لماذا يكره المثقفون بعضهم؟.. جمال حسين على يجيب عن سؤال كتابه المثير للجدل
- أسوأ ما حدث للثقافة هو تقديمها بشكل خاطئ وسيئ للمتلقى
- لا يوجد لدينا مشهد ثقافى.. وهذا الوصف اخترعه نقاد «الفيسبوك»
- المثقفون الحقيقيون هُم الأحرار فى قناعاتهم وغير الخاضعين للأيديولوجيا
- معايير الإبداع مقاييس هجرها العلم لكن النقاد مغرمون بها
أن تعرى واقع المثقفين العرب وتحلل إشكاليات وكوارث الخطاب الثقافى الحالى، فأنت تدخل بكامل إرادتك إلى ما يمكن وصفه بـ«عش الدبابير»، وأنت بالتأكيد تمتلك شجاعة وجسارة على اتخاذ موقف ربما يعرضك للكثير من الهجوم والأضرار على مختلف المستويات.
هذا بالضبط ما فعله الكاتب العراقى الكبير جمال حسين على، مؤلف كتاب «لماذا يكره المثقفون بعضهم»، والذى ألحقه بجزءين آخرين هما «بلطجة المثقفين» و«بازار الثقافة الكبير»، وهى الإصدارات التى يشتبك خلالها مع الكثير من القضايا المهمة فى واقعنا، وينتقد الكثير من الظواهر المعرفية فى عالمنا العربى.
وأجرت «حرف» حوارًا مع جمال حسين على، حول الدوافع التى جعلته يصدر مؤلفاته، حول رؤيته للحياة الثقافية فى العالم العربى وغير ذلك من القضايا.
■ بداية.. ما هى معايير الثقافة الحقيقية من وجهة نظرك؟
- أىّ إبداع لا يخضع لمعايير، فهذه القياسات هجرها العلم وما زال النقاد يغرمون بها، لأنها الشىء الوحيد الذى يفهمونه فى حالة إذا فهموه بالأساس، أظن أن السلطة الحكومية الثقافية تهتم بالمعايير أيضًا، وتستغلها حسب ظروفها السياسية لوضع المثقف فى صندوقها الخاص «الاجتماعى والثقافى والسياسى»، وتفرض عليه المحرّمات والممنوعات وغيره، وستظلّ المعايير مائعة وذاتية، لأنه فى الإبداع لا توجد نهاية يصل إليها مخلوق، هناك إحساس عالٍ، ذوق رفيع، نضج كافٍ، هذه معايير الأدب والفنّ وبرأيى لا تخرج عن الجيّد والسيئ.
لقد تحدى الناس وجهات نظر بعضهم البعض طوال تاريخ البشرية، لكن الإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعى، غيرت المعايير من ناحية: كيف ومتى وأين تحدث هذه الأنواع من التفاعلات. لكن الذنب لا يزال مستمدًا من المعايير المتفق عليها مجتمعيًا، سواء كانت تتجلى فى الدين أو الأيديولوجية أو القانون أو مجرد الأخلاق البدائية التى دونها لا يمكن لأى مجموعة أن تعيش. ومن الضرورى ونحن نشيّد طريق الأفكار أن نحدد الإحداثيات والمعايير التى تنطبق على الجميع بعدالة، وأن يكون نشاط المثقف منسجمًا مع نظرته الكونية المتحدة لكلّ شعوب الأرض بلا تمييز، وأن يلتزم بالرصانة الفنية والأمانة العلمية والجوهر الفلسفى للتأمل الميتافيزيقى.
