع، وأصبح كل شخص على صفحته ومن خلال متابعيه هو الناقد والمفكر وموجه الرأى العام، ولم يعد لرأى ناقد كبير أهمية فى ظل صفحة «فيس» الكاتب أو الشاعر، فكل يروج لنفسه أو يجامل غيره على صفحاتهم من أجل أن يجاملوه على صفحته.