شعرية المختلف.. قراءة فى ديوان «راكب فى المقعد المكسور»
- الشاعر يعانق حواس اللغة العميقة بقوة شعرية تكسر ظهر الواقع
يبدأ الديوان بالعنوان «راكب فى المقعد المكسور» هل النكرة تحمل رحلة التيه والبحث عن موطئ قدم، هل الإحالة فى العنوان لقصيدة بنفس الاسم تقطع سياق الرؤى «أيهم قرر أن يقتلنى، الليلة، فليحسن القتل..
ينقطع أسامة جاد بهذا الديوان عن حفلة الشواء الكبيرة التى توصلنا إلى آفاق مصمتة، ليقول للعالم بطريقته الخاصة «إن الأنهار تنام فى ذلك الوقت ولا يمكنها أن تستيقظ فى صحراء أبدًا».
بداية من التناقض بين حالتين وجدانيتين يطل علينا بمجاز ينتقل بالدلالة من الصمت إلى الحركة وبالتراكيب اللغوية بامتداد يخرجها من الغموض إلى التجلى.
«من أزال الشباك المطاطية عن فوهة الهاوية التى تضحك تحتى».
يسعى الشاعر أن يخرج من جسد الشعر يعانق حواس اللغة العميقة بقوة شعرية تكسر ظهر الواقع، وترفض العودة للمربع الأول من اللغة.
«ماذا سيبقى لنا، فعلًا لو حبسنا أنفسنا فى الغرفة الخائفة جد وظللنا دائمًا، مذعورين من دخول التجربة».
ولأجل أن تنام بهدوء لا يعود الحس الحدسى محققًا للهدف، فهو يحرر نفسه من الترابط المنطقى للأفكار إلى ترسيمة طرق عادية لكن وعرة قلنا: سنجتاز الماء، فاستيقظ الصبح».
مسارات التخييل فى الديوان جوهر عاق يخلخل قواعد السكون، ويلوح بنزاعات خافتة، سواء على المستوى الصوتى أو الدلالى «وغبار يضىء فى أول الخلق، يلم الماء فى أغنياته الهادرة، ويشرعها على أول البحر ويلون السماء بالزرقة قبل أن يفتح عينه».
أسامة جاد يعرف كيف يطلق الشعر من اللغة ويجعل الأشياء والطبيعة تتحدث عن نفسها، فنجد مثلًا سياق الإحالة والبعد المفتوح تحيط بالمرويات المقدسة متخذة من اللغة أرضًا تتوارى فيها ماهية المعنى لإضاءة الوجود.
ففى قصيدة غرق يقول الرمل كثير أيها الربان، فهل سيكفى الماء، أنا ما خرقتها، والله ولكن أهلها يغرقون والأسماك تعض بوحشية فى القاع «فمن التناص القرآنى إلى فعل الغرق هيرمونيطيقا عن الأماكن المألوفة فى شعرية تقع موقع المتضادات فى سؤال.
ففى قصيدة «أن يكون لى غلام» ولما أجاءها المخاض إلى أهلها، قالوا «لقد جئت شيئًا فريًا، فأشارت إليه وسافرت فى المووايل، لكنهم لم يعرفوا، وهم ينقشون الحكاية فى أعواد الصفصاف، أو فوق جدار المعبد أن شمسًا قامت فى المخاض الجديد ومفتاح حياة.
قوة شعرية تستمد حيويتها من المرجعيات، تناص قرآنى، مسحات أسطورة بين مريم وإيزيس، يقوم أسامة جاد بخلق زمن نفسى نجد فيه الآخر يقبع هناك، يقدم لنا الشعر كنوع من الاستدراك بطاقات مجازية كظل جائع إلى ولادة المعنى.
كالوليمة المأخوذة بوعى مسفوح على جدار الهوية يجذبنا أسامة إلى طلقات لا تكفى لكى تختبئ الحرية خلف الشجرة، وهناك العصافير كانت تبكى.
الغابة، الأشجار، الماء، السواقى، العصافير ضمنه فى انفتاح على حقيقة الأمكنة، وإن إحدى خطوات القراءة ببصيرة تجاوز الوعى لنفسه إسقاطات شعرية تنشئ قدرة غير محدودة على التأويل فى قصيدة ليلة الوحدة كيف جعل الموت إجابة وليس سؤال تفاحة ناقصة على غريزة الموت، فيقول كنت نباتيًا فى الواقع، فهل أجد طعامًا يناسبنى؟ أم لا بد من لحم طير مما يشتهون؟
نعتقد جميعًا بأن الشعر يوم طويل بمسافة تاريخ، وشديد العمق حين يعانق أبعادًا أسطورية، يدركنا الشاعر بلقطات مشحونة بخلخلة تربك النص فى عوالم الكتابة، فتأتى أسطورة تزيح العقل عن تربة النص، وتضفى نوعًا من الغرق فى التخيل الجمالى الموغل فى التجاوز رغم بساطته.
