مصطفى بيومى: الحج فى الرواية حسن ختام ووجاهة اجتماعية وغسيل سمعة
- الحج يوجد فى الأدب المصرى من خلال عملية دمج أو خلق أو تداخل بين المعطى الدينى والمعطى الاجتماعى
- نجيب محفوظ أفضل من عبر عنه والقبطى يوسف الشارونى قدمه أفضل ما يكون
- يحيى حقى عرّج عليه فى مقالاته فقط.. ويحيى الطاهر ركز على جانبه الفلكلورى
- تجار المخدرات يحلفون بزيارة النبى لإنهاء صفقاتهم فى قصص يوسف إدريس
تناولت الروايات والقصص المصرية الحج من عدة زوايا، تميزت جميعها بالربط بين الدين والدنيا، فهناك من اعتبره حُسن ختام وتوبة، مثل نجيب محفوظ ويوسف الشارونى، أو غسيل سمعة لسنوات من الآثام والشرور، علاوة على التعامل معه باعتباره وجاهة اجتماعية.
وظهر الحج فى الإبداعات الأدبية المصرية من روايات وقصص قصيرة كعاكس لحالة التناقض الشديد فى المجتمع، إلى جانب التدين الشكلى، وهى الحالة التى تدفع كبار تجار المخدرات إلى القسم بزيارة النبى ولمس ضريحه، أثناء عقدهم صفقات تجارتهم السوداء هذه، فى إحدى قصص يوسف إدريس.
عن كل هذه الصور وملامح ظاهرة الحج فى الروايات والقصص القصيرة والمقالات، يدور حوار «حرف» التالى مع الباحث والناقد الأدبى مصطفى بيومى، المهتم بدراسة وتحليل هذه الظاهرة.
■ قمت بدراسة كبيرة عن الحج فى الأدب المصرى.. ما أهم ملاحظاتك عن هذه الظاهرة؟
- المسألة أننى وضعت فرضية معينة، وهى أن كل أركان الدين الإسلامى تنعكس على النص الأدبى فى إطار اجتماعى وليس فى إطار دينى، وإن كانت هناك أركان لم يكن أمامها متسع للظهور بشكل واضح، مثل التوحيد والزكاة، فى مقابل ٣ أركان مؤثرة هى الصلاة والصوم والحج.
■ ما أهم أعمال نجيب محفوظ التى تناولت الحج؟
- فى رواية «القاهرة الجديدة»، نرى أن «محجوب عبدالدايم»، فى رحلة بحثه عن الوظيفة، كان «الإخشيدى» يدله على بعض سماسرة الوظائف، ومن بينهم «عبدالعزيز بك»، والذى كان يتحصل من كل شخص يوظفه على راتبه لمدة ٦ أشهر، وبعد الاتفاق يقول له: «حين يرجع عبدالعزيز بك من فريضة الحج». هذه رؤية مهمة جدًا عن ممارسة السلوك المنحرف بالتزامن مع الفرض الدينى، وكأن الناس لا ترى تعارضًا بين الاثنين.
«صبرية الحشمة» فى رواية «المرايا» هى قوادة بكل ما تعنيه الكلمة من ممارسة غير أخلاقية وغير دينية، وفى نهاية عمرها تتوب، وتكون توبتها تلك بأداء فريضة الحج، كما أن «رضوان الحسينى» فى «زقاق المدق» و«عبدالرحيم عيسى» فى «السكرية» هما الشخصيتان الأهم على الإطلاق فى رحلة نجيب محفوظ للتعبير عن الحج.
■ كيف ذلك؟
- فى «زقاق المدق» تجد «رضوان الحسينى» شخصًا طيبًا ورعًا يحاول أن يتفاعل مع الفقراء بشكل مثالى، وقرب نهاية الرواية يقرر أداء فريضة الحج. من خلال هذا يقدم نجيب محفوظ جملة الطقوس والممارسات الاجتماعية لهذه الفريضة، أهله الذين يزورونه، رفاقه الذين يحتفلون به ويوصونه بالدعوة لهم.
