السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أمين سر الثقافة المصرية.. شعبان يوسف: التنويريّون الجدد الوجه الآخر للسلفيين

شعبان يوسف
شعبان يوسف

- نشرت رواية سيد قطب الممنوعة من الإخوان فاتهمنى مثقفون بممالأة الجماعة

- جميع نقاد مصر تجاهلوا تجربة عبدالرحيم منصور عن عمد رغم شعريته الهائلة

شعبان يوسف نبع متجدد، فعلى مدار عقود لم يتوقف عطاؤه فى عالم الأدب، كونه شاعرًا له تجربة خاصة من ناحية، وناقدًا أبحر فى عالم الكتابة النقدية بشكل سبق فيه كل أبناء جيله من ناحية أخرى.

لكن يظل هناك وجه آخر لشعبان يوسف غير وجه الشاعر والناقد، فهو باحث أرشيفى لا يشق له غبار، واكتشف وتعمق فى الآلاف من الوثائق التراثية حول تاريخ مصر وحول تراثها الأدبى والمعرفى، وأصدر عددًا من الكتب التى توثق لفترات وشخصيات مهمة فى التاريخ القديم والمعاصر، لعل آخرها كتابه «مجلة صباح الخير» الذى يروى فيه سيرة ذلك الإصدار الصحفى الشهير.

عن رحلاته واكتشافاته الكبرى فى عالم الأرشيف، ورؤيته لقضايا النقد والأدب والشعر والصحافة، أجرت «حرف» مع شعبان يوسف الحوار التالى:

■ مجال الأرشيف مثل المحيطات الواسعة التى لا حدود لها.. ما الذى تبحث عنه وسط كل هذا الاتساع؟

- منذ سنوات بعيدة ربما فى منتصف السبعينيات، وأنا شغوف بالبحث عن المجهول والمستبعد والمقهور، ووجدت أن ظاهرة الاستبعاد قديمة جدًا، هناك شعراء وأدباء وكتّاب من مصر، تم استبعادهم لأسباب عديدة، منها السياسى ومنها الشخصى ومنها الفكرى ومنها الدينى، وحتى الآن هذا الأمر يحدث بقوة، ووجدت أن ذلك الاستبعاد ينال بعضًا من الكتاب المعاصرين، فبدأت ألهث خلف الأرشيف، ولم أكن أترك مجلة من تراثنا إلا وحاولت التعرف عليها، ولم تكن هناك شبكة إنترنت ولا وسائل تواصل، فكنت أذهب إلى سور الأزبكية ولباعة الكتب القديمة فى كل مكان.

وصار دأبى الأول بجانب الشعر والعمل السياسى، هو البحث عن ذلك المستبعد والمقهور غالبا، وحتى الآن لم أستطع أن أنشر ذلك التراث، حيث العقلية التى تسود فى الحياة الثقافية والفكرية والسياسية تكاد تكون عقلية مباحثية، ولى تجربة مريرة للغاية وهى نشر رواية «أشواك» لسيد قطب، تلك الرواية التى منعتها جماعة الإخوان المسلمين ونشرتها أنا فى عام ٢٠١١، أى قبل صعود الجماعة إلى الحكم.

تلك الرواية تكشف عن الجانب المنفتح لسيد قطب قبل انضمامه للجماعة، ورغم مواقفى وتصريحاتى المهاجمة للجماعة، ومشاركتى فى اعتصام المثقفين فى مايو ويونيو ٢٠١٣، إلا أن واحدًا من المتعاونين مع الجماعة، وبعد طردهم من وزارة الثقافة، أعلن وقال إن هذا الذى يدعى معاداته وخصومته مع الجماعة نشر رواية لسيد قطب ممالأة للجماعة، وسار خلف ذلك الشخص كثير من المثقفين والمغرضين والمرضى، رغم أنهم لم يقرأوا الرواية ولا المقدمة التى كتبتها وهاجمت فيها الجماعة، وانتقدنى أناس يدعون أنهم نقاد، وآخرون يدعون أنهم مبدعون، ولم يكتب واحد من كل هؤلاء عن الرواية ولا عن المقدمة، ولكن عقلية التنمر والترصد هى التى كانت وما زالت تقود.

