محمود عبدالشكور: الرواية فن ماكر حررنى من الخوف.. وأنا أستمتع بهذا المكر
- كتبت رواياتى الثلاث عن القاهرة لأنها عظيمة وثرية وفى كل ركن بها حكاية
- تمنيت أن أكون شاعرًا ولم أختر النقد.. وأكتب بدون أى حسابات
- وضعت ملامح رواية جديدة عن «الحكم على الحياة»
- الفكرة وحدها لا تكفى لكتابة الرواية وإن لم تأخذنى لشىء أعمق لا أكتبها
رغم شهرته وتميزه الواضح فى الكتابة النقدية، خاصة فى مجالى الفن والأدب، لم ينس محمود عبدالشكور الأدب، وانجذب إلى «نداهته» بكل شغف وحب، ليكتب 3 روايات يمكن أن تمثل مشروعًا روائيًا واحدًا.
البداية كانت برواية «حبيبة كما يراها نديم»، التى تلتها روايتان متعاقبتان هما «أشباح مرجانة» و«ألوان أغسطس»، والتى يحكى فيها «عبدالشكور» عن القاهرة من ثلاث زوايا مختلفة.
عن هذه الروايات الثلاث، وكيفية موازنته بين الكتابة فى النقد والرواية، وحلمه المبكر فى أن يكون شاعرًا، يدور حوار «حرف» التالى مع الناقد الأدبى والفنى والروائى محمود عبدالشكور.
■ كتبت ٣ روايات تدور كلها حول القاهرة وكأنه مشروع روائى يكرس للمدينة قبل الشخوص.. لماذا؟
- أنا أكتب عما أعرفه، أعرف القاهرة وأحبها، وتعلمت فيها لسنوات طويلة، وأرى أن بها أماكن وشخصيات كثيرة جدًا لم تُكتشف بعد. هذا هو الأمر ببساطة ومن دون أى تجهيز وإعداد.
القاهرة مدينة عظيمة وثرية جدًا، وفى كل ركن بها حكاية، وأنا كنت صحفيًا فى هذه المدينة، وأنت تعرف معنى أن تكون صحفيًا فى القاهرة، فالصحفى أكثر من غيره فى الشارع، وأكثر من غيره فى الإلمام بكل شىء، وفى الكتابة عن الناس فى الشارع.
وبحكم أنى فى قلب الشارع، وبحكم الحب والشغف لهذه المدينة، كتبت الروايات الثلاث من هذا المنطلق، بدون مشروع أو ترتيب معين، أنا امتلأت بالأماكن والبشر والشخصيات، ورغبت فى أن أكتب عنها جميعًا.
■ كيف تنتقى الفكرة لتصوغ منها عملًا روائيًا معينًا؟
- القصة تختلف من رواية إلى أخرى، فرواية «حبيبة كما يراها نديم»، الصادرة عن دار «الكرمة» للنشر والتوزيع، كانت قصتين تشكلتا فى حوالى ١٠ سنوات، ولم أكن أحب كتابتها لعوامل نفسية، لكن الناشر هو من حفزنى على الكتابة.
فرغم أننى أخبرته بعدم قدرتى على الكتابة، ورضخ لرغبتى فى البداية، قالى لى: «حين تكتب سوف ننشر». وبعد أسبوع من هذه المقابلة، وجدت نفسى أكتب الرواية، لتظهر بهذا الشكل وبهذا البناء، الذى لم أرتب له.
أما الثانية «ألوان أغسطس» فهى وليدة ذكرى معينة حدثت منذ ٨ سنوات مع صديقى شريف بكر على أحد المقاهى، حين لفت نظرنا شخصية دخلت مع طفل غريب، وكانت لها تصرفات لفتت أنظارنا، فخمنا حدود العلاقة بينها وبين هذا الطفل. ظلت هذه الحادثة ٨ سنوات، ورغم أنى لم أكن أعرف أننى سأكتبها رواية، كنت أعرف أنى لو كتبتها ستكون نصًا ثريًا وله مدلولاته، لأن فكرة الكتابة عن أم وولد صغير ملهمة، فكتبتها بهذا الشكل.