■ عملت مراسلًا حرًا وحربيًا لسنوات طويلة وخضت تجارب حروب عديدة.. فهل ترى أن المثقفين العرب ضحايا السياسة؟
- الكوكب بما فيه من مخلوقات وكائنات ضحية للسياسة وليس المثقفون فحسب. وإذا كان المقصود هو السلطة السياسية، فهى لعبت فى الغالب دور السلطة التأديبية التى تمارس أسلوب السيطرة على الأكاديميين والمثقفين والفنانين، وتحاول الفصل بينهم من أجل تحويلهم إلى أدوات تحركها الدولة الشركاتية التى يسيطر عليه حفنة من رجال الأعمال يرضون الأنظمة الحاكمة. وهى بالتالى سياسة أمنية تعسفية تنزع المثقف من جذور المكان الذى ينبغى أن ينشط فيه وعندها سيختلط الوضع الأخلاقى والسياسى والأمنى إلى الحد الذى سيؤدى إلى الازدراء الساخر من قبل المثقفين الذين وجدوا أنفسهم فى حالة الدفاع عن وجودهم وكياناتهم التى صارت تتساقط الواحدة تلو الأخرى بالترهيب والترغيب والمناصب والجوائز وكلّ أساليب شراء الذمم، لذلك يسلط كتابى «بلطجة المثقفين» على علاقة المثقف والسلطة، والمثقف الجاسوس، والمثقف الرقيب والمثقف الموظف والمثقف السريع وغيرهم.
■ فى الجزء الأول من كتابك «لماذا يكره المثقفون بعضهم» تحدثت عن تراجع الثقافة فى عصرنا الحالى وبروز الابتذال.. تُرى ما أسباب ذلك؟
- أسوأ ما حدث أن الثقافة فى الغالب تم تقديمها على نحو خاطئ وسيئ إلى المتلقى، وبمرور السنين نتج عن ذلك ما أطلقت عليه الرّداءة التى تعتبر نفسها رائعة، بحيث صارت تؤكد حقها فى الابتذال؛ لأنّ المجتمع أكد الابتذال كحقّ. وإذا كانت هناك إدانة، فلا تُرمى على أحد بشخصه، الجُرم نحن الذين اقترفناه. كلنا يتحمل المسئولية ونحن من شجعنا على الابتذال وعلينا أن نحاكم أنفسنا. لماذا يهرع الملايين لمتابعة المبتذلين؟ لماذا تكون نسبة المشاهدة الأعلى لمن يسميهم المجتمع ساقطين؟ ولماذا تغبرّ الكتب العظيمة فى الرفوف؟ ففى الحقبة المنحلّة، قد يكتسب المرء شهرة واسعة، من دون جهد وبسعر زهيد. فكلّ ما يمكن شراؤه بالمال، هو «رخيص» لأحد ما، ولكى تصبح «شعبيًا» أو ما يطلق عليه الآن «مشهورًا»، عليك أن تسمح للناس أن يجعلوا منك غبيًا. لكن مَن يريد الأدب بدلًا من الابتذال والموسيقى بدلًا من الضجيج، الفرح بدلًا من المتعة الوقتية، الروح بدلًا من المادة، الجوهر بدلًا من المظهر، الإبداع الأصيل بدلًا من التقليد المزيّف، العاطفة بدلًا من النزوة، لا يجد موطنًا فى عالم التفاهة.
■ فى رأيك.. ما الأسباب التى تجعل المثقفين يميلون إلى الصراع فيما بينهم؟ وهل العوامل الاقتصادية من بينها؟
- الصراع هو ما بين المثقف الذى بنى نفسه مصلحيًا، والمثقف الذى بنى نفسه على الزهد ونكران الذات وتكريس نفسه لمجتمعه وشعبه، والمستعد لتقديم رقبته من أجلهم. وهذا سيستمر إلى الأبد.
■ هل للصراع بين المثقفين علاقة بما بات يعرف بالثقافة الشعبية والثقافة النخبوية؟
- إن المثقفين النقديين القلائل الذين يعبرون عن مخاوفهم لا يظهرون أبدًا فى وسائل الإعلام المهيمنة، فى حين تقدّم السلطة أشباه المثقفين كمثقفيها الأبطال. وسيتم مسح المثقفين البارزين من وسائل الإعلام وسيصل الأمر إلى إلغاء وجودهم تمامًا من الأرشيف الفكرى للبلاد، أو يتم التنصل عنهم باعتبارهم خونة أو أن أعمالهم مناهضة للواقع. ومع ذلك فإن معظم الجبابرة فى الفلسفة والأدب ومن ثمّ فى السّياسة والفكر وعلم النّفس والاجتماع، ماتوا فى الصّراع من أجل تكريس الحق فى وجودهم المستقل.
