الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عائشة عبدالكريم: كتبت «44 أصوان» لتوثيق حكايات أجدادى الشفاهية

عائشة عبدالكريم
عائشة عبدالكريم

- لهجات الجنوب تتعرض للتهميش.. واللهجة القاهرية أصبحت تسيطر على مجالسنا 

- الاستعمار غيّر أنماط البناء الملائمة لبيئتنا الحارة وأبدلها بنمط أوروبى غير مناسب

لا تزال أسوان تلهم الكتّاب والمبدعين والفنانين فى كل مكان، ولمَ لا وهى منبع الحضارة ومعين السحر والجمال المصرى الخالص؟، وكلما مرت عيها الأزمنة ازدادت عبقًا وفتنة وحضورًا.

ولا شك أن هذا الجمال، الذى لا ينفد، كان مصدر الطاقة التى ملأت الدكتورة عائشة عبدالكريم وهى تكتب كتابها «44 أصوان.. مدينة أسوان فى جيل العقاد»، الذى يحلل ويوثق ويؤرخ لتلك المدينة الساحرة والمتغيرات التى طرأت عليها.

ولا يتضمن الكتاب رصدًا ماديًا لتاريخ المدينة، بقدر ما يتضمن رصدًا للواقع الاجتماعى والروح الإنسانية داخل المدينة، وكيف اختلفت طبائع وعادات السكان من الأجيال المختلفة وكيف أثر عليها الاستعمار الإنجليزى وغير ذلك.

عن هذا الكتاب الفريد وعن رحلة البحث والرصد وجمع المادة الخاصة به، حاورت «حرف» الدكتورة عائشة عبدالكريم.

■ بداية.. كيف جاءتك فكرة كتاب «٤٤ أصوان»؟

- برزت الفكرة فى دار الكتب عندما اطلعت على أعداد من جريدة «الصعيد الأقصى» التى كان يصدرها جدى عبدالكريم ناصر من ثلاثينيات إلى ستينيات القرن العشرين. 

وفى البداية سألت الأهل والأقارب عن جدى وجدتى. فى تلك المرحلة الأولى كان لدىّ شغف لمعرفة العائلة، ثم تطور هذا الشغف على مدار الشهور والسنين ليشمل مدينة أسوان فى النصف الأول من القرن العشرين. 

هذا عن البحث، أما ما دفعنى للكتابة فكان معرفتى بأن تاريخ أسوان ما زال شفهيًا ولم يُكتب بعد، وشعرت بمسئوليتى عن توثيق هذا التاريخ.. فجاء «٤٤ أصوان» ليروى حكاية المدينة فى جيل «العقاد» وهو جيل جدى. 

■ استغرقت أربع سنوات فى البحث والكتابة.. حدثينا عن تلك الرحلة.

- قضيت أربع سنوات فى جمع مادة الكتاب وزرت أسوان كثيرًا.. فكنت أقضى بها شهرى طوبة وأمشير، ثم أعود قبل أن ينقضى الربيع ومرة أخرى فى الخريف. والبحث الميدانى كان مهمًا للغاية.. فبالإضافة إلى المقابلات، التى شكلت عصب روايتى عن العادات والتقاليد بالمدينة، كان التطواف بالدروب يعطينى انطباعًا عن المدينة على زمن طفولة والدى. 

وفتحت لى عائلتى أرشيفاتها الخاصة فاطلعت على صور ووثائق منحتى لمحات عن أهل أسوان الأصليين فى الفترة موضوع البحث. 

كما أخذت أبحث فى المصادر التاريخية عما ورد بها عن «أصوان»: التعدادات والتقارير الرسمية والكتب التذكارية وكتابات الرحالة، وغيرها. 

وقد منحتنى الجريدة فكرة البحث كما أعطتنى تاريخًا موثقًا للبلدة. وهكذا كان من المناسب أن يتصدر رقم مفتاح هاتفها الأرضى عنوان الكتاب.

أما الكتابة فقد استغرقت ستة أشهر، وبعد حوالى شهر ونصف الشهر أعدت ترتيب الكتاب وكنت قد حسمت أمر العنوان وبالتالى الموضوع بدقة أشد. واستكملت الكتابة ثم بدأت بالمراجعة، والمراجعة أصيلة فى التقاليد الأكاديمية، فتدقيق الهوامش والمعلومات مهم للغاية، كما أن تدقيق اللغة والتأكد من سلاسة الصياغة لإثراء تجربة القارئ مهم أيضًا، فقد كنت بوعى أبتعد عن الكتابة الأكاديمية وأكتب للمثقف العام الذى يريد أن يتعرف على جزء من تاريخ البلد. 