لذلك ينبغى كشف كل أوراق الماضى، لأنها شريك أساسى فى صياغة الحاضر والمستقبل، فمثلًا نحن قرأنا كتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين، ولكننا لم نقرأ الردود والمناقشات التى واجهته، ومن الطبيعى أن يكون بين تلك الردود ما يصلح للقراءة والمناقشة، لكن العقلية التنويرية التى تبنت الموضوع منعت وصول ذلك التراث إلى الأجيال التالية، وبالتالى ليس لدينا سوى كتاب طه حسين، ولكننا لم نتعرف على وجهة نظر المناقشين، وكذلك حدث مع الشيخ على عبدالرازق وهذا شىء خطير للغاية، أى أن التنويريين يشبهون فى سياسة المنع والسماح السلفيين، فتم منع التراث الآخر، وهذا حدث مع كتابات خالد محمد خالد، عندما أصدر كتابه «من هنا نبدأ»، لم نتعرّف بشكل دقيق وواضح على كل ما كتب عن الكتاب، وهناك عشرات الكتابات المفيدة التى ناقشت الكتاب، مثل مقالات لمحمد فريد وجدى وهكذا، لذا أستطيع أن أقول إن التنويريين الجدد هم وجه آخر للسلفيين، وهذا ما جعلنى وشغفنى للبحث عن المعلومة الصحيحة حتى لو كانت ضد ما اقتنعت به على مدى سنوات، وحاولت أن أضع الماضى محلًا للمساءلة وليس محلًا للتدشين، مثلما فعلت فى كتاب «ضحايا يوسف إدريس وعصره» ذلك الكتاب الذى أثار جدلًا واسعًا فى حين صدوره وحتى الآن.

■ أصدرت كتابك الأخير عن مجلة صباح الخير.. لماذا كتبت عنها تحديدًا دون غيرها من الإصدارات؟

- مجلة صباح الخير لها دور مهم للغاية فى تطوير الصحافة المصرية ودفعها إلى الأمام، ذلك الدور الذى لم تقم به مجلة أخرى فى ذلك الوقت حتى مجلة روزاليوسف نفسها، ولو تأملنا المرحلة التى صدرت فيها المجلة التى صدر عددها الأول فى ١٢ يناير ١٩٥٦، سنجد أنه كان هناك حينها مجلات المصور، وآخر ساعة، وحواء، والتحرير، وغيرها من المجلات التى تهيمن عليها النبرة الموجهة، حتى الكاريكاتير فى تلك المجلات كان موجهًا سياسيًا، وما عدا ذلك لم يكن مشحونًا بتلك الروح التى بثتها مجلة صباح الخير.

وعندما بدأ التجهيز للمجلة قرر رئيس تحريرها أن يعتمد على الشباب بشكل رئيسى، فرأينا أن معظمهم كان فى العشرينيات، وبعضهم كان ما زال يدرس فى الجامعة، من هؤلاء الشباب كان صلاح جاهين، وجورج البهجورى، وأحمد حجازى، ومصطفى محمود، وصبرى موسى، ورجائى ونيس ومفيد فوزى وغيرهم، ومسألة الشباب تلك، كانت مغامرة كبرى تقوم بها السيدة فاطمة اليوسف، وقد اختارت رئيس التحرير نفسه فى عز عمر الشباب، وكان أحمد بهاء الدين، ولم يكن يبلغ أيضًا الثلاثين من عمره.

أما المحور الثانى، فهو الكاريكاتير، فلم يكن الكاريكاتير مجرد لوحة أو بعض لوحات يرسمها فنان أو اثنان من الفنانين وكفى، ولكننا لاحظنا أن كتيبة من فنانى الكاريكاتير التحقت بالمجلة، وجعلهم «بهاء الدين» كتلة التحرير الرئيسية، فلا يوجد مقال أو موضوع أو تحقيق أو قصة فى المجلة، إلا وكان الكاريكاتير مرافقًا له، وكانت هذه ظاهرة جديدة لم تتطرق إليها أى مجلة، ولذا أصبحت مجلة صباح الخير من أهم المجلات المصرية والعربية فى ذلك المحور، ولا أريد الاستطراد فى الطفرة التى أحدثتها المجلة، لأن كل ذلك جاء فى كتابى الذى صدر فى أول العام الجاري.