■ بما أن محور كتبك يدور حول المثقفين.. هل ترى أن المثقفين العرب يؤدون دورهم تجاه أوطانهم؟
- تعدى نطاق شراء الذمم ومدى إغراء أنواع مختلفة من المثقفين من قبل الحكومات والشركات وصناع الثقافة الجماهيرية كالفضائيات والصحف وغيرها، ليتم استيعابهم فى منظومة النخبة الحاكمة. فالشاعر يصبح محللًا سياسيًا أو منظّرًا اجتماعيًا، والداعية له من الوقت والبرامج ما يكفيه لإعادة قراءة كتب التراث على المشاهدين، والروائى سيتحول إلى كاتب سيناريوهات المسلسلات الأكثر أجرًا، وهكذا سيغوص المثقفون وأشباههم فى المنظومة التى تتحكّم فى كلّ شىء، ولا يستطيعون الفكاك منها، وسيكونون نجوم المهرجانات والمعارض والمناسبات والمواسم وكل ما يخطر على بال صنّاع السيرك الكبير. وسيستمر هذا العرض لسنوات طويلة وعقود، وسيتعين على المرء أن يتساءل كيف عملت المنظومة على افتراس هؤلاء المثقفين والأكاديميين والإعلاميين والفنانين وكيف تمكنوا من خنق ثقافة التساؤل والمعارضة فى بلدانهم؟
■ لا يخلو حديث أو ندوة أو أى معرض ثقافى من الحديث عن التاريخ.. فهل نحن أسرى التاريخ؟
- إن أحد دروس التاريخ الأكثر حزنًا هو أننا حينما نتعرّض للخداع لفترة كافية، فإننا نميل إلى رفض أى دليل على الخداع المذكور، ولم نعد مهتمين باكتشاف الحقيقة، لقد استحوذ علينا الخداع.
■ أصدرت رواية «أموات بغداد» التى تحكى قصة شبيهة بقصة «صناعة فرانكشتاين» وهى تيمة تكررت فى الأدب العراقى المعاصر بعد غزو العراق ٢٠٠٣.. فهل يمكن أن يُنظر إلى الشخصية المجمعة من أجزاء الجثث على أنها تمثل محاولة لإعادة بناء الهوية العراقية بعد سنوات من الصراع؟ أم العكس تدل على التفكك والتشوه والتشرذم؟
- روايتى «أموات بغداد» صدرت عن دار الفارابى عام ٢٠٠٨، وكانت الأولى فى هذا السياق، وهى الأصل وما كتب من روايات بعدها تقليد. وهى ليست شبيهة بـ«صناعة فرانكشتاين» أبدًا، لأنها تستند إلى قضية فلسفية عميقة، مرتبطة بتخليق كائن جديد، على المستوى الجينى والأخلاقى. واستمرت مهمته فى الأجزاء التى تلت هذه الرواية فى «رسائل أمارجى» و«حبّة بغداد».
■ كيف صنعت هذا الكائن؟
- بتخليق البروتين، وتغيير نظام الروامز على «الرنا المرسل» ليحظى بـ«جناس الأول» معوضًا البروتين بالأنتروبيا لتتطابق مع أنواع البروتينات الناتجة عن كل جسد، مع تجنّب الخلايا الجديدة كل الفيروسات التى كان التاريخ يتمتع بنقلها عبر الأجيال، وإذا كان العراقى العادى يحمل فى حمضه النووى بروتينًا واحدًا فى الظروف الاعتيادية، فقد حمل كائن «أموات بغداد» الذى تم تخليقه من بقايا أجساد القتلى، واخترت من كل منطقة عضوًا فى الجسم، ليصبح الجسد العراقى الشامل حاملًا ثلاثة بروتينات تحت اسم: الفسيفساء.
الجينات الفسيفسائية التى صنـّعتها فى جسد العراقى المنتظر لها خاصية الدفاع المناعى ضد مليارات من الأضداد المختلفة، فيما كان العراقى بالكاد يفعلها مع بضعة ملايين، وسيمتلك سيلًا من المعلومات اللازمة لصنع الإنزيمات التى تجعل من الجزيئات المغيـّبة من الجسد العراقى بمنظومة تغذية متشابكة. الكل يتفاعل مع الكل. وبذلك سيظفر هذا الجسد بأول خلية تقود نفسها بنفسها مهما كانت المؤثرات الخارجية عليها فظيعة القوة، وستفلح بالتسيير الذاتى وستستعمل طاقتها بشكل بنـّاء بفضل الاستتباب والاستقرار الذى يجعل تكامل عناصر هذا الكائن ممكنًا، وتماسك بنيته سيجعل إنجازه لمهامه مؤكدًا.
