أندرياس شلايشر: المعرفة الآن لا تستحق المكافأة.. فـ«جوجل يعرف كل شىء»
- المهم الآن ليس «معرفة الشىء» بل «ما ستفعله بهذه المعرفة»
- العلم ليس إعادة إنتاج الحكمة بل التشكيك فيها
- برنامج «بيزا» يقيس تقدم التعليم بتقييمات القراءة والكتابة والعلوم والرياضيات
لا يمكن لأمة أن تصنع حضارة حقيقية وتبنى مستقبلًا مشرقًا لأبنائها إلا بالتعليم، ووفق هذه الحقيقة، سعت أغلب دول العالم لتطوير أنظمتها التعليمية بطرق مختلفة وبوسائل وبرامج مبتكرة، وكان برنامج «بيزا» لقياس مهارات الطلاب التابع لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، واحدا من أبرز تلك الأدوات كفاءة وفاعلية. ويمتلك مدير «بيزا»، أندرياس شلايشر، رؤية متكاملة حول سبل تطوير التعليم فى منطقة الشرق الأوسط، من خلال ابتكار وسائل تقييم فعالة تساعد الطلاب على الفهم وتكوين الثقافة العميقة، وتساعد المعلمين كذلك على امتلاك القدرة على بناء العقول وتدعيمها بالمعرفة الصحيحة. وحاورت «حرف»، أندرياس شلايشر حول التحديات الحالية التى تواجه نظم التعليم، والتوجهات المستقبلية فى هذا المجال.
■ منذ ٢٤ عامًا أنشأت منظمة التعاون الاقتصادى برنامج «بيزا» لتقييم التعليم وتقديم توصيات لتحسينه.. ما المعايير التى يعتمد عليها البرنامج لتقييم أداء الطلاب؟ وكيف يتم اختيار الطلاب والدول المشاركة فيه؟
- هناك أكثر من ٩٠ دولة تعتمد البرنامج، وتجرى تقييمًا كل ٣ سنوات للمعارف والمهارات الأكثر تأثيرًا فى صناعة النتائج الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية للمتعلمين.
والمواد الأساسية التى يختبرها «بيزا» لقياس مدى التقدم، هى القراءة والكتابة والعلوم والرياضيات، لكن البرنامج يتضمن معايير أخرى مثل المهارات الاجتماعية أو حل المشكلات أو التفكير الإبداعى.
وحتى المواد مثل الرياضيات أو القراءة والكتابة، تتطور فى معاييرها، على سبيل المثال، قبل ٢٤ عامًا، كان تقييم القراءة يتعلق بشكل أساسى بمعالجة النصوص المطبوعة الخطية، واليوم تلعب المعرفة الرقمية دورًا مهمًا فى العالم، وبإمكان جميع الدول التقدم للمشاركة فى البرنامج إذا التزمت بالمعايير الفنية، والتى تضمن مقارنة البيانات دوليًا، وارتفع العدد من عشرين دولة إلى أكثر من ٩٠ دولة حتى الآن، ويتم الاختيار بطريقة علمية تضمن تمثيل الطلاب لبلادهم بشكل جيد.
■ ما أبرز التحديات التى تواجه أنظمة التعليم فى منطقة الشرق الأوسط مقارنة ببقية دول العالم؟
- عندما ننظر لهذه التحديات من منظور «بيزا» فسنرى أن الطلاب فى الشرق الأوسط غالبًا ما يكونون جيدين فى إعادة إنتاج المحتوى الموضوعى، لكنهم يفتقرون إلى المهارات اللازمة لاستقراء ما يعرفونه وتطبيق معارفهم بشكل إبداعى فى مواقف جديدة، وهذا يشكل عقبة حقيقية فى عالم اليوم، حيث لم يعد يكافَأ الناس فقط على ما يعرفونه، «جوجل» يعرف كل شىء، بل على ما يمكنهم أن يفعلوه بما يعرفونه. وهذا يظهر فى مسارات الطلاب، حيث ينخرط عدد كبير جدًا من الشباب فى مسارات أكاديمية لا يوجد بها سوى القليل من الوظائف، بينما يسعى عدد قليل جدًا منهم إلى الوظائف التى تطلب مهارات يحتاجها أرباب العمل بشدة.
إن الخطر الأكبر الذى يواجه التعليم فى الشرق الأوسط اليوم ليس عدم كفاءته، بل طريقته التى تفقد غرضها وأهميتها، وعندما يصبح السريع سريعًا جدا، فإن بُطئك فى التكيف يجعل أنظمة التعليم بطيئة ومربكة.