وبالنسبة للرواية الثالثة «أشباح مرجانة» فتعد ثمرة لاهتمامى بفكرة أن دار السينما ليست مكانًا لعرض الأفلام فقط، ولكنها انعكاس لثقافة المجتمع. وفى ظل أن هناك العديد من دور العرض السينمائى مغلق، وتذكرى لفترة التسعينيات حين كنت صحفيًا فى الشارع، استطعت أن أسقط هذه الحقبة على الرواية، فتخيلت شابًا يبحث وراء دار السينما التى أغلقت، فيكتشف أن وراء الغلق قصة مجتمع كامل يتحول.
■ هل هناك رابط محدد بين هذه الأعمال الإبداعية الثلاثة؟
- الرابط الحقيقى بين الأعمال التى كتبتها هى فكرة الانفعال والامتلاء. أكتب كل فكرة فى سطر وأنساها تمامًا، ولدى ملف أضع فيه كل الأفكار التى أريد كتابتها، بدون حدث رئيسى أو تحديد بناء. بالطبع ليست كل التفاصيل، لأن هناك العديد من التفاصيل تظهر أثناء الكتابة.
أنا بدون هذا الامتلاء لا أكتب مطلقًا، والتجارب الثلاث كتبتها بهذا المنطق، منطق الامتلاء الكامل، وظهور شخصيات أنطلق منها، فأنا لا أنطلق من فكرة، والفكرة وحدها بالنسبة لى لا تكفى وهى شىء مجرد، بل أنطلق من شخصية أو حدث أو افتتاحية تحفزنى، وبدون ترتيب تخرج شخصيات وأحداث، وربما لكونى صحفيًا منذ ٣٥ عامًا دور فى ذلك، فقد رأيت وعاصرت الكثير.
■ هل هذه الطريقة هى ما يجعل قراءك يصفون أعمالك الأدبية بأنها «صادقة»؟
- أظن أن الصدق شرط فى الكتابة، ليس لى فقط، وإنما لكل من يريد أن يكتب، ولا أظن أننى أنفرد بهذا. التجربة الفنية ليست هى التجربة الواقعية، التجربة الفنية هى معادل لهذا الواقع، وأنت تحاول أن تجد أدوات تعبر عن التجربة الواقعية، وهو ما نسميه «الحل الفنى». لا يصح أن يكون الصوت عاليًا فى الرواية، ولا يصح أن تكتب بشكل مباشر، لكن عليك أن تجد «حلولًا فنية» تكتب من خلالها.
الرواية فن جميل، لأنه يتيح لى الكثير من الأقنعة أختفى خلفها. فى النقد أكتب بشكل مباشر، لكن فى الرواية يمكن أن أوزع رأيى على ٣ أقنعة أو ٣ أشخاص، وبالتالى الأمر فيه متعة كبيرة.
فى الرواية متعة اللعب، أنت تلعب، تؤخر معلومة، تخفى شخصية، تقسم الشخصية وظهورها على ٤ فصول، دائمًا وطوال الوقت أنا لا أحب النهايات، وربما تكون رواية «حبيبة كما رواها نديم» هى فقط الرواية التى أنهيتها.
لكن فى روايتى التاليتين لم ألجأ إلى نهاية وتركت عالمهما مفتوحًا، وذلك لأننى أظن أن الرواية ليست إجابة، وإنما الرواية الحقيقية هى طرح السؤال فقط، وهى غير معنية بالإجابة عنه. الرواية المعاصرة تنقل لك حالة، تصنع فكرة.
«أشباح مرجانة» تركت فيها مصير السينما مفتوحًا، ولا يعنينى فكرة الانتصار أو الهزيمة، يعنينى فقط فكرة الحالة وتغير الشخصية من حالة إلى حالة. الرواية ممتعة جدًا بشكل شخصى، وكون القراء يرون فيها تلك الحالة من الصدق الفنى فهذا جائزة كبيرة أشكرهم عليها. وفى واقع الأمر أكتب بشكل ذاتى شخصى جدًا.