■ الكتاب عبارة عن رصد للعائلة وللمتغيرات التى طرأت على أسوان.. لماذا اخترت هذه الطريقة التفصيلية فى عملية البحث والتحليل؟

- يقول المبدأ النسوى «الخاص هو العام». وتيقنت من صحة هذا المبدأ خلال رحلتى البحثية، وهكذا عندما جلست للكتابة قررت أن أضفر الخاص بالعام. ودعنى أعطيك مثالًا عن نهايات وباء الكوليرا، نعلم أن جميع العائلات قد أصابتها بعض سهامه، فتوفى لها شخص أو أكثر، كما توفى بالجائحة بعض المشاهير، فهو حدث عام وخاص فى ذات الوقت. 

وفى نهاية القرن التاسع عشر كانت الكوليرا منتشرة فى مصر، وفى إحدى موجاتها توفى فى بر مصر نحو ١٦ ألف نسمة، منهم جدتى الكبرى «والدة جدى». وقد وجدت لـ«العقاد» وصفًا آخذًا لهذه الموجة بالتحديد، وبدأت به كتابى.. فيمكن من خلال العائلة رصد المتغيرات التى طرأت عن المدينة، فالخاص هو العام، ولذا عملت على المزج بينهما فى الكتاب. 

■ ما دلالة كلمة «أصوان» التى وردت فى العنوان؟

- أسوان مدينة قديمة عمرها حوالى ٤ آلاف سنة. وكانت تسمى «سونو» أو «السوق» لدى الفراعنة، ثم «سيين» عند الإغريق، وأسوان عند العرب. وفى القرن التاسع عشر كتبت «أصوان» بضم الألف وبالصاد، كما نطقها أهل البلد للفرنجة الذين دونوها بتفخيم السين فصارت صادًا. وظلت تكتب بالتحديد فى جيل «العقاد» بالصاد إلى منتصف القرن العشرين، ثم ارتدت للرسم العربى للاسم كما عند المقريزى وغيره فصارت «أسوان» بالفتح. وأهل «أصوان» هم «الأصولية»، ومفردها «أصولى وأصولية»، تغيرت بعد ذلك إلى «أسونلية». 

لقد أردت أن أمنح القارئ تجربة الغوص فى الصعيد، فاستخدمت مفردات وعبارات من هناك مثل أصولية والجباوى والترسينة والملتوت وغيرها. كما استعملت بعض الأمثلة المحلية التى جمعتها أثناء بحثى التى وردت لتؤكد المعانى المطروحة. 

وأنا بهذا أنحاز للهجة الصعيدية، التى تعانى من التهميش وينظر إلى صاحبها بدونية، مع أن تعدد اللهجات هو الأصل، فأنظر مثلًا فى أى فيلم ناطق بالإنجليزية اليوم تجدهم ينطقون بلكنات مختلفة، بينما تغلب اللهجة القاهرية على السينما المصرية، وما السينما إلا انعكاس للمجتمعات.

فالإنجليزية هى اللغة الأم فى بريطانيا، ينطق بها الأسكتلنديون، والإنجليز، والأيرلنديون، وأهل ويلز، كل بطريقته ويتفاهمون بندية. كما أنها اللغة الأم فى أمريكا، وكندا، وأستراليا.. إلخ، ولكل لكنته ولا تفاضل إحداها الأخرى. ولدينا فى مصر لهجات مختلفة مثل الصعيدى، والبحرى، والفلاحى، والبدوى، إلخ، وفى محيطنا العربى اللهجات الشامى والمغربى والخليجى وغيرها، ولكننا نفاضل بينها. 

فى القاهرة مثلًا لا تسمع إلا اللهجة القاهرية، بينما كل سكانها من خارجها فهم يفقدون لهجاتهم المحلية عند الإقامة بالعاصمة. واستفحل الأمر وانتقل إلى المدن المختلفة، فصرنا فى الصعيد نتحدث باللهجة القاهرية فى مجالسنا وفى قنواتنا المحلية.