هو نفسه يتحدث فى خطبة عن مدى اشتياقه لزيارة النبى والمشى فى الأراضى المقدسة، ويدعو للحارة ولـ«حميدة» التى هربت، وكذلك لمن سُجن لنبشه القبور، ثم يوصله أهله إلى السويس لركوب السفينة. هذا الحديث فى منتصف الأربعينيات، وكل ما فيه من ممارسات قديم، ولا أحد اليوم يعرف ارتباط الحج بالسويس والباخرة، ولا بهذه الرحلة التى لا يقدر عليها إلا أولو العزم.
فى نفس هذه الفترة أو قبلها بفترة بسيطة، كان هناك «عبدالرحيم باشا»، الذى يتهيأ لأداء فريضة الحج، فى رواية «السكرية»، وهو سياسى وقانونى وقاض يتسم بالثقافة الرفيعة، وينشق عن حزب «الوفد»، فى أواخر الثلاثينيات، لكن الملمح الأبرز هو أنه شاذ جنسيًا، وكل المحيطين به شباب «صبيانه».
هنا الشاهد المهم الذى ينتبه إليه «محفوظ» مبكرًا وسبق أن ذكرته، وهو أنه لا يوجد تعارض بين الانحراف الأخلاقى وأداء الفريضة، وهو ما يظهر فى قول «عبدالرحيم» إن الإنسان كائن معقد يجمع بين المتناقضات والمفارقات، وبالتالى باب التوبة مفتوح.
■ وماذا عن الحج فى أعمال يوسف إدريس؟
- يوسف إدريس يقدم نفس الرؤية، لكن بطريقة تتوافق مع مدرسته فى الكتابة. ولو رجعنا بالذاكرة إلى قصة من أهم وأعمق ما كتب وهى «أكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور»، والتى تدور فى الباطنية، حى المخدرات العريق، بكل ما يصاحب هذه التجارة من ممارسات مختلفة.
كبار تجار المخدرات فى هذه القصة ليسوا كفارًا أو ملحدين أو لا دينيين، وإنما يجمعون بين الدنيا والدين بطريقتهم، وكلهم «حجاج»، وحين يعقد أى منهم صفقات يُقسم بقبر الرسول الذى زاره ولمس ضريحه، ليجمعوا بين الدنيا والدين، بطريقة لا يمكن معها تقييمهم بنظرة أحادية.
■ .. وبالنسبة للحج فى أعمال فتحى غانم؟
- فتحى غانم عبر عن الحج بطريقة مختلفة، مثلًا فى رواية «قليل من الحب كثير من العنف»، النائب العام يصل إلى التقاعد، ويكون تكريم الحكومة له هو رئاسة بعثة الحج الرسمية، فيسافر وزوجته، لكنه يتعرض إلى محنة قتل ابنه فى حادث انتقامى بالإسكندرية، فيعود ويُحال إلى التقاعد.
من هذه اللحظة يبدأ النائب العام تغييرًا جذريًا عميقًا فى حياته، فينغلق على نفسه، ويقبل العمل كمحام عند محامى صغير، أما زوجته «زهيرة هانم فهمى» فتبشر بظاهرة الحجاب قبل انتشاره فى مصر، وتبدأ فى تصميمات جديدة، وكأن الحج ترك فيها أثرًا انعكس على ممارسة التدين الشكلى.
وفى «زينب والعرش» رمز السلطة الناصرية «أحمد عبدالسلام» هو درويش متدين، وبعد هزيمة ٦٧ وتخليه عن مواقع النفوذ، يتوج كل هذا بأداء فريضة الحج، وبعد رجوعه يغرق فى فكرة التدين والدروشة.
■ هل هناك آخرون عبروا عن الحج بشكل مختلف؟
- هناك بهاء طاهر فى رواية «قالت ضحى»، قدم شخصية شعبية من أهم شخصيات الرواية هى «سيد قناوى»، الفرَّاش الأسيوطى الذى يؤمن بمبادئ الاشتراكية بشكلها العفوى التلقائى، ويسافر إلى اليمن، وهناك يفقد ذراعه فى الحرب، فيقول إنها حرب غير مبررة وليس مقتنعًا بها، لكنه يذكر نفسه بقيمة التضحية، وبضرورة أخذ تعويض مالى يستخدمه فى الحج على حساب الحكومة، ليتوج حياته بالحج، لكن بثمن فادح جدًا، وهو فقدان جزء من جسمه، فى حرب لم يكن مقتنعًا بها.