■ إلى جانب «أشباح مرجانة»، السينما كانت حاضرة أيضًا فى روايتك الأولى «حبيبة كما يراها نديم» على شكل مشاهدات، ولم تنفصل عنها.. ما السر؟
- سأرجع مرة أخرى لنفس الفكرة الأولى، أننى أكتب عما أعرف وما أستطيع أن أعبر عنه. أكتب المقالات بشكل مباشر فى النقد الفنى. لكن فى الرواية أوظف المشهدية والدراما، وهذا ما فعلته فى «أشباح مرجانة»، التى تعمدت أن أكتبها كفصل يؤدى إلى فصل ومجموعة من الأحداث تؤدى إلى بعضها. تعمدت وأنا أستعير كلمة السينما أن أعبر عن هذه العلاقة.
لا يوجد فنان أو كاتب منذ ظهور السينما لم يتأثر بالسينما كمشهدية، نجيب محفوظ تأثر بالسينما فى روايته الشهيرة «اللص والكلاب»، التى تكاد تكون معالجة سينمائية مكتوبة. أنا هنا أتحدث عن الفعل والمشهدية والحركة، أتحدث عن الدراما، التى هى عبارة عن مجموعة أفعال، ولا تصف بشكل كبير.
السينما أثرت فى الكاتب الكولومبى الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، الذى كان كاتبًا للسيناريو، فروايته «وقائع موت معلن» هى سيناريو، أو يمكن أن تقول إنها فيلم، فى الطريقة التى تخرج بها الشخصية، وكيف يتتبعها، وكيف تحدث جريمة القتل، وغيره الكثير من الكتاب الذين تأثروا بالسينما، والمهم ألا تستغرقنى السينما، ولكن آخذ منها ما أحتاجه.
■ أنت صحفى منذ ٣٥ عامًا، وتكتب النقد الأدبى والفنى، وأخيرًا تكتب الرواية بلغة أدبية ممتعة.. كيف تحافظ على سياق كل كتابة؟
- أنا أفهم فن الرواية، ودرست القصة القصيرة، وأكتب مراجعات الروايات. وكما سبق أن أشرت، ما لا يستطيعه النقد تستطيعه الرواية، النقد لا بد أن أكون فيه مباشرًا واضحًا، لكن الرواية فن ماكر، وأنا أستمتع بهذا المكر.
الرواية حررتنى من الخوف وأشياء كثيرة أتحرج أن أكتبها بشكل مباشر فأضعها خلف أقنعة فى الرواية، التى ذهبت إليها لهذه الأسباب، وليس لأن الكثيرين يكتبونها، فهناك جانب لا أستطيع التعبير عنه إلا من خلال الرواية.
فى الحقيقة كنت أتمنى أن أكون شاعرًا، وأحسد الشعراء لهذا السبب، لكننى لم أوفق، وسبق أن كتبت خلال مرة على صفحتى بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»: «كنت أتمنى أن أعبر عن نفسى من خلال الموسيقى»، لكننى للأسف لم أدرس الموسيقى.
بالتالى الرواية شىء حقيقى، وأدركت هذا من خلال رواية «حبيبة كما يراها نديم». «حبيبة» خففت من الإحساس بالألم، خففت كثيرًا منه، فأدركت أهمية التعبير بالرواية، وانطلقت من «حبيبة»، التى كان جزء كبير منها شخصيًا.
■ ألم تفكر فى إمكانية أن تطغى كتابتك النقدية على كتابتك للرواية؟
- لم أختر النقد، بل خرج بالسليقة والاهتمام، وقراء كثيرون لا يعرفون أننى كتبت نقدًا للرواية قبل أن أكتب نقدًا سينمائيًا، فأول نقد كتبته كان لرواية نجيب محفوظ «يوم قُتل الزعيم»، قرأتها وأعجبتنى فكتبت نقدًا حولها، وكنت حينها فى الجامعة وأتدرب فى جريدة «الوفد».
أنا لا أحسب كتابتى بهذا الشكل، وحين اخترت النقد كنت قد نويت أن أكتب سيناريوهات وغيرها، لكننى كتبت النقد السينمائى، ووجدت أننى أريد أن أكتب فى هذا الفن، أريد أن أكون ناقدًا.