قصيدة سيزيف «وحملها الإنسان- إنه كان ظلومًا جهولًا»
ضمير الأنثى تشريح للقطات بصرية مكثفة الدلالة داخل النص الشعرى المتلاطم الأمواج، حشود كبيرة لمجرى المخيلة فى قصيدة «تعزف حتى ينابيع شعرها»، عزف صامت يختلس وجود الصوت الأنثوى يخترق البنية الزمنية والمكانية، خذلان ووعى حميمى بفتح الأغنية لباب الغرفة حتى تبدو الأغنيات كلها مبلولة بدموع الأصابع.
يجعلنا الشاعر نطرح سؤالًا فى هذه القصيدة: كيف يستطيع الشاعر أن ينقل عالمًا كاملًا ويحيله لموعد فراشه؟
وفى استرخاء للقصدية الشعرية تطل علينا ذات المعطف الباكى فى مساحة أخرى فى قصيدة «فى وداعة نهر»، فهل كان القمر يعوى، والذئب مبهورًا.. ملامح أسطورة غائبة عن الوعى، أو ربما نائمة.
وفى قصيدة «سواقى تئن من ثقل الماء» تأتى السواقى متحدة بالوعى الإنسانى الذى ينتابه ضرب من القلق، ذاكرة السواقى والجبال الحمر والأسماك والعشب والبيت والأطفال.. مخاوف وانكسارات تتجلى من خلالها ملكية الوعى «لنا»، وكأنه إرثًا إنسانيًا لنهاية مرسومة بدقة.. تعرية لاستمرار اللحظة لإقصاء كل بلاغة سوداوية لصهر ثقل الأنا الشاعرة.
ماذا يفعل الشعر؟
يقول الشاعة أسامة جاد: تلك اللحظة التى تفقد المجازات سطوتها، عندها وتنزاح الكتابة ونسمى الأشياء بأسمائها العارية جدًا، لأن ما وراءها يفوق كل مجاز.
فتطالعنا «قصيدة حكايات منزلية» عن الحياة اليومية، وهى تعيد تشكيل صوت الغائب، قبول أنفسنا من السطح إلى أعمق الأبعاد «حتى يوغل فى العتمة كى يضىء الضحكات»، قصيدة من زهرات الديوان اليانعة، تفقد اللغة مفاتيحها عندها، وتبحث عن المرأة فى أصابع الاختلاف.
وهو ينقلنا إلى حضارة شعرية جديدة فى قصيدة «مازلت نصفًا يفتش عن اكتماله بك»، أسامة جاد يستطيع أن يجعل المرأة فى شعره لغة تصادف نفسها فى ذهول للمرة الأولى، وتصل للسماء بأولى العتبات «أسميتك سماء فنبت جناحان لى».
وما بين أجنحة المتناقضات فى الديوان قسوة/شهوة، ذكر شراع/أنثى ريح، ذكر بحر/أنثى سفينة، وداعة/صخب، تتشكل التجربة الإنسانية فى عدة أسفار تصدع الزمن، الأفعال المتعالية، السفر فى رحلة للبحث عن الذات، الوصاية بأهمية خلع الجسد ومفارقة عالم الحواس لتولد قيمة جمالية تتمركز فى ثلاثة اتجاهات مركزية الشاعر، عودة الأنا، النزوع للحب وهذا الكوجيتو الهدف منه يباطن النص الشعرى لمعرفة وإعادة وبناء لأبدية الأشياء والزمان والذات.
كـ«النبتة التى انخلعت بقسوة زرقاء من مهدها الأول تنغرس فى انتشاء ساطع فى طميك الريان» إيروسية حالمة قصيدة تكشف عن معرفة ليس فقط بالعالم، بل وعن فردية وفرادة مختلفة.
وفى نهاية الديوان فى الطريق المظلم علينا الاعتراف بأن كل خروج من الجسد دخول فى اللغة هو شعر، فالشاعر هو عاصمة الكلمات، وهنا كانت أحجيات أسامة جاد أن يضعنا بشعره فى تدفق لتعرية مرايا اللغة، لنرى فيها جسد قصائد بمثابة راكب مشبع بالفتنة واللألم والبهجة لتنجيد المقعد المكسور.