ويفقدنا هذا التهميش للكنات واللهجات المختلفة جزءًا من إرثنا وثقافتنا، بينما العالم اليوم مشغول بالتعددية الثقافية. فكانت كلمات مثل أصولية، وملتوت، وجباوى محاولات منى لجمع ما يندثر من تراث أسوان.

غلاف الكتاب 

■ هناك العديد من الشخصيات الأجنبية التى أسهمت فى تخطيط وعمران أسوان مثل «كتشنر».. كيف تقيمين دورهم؟

- كان استعمار «أصوان» مباشرًا حيث كان «كتشنر» على رأس القوة العسكرية التى سعت للقضاء على الثورة المهدية فى السودان، وهذا ما أسرده فى الفصول الأولى. أما ما أفصله فى أبواب الكتاب المختلفة فالتأثير الحاسم للاستعمار كان على بندر «أصوان». 

فينتمى الكتاب لدراسات ما بعد الاستعمار، التى تبحث فى التغيرات التى أحدثها الاستعمار بمجتمع ما. نبحث من خلالها عما اندثر من عادات البناء، والأكل، والملابس وغيرها عندما حل الاستعمار على أراضينا.. فلقد أزاح الاستعمار عن وجداننا تراثنا المعرفى المتراكم على مدار القرون الذى كان يتعامل مع البيئة التعامل الصحيح، وأقنعنا بضرورة التحديث، فأتى إلينا بأنماط حياتية لا تتفق مع بيئتنا.

ففى الكتاب أبحث مثلًا فى تغير أنماط البناء التى كانت منتشرة على جيل جدى، والملائمة تمامًا للبيئة الجافة الحارة ذات الشمس الساطعة لصعيد مصر الأقصى. واستبدالها بنمط بناء أوروبى قادم من بيئة باردة غير مشمسة، والنتيجة «عمارة تحت الأوروبية المتخلفة» بتعبير شيخ المعمارين حسن فتحى.

والكتاب يستعدى هاجس التقليدية، وتلك الأنماط الحياتية التى تركناها وراءنا ونحن نلهث لنركب قطار الحداثة. ولعلنا اليوم نعود فننظر فى حياة المصريين ما قبل الاستعمار فنستوعبها ونفهمها من أجل أن نبدع مستقبلًا أفضل للأجيال نمزج فيه بين معطيات البيئة المحلية ومستحدثات العصر.

■ قلت إنه كان هناك غياب للمصادر الخاصة بالمدينة مع اعتمادك على عدد قليل منها مثل «رحلة الألف ميل» لإيمليا إدواردز وغيرها.. لماذا فى رأيك لم يهتم أحد بتاريخ المحافظات والمدن كما يجب؟

- شكرًا على سؤالك الوجيه هذا. فى الواقع تحدد ثنائية المتن والهامش تاريخ البلدات العربية المختلفة، وينعكس ذلك فى السرديات المتاحة وفيما يُنشر عن تاريخ بلدات هامشية مقارنة بمدن محورية مثل القاهرة والإسكندرية. فما زالت عبارة جدى «نريد أن تنظر الحكومة إلى الصعيد والصعايدة» ذات مغزى فى عالم البحث العلمى اليوم. 

فالبحث العلمى يتطلب الكثير من الموارد، وقتًا ومجهودًا ومصاريف، مثلًا: بند سفر وإقامة فى مدن بعيدة. كما يكون على الباحث أن يتخطى عقبات أخرى. مثلًا: أُصبت بكورونا مرتين فى أسوان أثناء رحلتى البحثية. 

فكيف يتسنى ذلك للأكاديميين العمل تحت الظروف الضاغطة للحياة الأكاديمية اليوم؟ ولذا يفضلون الإنتاج عن مدن مركزية مثل القاهرة والإسكندرية. وهكذا تتراكم سرديات عن المدن الكبرى بينما يستمر تهميش تاريخ المدن الأخرى. 