ربما ما جعل الكتابة تتدفق بهذا الشكل، هو أننى كتبت دون اعتبارات أو حسابات، فمنهجى هو أن أكتب، وبعد ذلك أصنف ما أكتبه، وأنا أحب ما أكتبه، وأزعم أننى قارئ جيد، والمهم أننى قبل أن أكتب فى النقد تعرضت لكتابات النقاد.
■ بجانب الرابط بين الروايات الثلاث سيجد القارئ همًا شخصيًا متضفرًا بِهَمٍ اجتماعىٍّ عامٍ.. هل قصدت ذلك؟
- هذا الأمر يرجع إلى تطوير الفكرة، فكما قلت الفكرة وحدها لا تكفى لدى، والشخصية وحدها لا تكفى أيضًا، الأمر المهم يكمن فى تطوير الفكرة، وإلى أين ستأخذنى بالتحديد، وإن لم تأخذنى إلى ما هو أعمق لا أكتبها.
هناك عيب فى الرواية المشهدية يتمثل فى أنها تدور حول نفسها، لا تتطور، وما نقوله نعيده، لذا أحاول أن أخذ بذرة وأطورها. بالتالى فكرة الخاص والعام أسميها تعليق الفكرة، أفكر مثلًا أثناء بداية الكتابة، لو أخذنا الفكرة ووضعناها فى التسعينيات، بكل ما فيها من جو مشحون ومحاصرة إرهاب وتحولات مجتمعية، هذا هو التطوير، وبشكل تلقائى يتم مزج الخاص بالعام، وهكذا فن الرواية فى رأيى.
رواية «اللص والكلاب» مثلًا هى قصة حقيقية كانت تشغل نجيب محفوظ، لكنه أخذها ولم يكتبها كما قرأها، وإلا لكانت أصبحت قصة بوليسية تافهة، بل استخدمها للسؤال العام. أنا أحب الروايات الناضجة التى تتناول فكرة بسيطة وتعمقها، كما فى رواية «العجوز والبحر» لـ«هيمنجواى»، لأنه كان صيادًا محترفًا ومعجبًا بأحد الصيادين فى كوبا، وانتقل فيها إلى مستويات أخرى، وأصبح الصيد لديه هو الصراع، مع التركيز على وقوف الإنسان ضد الظروف، وأرى أن أى فكرة لا تنطلق من البذرة إلى العمق تكون فاشلة.
■ ما سر انشغالك بفترة التسعينيات وتحولاتها، حتى أنك أهديت روايتك «أشباح مرجانة» لهذا الجيل؟
- ربما لأن هذا ما أعرفه بصدق، أنا كنت أنزل إلى الشارع كل يوم، كنت فى حينها أتجول فى كل مكان، لكن فى الألفية الجديدة أصبحت صحفيًا مكتبيًا، وبالتالى كل مشاهداتى وعلاقاتى كانت فى هذا الجيل.
التسعينيات مرحلة أعرفها فى الشارع، كنت حينها حرًا تقريبًا، لا التزم بمكتب، والفكرة فقط هى الكتابة عما أعرفه. أما فى الألفية الجديدة فيمكن أن أكتب عن كواليس جريدة والمؤامرات التى تحاك فيها، وأنا داخل مكتبى.
■ ما جديد محمود عبدالشكور خلال الفترة المقبلة؟
- هناك مشروع روائى جديد وضعت ملامحه، وأتمنى أن أنشره مع نفس الدار «دون» للنشر. أرى أن هذا المشروع أفضل ما كتبت، وهو ثمرة تجربة واقعية أخذتها إلى سؤال يؤرقنى هو الحكم على الحياة، من خلال قصة إنسان عاش حياته بطريقة معينة، ثم يكتشف أنه لم يكن يرى بشكل صحيح.
هذه هى فكرة الرواية، وأتمنى أن تكون عملًا مقبولًا، خاصة أننى كتبتها بحرية كبيرة، أخذت بذرة الشخصية وجعلتها تتحرك، ودائمًا ما أعمل على عدد محدود من الشخصيات، وحجم الرواية لدى مرتبط بمادتها، وهذا لا يعنى أننى ضد الروايات الضخمة، لكن حين يكون الموضوع يستحق، فالموضوع هو ما يحدد حجم الرواية، علمًا بأن روايتى الجديدة ستزيد على ٣٠ ألف كلمة.