■ كيف تحسن دول الشرق الأوسط جودة التعليم وتضمن توافره للجميع؟
- أولًا: دراسة أنظمة التعليم فى الدول التى وصلت للمعايير العالمية ودراسة الاختلاف الذى حققته هذه الدول، إن أول ما أدركته أنا شخصيًا، هو أن القادة فى أنظمة التعليم عالية الأداء أقنعوا مواطنيهم بتقدير المستقبل بقدر تقديرهم للحاضر، فمثلًا استثمر الآباء والأجداد الصينيون كل أموالهم فى مستقبل تعليم أطفالهم، بينما فى العالم العربى أنفقنا أموال أطفالنا على الاستهلاك.
لكن تقدير التعليم هو فقط جزء من المعادلة. وهناك جزء مهم آخر، وهو الإيمان العميق بأن كل طالب يمكنه التعلم. فى الشرق الأوسط، غالبًا ما يحدث تفريق بين الطلاب فى سن مبكرة، ما يعكس فكرة، مفادها أن بعض الأطفال فقط يمكنهم النجاح. وعلى العكس، فى دول مثل إستونيا أو كندا أو فنلندا أو اليابان، يؤمن الآباء والمُعلمون بأن جميع الطلاب باستطاعتهم الوصول لمعايير عالية، وتتجلى هذه الثقة فى سلوك الطلاب والمعلمين، وقد تطورت هذه الأنظمة من فرز المواهب البشرية إلى تطويرها. فهم يدركون أن الطلاب العاديين بإمكانهم التمتع بمواهب غير عادية.
وبالتأكيد نجاح أى نظام مدرسى ينبع من جودة مستوى مُعلميه. فالمدارس ذات الأداء العالى تختبر وتثقف أعضاء هيئة التدريس بعناية، وتوفر بيئة يتعاون بها المعلمون معًا لوضع إطار للممارسات الأصح، وتشجع المعلمين على التطور فى حياتهم المهنية.
لقد تحوّلت الأنظمة المدرسية ذات الأداء العالى من الرقابة الإدارية والمحاسبة إلى الأشكال الاحترافية لتنظيم العمل، فهم يشجعون معلميهم على الابتكار، لتحسين أدائهم وأداء زملائهم، ومتابعة تطورهم المهنى الذى يؤدى إلى ممارسة أفضل.
كذلك لا ينصب التركيز فى هذه المدارس على السعى للارتقاء والتطور داخل إدارة المدرسة، بل السعى للتطور خارج المدرسة، من خلال تطوير المعلم التالى أو المدرسة التالية، وخلق ثقافة التعاون وشبكات قوية من الابتكار.
أيضًا توفر أنظمة المدارس ذات الأداء الأفضل، تعليمًا بجودة عالية من خلال النظام بأكمله بحيث يستفيد كل طالب من التعليم الممتاز، ولذلك تجتذب تلك البلدان أقوى مديرى المدارس والمعلمين الأكثر موهبة إلى الفصول الدراسية الأكثر تحديًا.
■ هل يمكن تطوير مناهج تعليمية فى الشرق الأوسط تراعى الاحتياجات المحلية وتعزز المهارات العالمية فى نفس الوقت؟
- أعتقد أن الإمعان فى المحلية والكفاءة العالمية وجهان لعملة واحدة، فهؤلاء الطلاب الذين لن يجدوا خلفية قوية تتعلق بالهوية والانتماء، سوف يعيشون منعزلين مهما كان ذلك مدمرًا للذات.
لذا أعتقد أنه من المهم بناء منهج دراسى متعلق بالسياقات المحلية، لمساعدة الطلاب على تطوير الشعور بقدرتهم على تكوين استنتاجاتهم الخاصة. أنا بالأساس باحث علمى، ورأيت فصولًا دراسية فى الشرق الأوسط كانوا يدرسون فيها العلوم كما يدّرسون الدين.
درّس المعلمون للطلاب بعض النظريات العلمية، ثم أعطوهم الكثير من التمارين للتدرب على هذه النظريات، وكثير من هذه التدريبات جاء من سياقات مختلفة عن السياقات المحلية التى يعيش فيها الطلاب، وفى النهاية اختبروا ما إذا كان الطلاب قد تعلموا بالفعل هذه الإجابات.
وهذا لا علاقة له بالعلم، العلم لا يتعلق بإعادة إنتاج الحكمة الراسخة فى عصرنا بل التشكيك فيها. فلو علّمنا الشباب التفكير كعلماء، ثم سمحنا لهم بتطبيق هذا التفكير لحل المشكلات العلمية فى بيئتهم المحلية، فإننا سنجمع بين البعدين.