■ وصفت النقد بالآلة العمياء، لأنه لم ينتبه لعبدالرحيم منصور وقلت فى موضع آخر إنه آلة لتصفية الحسابات.. برأيك لماذا ابتعدنا كثيرًا عن النقد الموضوعى؟

- نعم، آلة النقد عمياء فى كثير من الأحيان إن لم تكن مغرضة، وأخص بالذكر تجاهل كتّاب وشعراء كثيرين، منهم الشاعر الرقيق والصوت المتفرد عبدالرحيم منصور، الذى أثرى الساحة الفنية بأغنيات لكثير من الفنانين، على رأسهم محمد منير، وما زال الشباب حتى الآن يرددون أغانيه، ولكن النقاد كانوا فى خبر كان، ومن هؤلاء النقاد سيد خميس الذى لم يترك شاعرًا للعامية لم يكتب عنه مثل سيد حجاب والأبنودى وفؤاد حداد وصلاح جاهين، وكلهم شعراء كبار وعظماء، ويستحقون كل جميل من الكتابة، لكن لم يكتب عن عبدالرحيم منصور رغم أنه لا يقل عن أى منهم قيمة وجمالًا وإبداعًا، ولكننى أعتقد أن مساحات الاستبعاد كانت تحاول أن تعمل بقوة فى مصير أدباء وتتجاهلهم، مثلما حدث على سبيل المثال مع الكاتب الروائى إدريس على الكاتب النوبى الكبير، وكذلك الروائى محمد ناجى وهو فى رأيى كان كاتبًا ذا طعم خاص جدًا، ولكن النقاد صرفوا النظر عنه، وهو نفسه لم يسع إلى الظهور أو تسويق نفسه، كان يكتب نصه ويمضى ولا يشارك فى حفلات التدشين الغنائى الذى تقيمه جماعات المصالح والضغط الأدبى، تلك الجماعات التى لم تصبح عشوائية، ولكنها أصبحت موجودة ومتغلغلة ولها أذرع فى دور النشر والمؤسسات الرسمية والصحفية، وتتم كثير من الخطط للترويج لهذا أو استبعاد ذاك بقرارات مسبقة من تلك الجماعات.

■ يعانى الباحثون فى مصر كثيرًا ونقرأ عشرات الشكاوى من صعوبة البحث عن معلومة ما.. فى رأيك ما الرؤية التى يجب أن تتبناها الدولة لتصحيح ذلك المسار؟

- طبعًا هناك معاناة يعيشها الباحثون فى العثور على معلومات كاملة عن كاتب ما، ومن ثم فالباحث العجول يعتمد على معلومات مكتوبة من قبل وعفا عليها الزمن وهذا لا يصنع بحثًا جادًا، وصرخت أكثر من مرة لإنشاء وحدة بحث ببيلوجرافية فى دار الكتب، ولكن الأعباء الكثيرة فى الهيئة القومية للوثائق والمكتبات تفتقد إلى ذلك بقوة، فلو شرع باحث فى إجراء دراسة عن إبراهيم إصلان مثلًا، فعليه أن «يدوخ السبع دوخات» لكى يعرف متى بدأ إبراهيم أصلان الكتابة، وتاريخ نشره لأول قصة وأين نشرها، ومن كتب عنه للمرة الأولى، فضلًا عن الكتابات التى كتبها فى صحف ومجلات ولم يسعفه الوقت لنشرها فى كتب، ورغم أن الباحث الجاد يبذل كل المجهودات، لكن الجهة الأهم فى عملية التوثيق قاصرة عن تلبية تلك الأغراض، ومن هنا سنجد أن أبحاثًا كثيرة تفتقد إلى تلك الدقة المطلوبة، ولذلك من الضرورى أن ننشئ وحدة ببلوجرافية فى دار الكتب، التى هى ذاكرة الوطن فى كل مجالات البحث والكتابة.