■ قلت إن والدك كان عضوًا فى جماعة الإخوان وسجن معهم لكنه انقلب عليهم وأصبح عضوًا فى حزب التجمع.. كيف حدث ذلك الانتقال الفكرى؟

- نعم خلفية الوالد معروفة ومعلومة، وأنا لم أضف كثيرًا عنه فى هذا النقطة، ولكننى أسرد فى الكتاب تفاصيل مساره الفكرى من الإخوان إلى التجمع. وأشرح الخيارات المطروحة أمام جيل والدى فى أسوان: الوفد أو الإخوان. وبينما كان جدى عضوًا نشطًا بالوفد، انضم والدى إلى الإخوان. فلم يكن لليسار أو لغيره من التيارات الفكرية الأخرى وجود يذكر فى هذه المدينة النائية. وقد اشتهر الإخوان بالاستقطاب وبالتنظيم وبالانضباط الحزبى، مما تفتقر إليه التيارات الأخرى. فمثلًا كان المرشد يطوف بالبلدات «فيحمل حقيبته وينام فى الجامع» ويستقطب المريدين، وهكذا التقاه الوالد فى أسوان وانضم إلى جماعته. وبعد مراجعات فكرية انفصل عنها وانضم إلى التجمع، وصار من أهم كتّابه.

■ لم تقفى عند حدود التمدن ومراحل تطور أسوان لكنك ذكرت كل شىء عن الملابس والأطعمة والمشروبات وتربية الحيوانات وما إلى ذلك.. هل أردتِ صناعة بانوراما توثيقية عن تلك المدينة؟

- تجمعت لدىّ مادة عريضة أثناء سنوات البحث، بعضها شفاهى وبعضها مكتوب. وقد شعرت بأمانة ومسئولية لتوثيق ما جمعته من تاريخ شفهى، بالإضافة لما ما ورد عنها فى المصادر المختلفة. وأرجو أن أكون قد وفقت فى مزج المصادر المختلفة ليكون الكتاب مصدرًا موثقًا لمن يريد الإضافة. 

■ كان يمكن تخصيص فصل للأفراح فى أسوان فى القرن الـ١٩.. ألا ترين ذلك؟

- أتمنى أن يفتح الكتاب شهية الباحثين والباحثات للتعاطى مع مختلف جوانب الحياة فى أسوان مما أجملت فى كتابى، فيصدر كتاب بل كتب عن أفراح أسوان وعن تاريخها وجغرافيتها وعاداتها. وبأسوان عدد من المعاهد العلمية المهتمة بعلم الإنسان والاجتماع، ومنها كلية الآداب بالجامعة ومعهد الخدمة الاجتماعية الذى أدى دورًا تعليميًا مهمًا لفتيات جيلى.

■ هل ترين أن الكتاب انتهى أم لديك إرهاصات لكتابة أخرى متفرعة من هذا العمل؟

- الكتاب انتهى.. ولكن البحث ما زال مستمرًا، وإن امتد العمر فهناك كتابات أخرى توثق جوانب أخرى من «أصوان».. مثل الغوص فى جريدة «الصعيد الأقصى».. وعن أسوان الحديثة والمعاصرة. لقد جمعت بالفعل مادة عن «الجندر» فى أسوان، أرصد فيه أربعة أجيال من نساء أسوان فى القرن العشرين. كما أننى بدأت البحث عن مؤسسات وشخصيات من أسوان. ولكننى فى الوقت الحاضر مشغولة بنصوص «أعمل عليها منذ سنوات» وأود أن أكمل كتابتها، قبل أن أتفرغ لتلك الأبحاث عن المدينة. كما أتمنى أن أقرأ عن أسوان بأقلام أبنائها وبناتها من الباحثين الذين تزخر بهم المعاهد العلمية المحلية وبأقلام غيرهم. 

وجهت الشكر لاثنين من المصادر المعاصرة هما يوسف فاخورى ومحمود الشنقرابى.. كيف يختلف منظور كتابك عن كتابيهما؟

- اهتممت برصد حكايات بندر «أصوان»، ومن ضمن ما رصدت كان ما كتب عنها. ووجدت كتابين حديثين أحببت أن ألفت إليهما الأنظار، وأوجه الشكر للباحثين لما قاما به من مجهودات لرصد تحولات المدينة. فلقد أهتم المثقف يوسف فاخورى ببناة السد العالى فرصد تجاربهم الإنسانية ووثقها، أما الفنان محمود الشنقرابى فقد رصد العادات الاجتماعية والأنثروبولوجية على محاور أكثر مما ضمه كتابى. وقد استفدت منهما وأنا أكتب حكاية المدينة وأهلها فى النصف الأول من القرن العشرين.