خلاصة القول هى أن التعليم فى هذا العصر لم يعد مقتصرًا على تعليم الطلاب شيئًا ما، بل مساعدتهم على امتلاك البوصلة وأدوات للتنقل بثقة عبر عالم متزايد التعقيد والتقلب والغموض.
النجاح فى التعليم يتعلق بالهوية والفاعلية والهدف. ويتعلق بتعزيز الفضول: وانفتاح العقول، ويتعلق بالتعاطى وبالشجاعة وتعبئة مواردنا المعرفية والاجتماعية والعاطفية لنتصرف على هذا الأساس. وهذا سيكون أفضل سلاح نمتلكه ضد أكبر التهديدات فى عصرنا، فالجهل هو العقل المنغلق والكراهية هى القلب المنغلق، والخوف هو عدو الفاعلية.
وتحتاج مدارس المستقبل لمساعدة المتعلمين على التفكير بأنفسهم ومشاركة الآخرين بتعاطف فى العمل والمواطنة، وتحتاج لمساعدة المتعلمين على تطوير إحساسهم بالصواب والخطأ، والوعى بادعاءات الآخرين، وفهم حدود العمل الفردى والجماعى.
فى العمل والبيت والمجتمع، سيحتاج الناس إلى فهم عميق لنمط حياة الآخرين فى الثقافات والتقاليد المختلفة، وكيف يفكر الآخرون سواء علماء أو فنانين. ومهما كانت المهام التى قد تتولاها الآلات نيابة عن البشر فى العمل، فإن سعينا لتطوير معرفتنا ومهاراتنا للمساهمة بشكل هادف فى الحياة الاجتماعية يجب أن يستمر فى الازدياد. إذا نظرتِ إلى البيانات التى حصلنا عليها من برنامج التقييم الدولى للطلاب، فسترين إلى أى مدى لا نزال بعيدين عن هذه التطلعات.
■ بما أن المعلم من أهم أركان العملية التعليمية.. كيف تستثمر دول الشرق الأوسط بشكل أكبر فى تطوير مهارات المعلمين وضمان استمرارية تدريبهم المهنى؟
- بجعل التدريس أكثر جاذبية فكرية، وبناء مسارات وظيفية مهمة أكثر للمعلمين، وهذا سوف يحفزهم على التطور فى مهنتهم وأيضا سيكون أكثر فاعلية من مجرد انخراطهم فى دورات تدريبية.
يحاول بعض مسئولى التعليم بالشرق الأوسط إدخال أنظمة أوروبية على الدراسة فى دولهم لكن أحيانا يقابل هذا التغير بالنقد والرفض، بحجة أن نجاح نظام تعليمى فى دولة ما ليس شرطًا لنجاحه فى أخرى، خاصة أن لكل دولة ظروفها.
■ ما هى التوصيات التى يمكن أن يقدمها برنامجكم للاستفادة من أنظمة أوروبية عند تطبيقها فى منطقتنا؟
- من الصعب جدًا تقليد الحلول التعليمية ونقلها «نسخ ولصق»، لكن الأفضل هو أن نسأل ما الذى يجعل بعض البلدان تنجح فى مساراتها؟ ومن ثم نحاول الاستفادة من المسارات الناجحة، وسنغافورة من أفضل البلدان فى فعل ذلك.
■ هناك من يدعو لإلغاء تدريس الدراسات الإنسانية كالجغرافيا والتاريخ والفلسفة فى المدارس والجامعات بحجة أنها لا تساعد فى سوق العمل الحالية.. هل هذا صحيح.. هل نستطيع الاستغناء عن هذه المواد؟
- تلعب العلوم الإنسانية دورًا فى غاية الأهمية فى العالم وفى الاقتصاد، ولكن ما تستطيع الحكومات فعله هو مواءمة الموارد التى تستثمرها فى البرامج التعليمية المختلفة، مع مدى فعالية هذه البرامج فى مساعدة الطلاب على العثور على مكانهم فى الاقتصاد والمجتمع، وتنفذ كوريا والصين هذا بطريقة جيدة.
■ هل هناك دول تطبق توصيات «بيزا» بشكل فعال..وما التغييرات الملحوظة التى شهدتها هذه الدول بعد تطبيق تلك التوصيات؟
- نعم، هناك العديد من البلدان التى شهدت تحسينات مهمة فى أنظمتها التعليمية من خلال تطبيق الدروس المستفادة من برنامج التقييم الدولى للطلاب، ومنذ عدة سنوات نشرت كتاب «فصول العالم» مع أمثلة لهذه البلدان.