■ كل هؤلاء الكتاب مسلمون.. هل هناك أى كاتب مسيحى كتب عن الحج؟
- لأن الحج خليط من الدينى والاجتماعى، هناك واحدة من أعمق الرؤى التى قُدمت عنه، كانت ليوسف الشارونى فى قصته «الوباء»، التى بها عاهرة تُفكر فى التوبة، وهذه التوبة مقرونة لديها بالحج، لكنها تتعرض إلى ظروف قهرية تمنعها عن أداء الفريضة.
تعتزم تلك السيدة فى سنة ما أداء فريضة الحج، ثم العودة كإنسانة أخرى، لكن القدر يتدخل بانتشار وباء يمنع السفر والحركة، فتتحدث عن فكرة أنها أرادت الحج ومن ثم التوبة، لكن القدر تدخل لمنعها.
فى هذه القصة عبر يوسف الشارونى، وهو كاتب مسيحى، عن مشاعر لا يمكن إدراكها إلا من خلال كاتب مسلم، ما ولد لدى قناعة بأن الكاتب المصرى المخلص للتفاعل مع الواقع محكوم عليه بالثقافة الإسلامية، سواء كان مُسلمًا أو مسيحيًا، مسلمًا ملتزمًا أو غير ملتزم، يمينيًا أو يساريًا، ليبراليًا أو أنه لا دينى، فالثقافة الإسلامية ليست مجرد اختيار، لكن الكاتب محكوم بها، لأنه يعيش فى مجتمع يشكل هذه الفكرة بشكل عميق منذ الصغر.
■ يحيى حقى عبر عن الحج بعيدًا عن الرواية.. كيف ترى ذلك؟
- تميز يحيى حقى برؤية عن الحج ذات خصوصية وجاذبية، من خلال مقالاته بجريدتى «المساء» و«التعاون» فى مرحلة لاحقة، التى جمعها فى كتابى «فيض الكريم» و«هموم ثقافية»، وعلى ضوء عمله فى فترة ما بالسفارة المصرية فى السعودية.
«حقى» رصد فكرة الحج والمحمل، والخلاف بين الملك فؤاد وآل سعود نتيجة اعتراضهم على الموسيقى المصاحبة للمحمل، والذى وصل إلى حد التهديد بالحرب، علاوة على كتابته عشرات المرات عن الحج بأشكاله المختلفة.
لكن ما يلفت النظر فى الأعمال القصصية المختلفة ليحيى حقى، وفى عمله الروائى الوحيد «صح النوم»، أنه لم يتطرق إطلاقًا إلى ظاهرة الحج. كتب فى أعماله القصصية عن رمضان والصلاة، لكنه لم يتوقف عند الحج.
■ كل هؤلاء لديهم سياق واحد.. فمن المختلف عنهم فى التعبير عن الحج؟
- عبد الحميد جودة السحار، لأنه كان معبرًا عن الأيديولوجية الإسلامية، وهو الكاتب الوحيد الذى قدم الحج من داخل الأراضى السعودية، فى روايته «وكان مساء»، من خلال خبير مصرى يسافر إلى السعودية كمستشار.
هذا الخبير رجل متدين جدًا، لكن التدين المصرى السائد حتى نهاية الخمسينيات، ويؤدى فريضة الحج، ويقدم نقدًا عنيفًا للظاهرة الوهابية. لاحظ أن هذا كان عام ١٩٥٧، وهو كاتب إسلامى له كتابات إسلامية، لكنه كان شديد الهجوم على التشدد الوهابى، ويرفضه على ضوء بعض المشاهدات أثناء أدائه فرضة الحج مع زوجته.