■ تحدثت عن الكثير من الكتاب الذين اختفت إصداراتهم ولم يعد يعرفهم أحد حتى إن البعض يطلق عليك نصير المهمشين.. هل أنت كذلك بالفعل؟

- هناك كثير من المهمشين الذين لم يكن لهم حظ لتهتم بهم مؤسسات أو دور نشر أو صحف، لذلك أرى أن يتم تخصيص لجنة فى وزارة الثقافة لاستعادة ذلك التراث المهدور والمستبعد.

■ اشتبكت مع كثير القضايا الحساسة مثل «ضحايا يوسف إدريس» و«دراويش نجيب سرور».. فى رأيك من المتسبب فى رسم صور غير حقيقية عن بعض المشاهير؟

- فى كتابى عن يوسف إدريس، حاولت أن أميط اللثام عن أحداث لم يخض فيها آخرون، كذلك حديثى عن نجيب سرور الذى أحاول فى كتابى القادم عنه أن أرسم صورة له كما أراه، بعيدًا عن تلك النظرة التقديسية التى يراه بها دراويشه، ويصورونه على أنه شهيد وضحية السلطة.

■ أصدرت كتابك «لماذا تموت الكاتبات كمدًا» لكنك خصصت كتابًا منفردًا عن مى زيادة.. لماذا؟

- بالفعل أصدرت كتاب «لماذا تموت الكاتبات كمدًا» فى ٢٠١٦، ثم أصدرت كتابًا عن مى زيادة منفردًا، وكل كاتبة تناولتها فى الكتاب تحتاج إلى كتاب خاص بها، إلا أن مى زيادة كانت وما زالت وستظل هى الضحية الأبرز، لأن كثيرًا ممن صادقوها ورافقوها وتعلموا فى صالونها وأكلوا معها «عيش وملح» كما يقال، هاجمها وانقلب عليها مثل سلامة موسى، ومنهم من اختصرها فى أنها صاحبة صالون وكفى، ومنهم من اعتبرها ذات مشاعر منحرفة، تعليقًا على أنها لم ترتبط برجل، والأسماء التى اكتشفت أنهم مارسوا ذلك الظلم عليها تضم أعلامًا كبارًا، منهم الدكتور طه حسين، والعقاد الذى وضع كتابًا عنوانه «رجال عرفتهم»، فلم يكتب عنها منفردة، ولكنه كتب مقالًا عنوانه «رجال حول مى»، ولم يتطرق إلا إلى الطرائف التى كانت تحدث فى الصالون، وهناك فتحى رضوان وأنور المعداوى وإبراهيم عبدالقادر المازنى، فضلًا عن عائلتها التى مارست عليها كل الظلم، عندما خطفوها من القاهرة لكى يضعونها فى «العصفورية» أو مستشفى المجانين، وعندما أفلتت وعادت إلى مصر لم تجد إلا جحودًا من كل رفاقها، لذلك كانت تحتاج إلى كتاب وحدها لتفنيد وشرح وتوضيح كل ذلك.

■ تثار من حين لآخر قضية الحذف والتبديل فى كتابات الكبار داخل التراث المصرى والعربى.. برأيك كيف نحمى كتب الأقدمين من هذا العبث؟

- بالتأكيد مسألة الحذف حدثت وتحدث على مر العصور، أتذكر فى ذلك المجال أن الكاتب الراحل طاهر الطناحى كان يعيد نشر كثير من كتابات الزعماء والقادة والأدباء، وكان يعبث كثيرًا فى تلك الكتابات، ومن أبرز ما تم تشويهه مذكرات أحمد لطفى السيد، وهو فعل ذلك لتبييض وجه الأخير فيما يخص- على سبيل المثال- خطبته ووداعه للورد كرومر، رغم أن لطفى السيد نفسه لم يكن يتبرأ من ذلك، ونشرها مجددًا فى عام 1947، ولكن عندما رحل لطفى السيد فى عام 1963، ووفقًا لظروف سياسية أو ربما أخلاقية، لعب «الطناحى» فى المذكرات لكى تناسب ما كان سائدًا فى ذلك الوقت، وهذا ما يحدث دائمًا وبشكل عشوائى.