■ وماذا عن يحيى الطاهر عبدالله وتعبيره عن طقوس الحج من وداع للحجيج ونقش البيوت وغيرها؟
- ستجد المعالجة الفلكلورية لظاهرة الحج فى قصص يحيى الطاهر عبدالله، من خلال تناول ما كان يحدث فى الصعيد قديمًا، من رسوم لجمال وبواخر على البيوت، كعلامة اجتماعية على أن صاحب البيت يتسلح بميزة أداء فريضة الحج، وهو ما ظهر فى مجموعته القصصية «الدف والصندوق». وهناك ظاهرة ترتبط بالحج بشكل غير مباشر هى العيد الكبير أو الأضحى، وهو ما ظهر فى رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، من خلال تسليط الضوء على ارتباط لحوم الأضحى بالأسر الفقيرة، إلى جانب المحمل، الذى يعتبر الطقس الرسمى لتقديم الهبة من قبل الحكومة المصرية حتى أوائل الخمسينيات، مع الإشارة إلى أن الجميع يحتفل بالعيد، سواء من أدى فريضة الحج أو لم يؤديها.
■ ماذا تقول فى ختام حوارنا هذا عن الحج فى الرواية المصرية؟
- أريد الإشارة إلى أن اعتبار الحج بمثابة «حُسن الختام» فى العديد من الروايات له جانب اجتماعى وليس دينيًا، فمثلًا لو رجعنا إلى «ثلاثية نجيب محفوظ» نجد أن من يؤدى فريضة الحج هو «عبدالرحيم باشا عيسى» وهو مقتدر ماليًا لكنه شاذ جنسيًا، والأولى أن يختتم رحلته بالحج هو «أحمد عبدالجواد»، خاصة أنه مقتدر ويملك المال الكافى لأداء الفريضة، وحين يصيبه مرض يقعده، فى نهاية رواية «قصر الشوق»، نجد أن «الشيخ متولى عبدالصمد» يقول له: «الدواء الوحيد لك أنك تؤدى فريضة الحج.. ولكى يبارك الله لك فيها خذنى معك».
وبالتالى ليس كل قادر ماليًا يكون حريصًا على الحج، وأن الفريضة لها وجهان، الأول دينى، وهو الرغبة فى تتويج حياتك بالتوبة، والله أعلم بمدى صدقك فى النية، والثانى خاص بالوجاهة الاجتماعية، فأداء الفريضة يتضمن نوعًا من غسيل السمعة، وهو ما يوجد الكثير من النماذج الواقعية عنه، مثل المرتشى الذى يؤدى فريضة الحج على حساب الراشى، فى خليط واضح من الدينى والاجتماعى.
وأرى أن هذه حالة من حالات الاضطراب النفسى التى تهيمن على المجتمع، وتجعلنا نقبل الرشوة فى صورة الحج، ونقبل الرشوة أمام المصحف الذى نضعه على المكتب، وبالتالى لا يمكن أن ننظر إلى الصلاة أو الصوم أو الحج بشكل موضوعى وشمولى وكلى، بمعزل عن الربط بين الدين والدنيا.
■ كيف ترى تعبير الأدب عن الحج.. وهل كان فى سياقه الدينى أم ماذا؟
الحج يوجد فى الأدب المصرى من خلال عملية دمج أو خلق أو تداخل بين المعطى الدينى والمعطى الاجتماعى، بمعنى أننا حين نتوقف عند ظاهرة الحج عند الروائى أو كاتب القصة القصيرة، نجده يقدم هذه الظاهرة باعتبارها تجمع بين الإطار الدينى كفرد، والواجب الاجتماعى. وبذلك تعبر الظاهرة أحيانًا عن نوع من الوجاهة الاجتماعية، أو التميز الطبقى، أو حتى غسيل السمعة. قد تكون أيضًا نوعًا من التكريم وحسن الختام، من خلال الوصول إلى التوبة بعد حياة حافلة بالآثام والمعاصى. ولكى يكون الكلام فى إطار تطبيقى، أعتقد أن أهم كاتب مصرى عبر عن هذه الظاهرة بشكل مميز جدًا هو نجيب محفوظ، لأنه أدرك منذ فترة مبكرة جدًا أن الحج ليس مجرد ظاهرة دينية أو فرض يؤديه المسلم، بل يشتبك بالإطار الاجتماعى.