منذ أن خلق الإنسان كانت خلاياه تتكاثر لتضمد الجراح ولأنها صارت صماء، فالورم استفحل بفقدان عملية تنظيم الندوب، أما الآن فالخلايا ستتكاثر لتبنى فقط على المستوى الخلوى والجزيئى، وستندمج لتتيح لإنسان هذا البلد الانسجام مع نفسه وبيئته ليتطور وينطلق مصارعًا الجراثيم والفيروسات الضارة وكل الأضداد بلا هوادة. ويميز جسدنا أن خلاياه المتحركة الرابطة منها والإبثيلية على السواء، ستمنحه دماغًا وغددًا مدهشة، وإطار الأعضاء قوى ومتين وكائن فى كل مكان فى الجسد على عكس وجوده فى أجسام منفصلة. كل الأعضاء المختلفة الأجساد حين اتحدت فى جسد واحد صارت مرنة وتؤدى وظائفها أفضل بمئات المرات، وهذه حالة نادرة لجسد إنسان، وتتغير بشكل فعال إبان دورة الحياة فى العناصر القابضة فى عضلات القلب والمخ والأوعية والجهاز الهضمى والحركى والتنفسى. والأهم أن الخلايا الثابتة المؤسسة للأخلاق والضمير حيوية كما لم يحصل ذلك على الإطلاق فى تاريخ الجنس العراقى، لا توجد فى خلايا الضمير جراثيم أو بقع ميتة أو مبادة تمامًا كما كان يحصل، إنها واضحة ومميزة ونـَضـرة وتنمو مع القلب وتستجيب لبنيان الجسد وكيمياء الأخلاق.
■ هل هذا هو البعد الفلسفى الذى تحدثت عنه فى هذا الكائن؟
- نعم. هذه رؤيتى للإنسان المثالى.. فالموضوع ليس تجميع أشلاء، كما فعلت الروايات التى قلّدت «أموات بغداد» بطريقة ساذجة وسطحية ومن دون علم، وأخذت الفكرة بطريقة القصّ واللصق.
■ هل تقصد أن هناك روايات قلدت «أموات بغداد»؟
- تعرّضت روايتى «أموات بغداد» إلى عدد لا يحصى من الانتحالات والسّرقات المباشرة، ارتكبها روائيون مخضرمون ومبتدئون على السواء، وبأساليب وطرائق شتّى كان بعضها استنساخًا واضحًا، ابتداءً من الموضوع «ثيمة العمل التى ارتكزت عليها الرواية» وحتى خاتمة الرواية، وإذا تنبّه القارئ الفطن إلى تلك الأعمال المقلدة لتيقّن حتما أنّها سرقة اتباعيّة، استنساخيّة لجميع العناصر التى تكوّنت منها «أموات بغداد»، حتى الأسلوبية الفريدة التى يرى النّقد الحديث أنّها سمة يتميز بها كاتب عن كاتب آخر.
وطالت الأيدى استنساخ الوصف وبناء الحوارات وطريقة سرد التفاصيل والتكثيف فى النص والإيحاء والكشف والشمولية والتّنوع وآليات الهدم والبناء لأفق توقع المتلقى، حتى نَقَلَ بعضهم صفات أبطال «أموات بغداد» وألصقوها بأبطالهم بطريقة لا تخفى على كلّ ذى نظر، إضافة إلى استنساخهم جُملًا وعبارات بعينها، كذلك فى تعدد هويات الأبطال وانتماءاتهم وتحركاتهم ورؤاهم، هذه الفكرة التى تميزت بها «أموات بغداد» ولم تسلم أيضًا من السرقة، كما لم يسلم العنوان من الغصب والاهتدام، فضلًا عن المقدمة التى استفتحت بالحديث عن البطل المثقف العالم المتعدد فى الاختصاصات، كما نلاحظ فى الأعمال التى جعلت من الرواية هذه نموذجًا تتعرض له بالاستنساخ والتحويل المتكرر، خاصة فيما يتعلق بالبطل والمهمة التى أنيطت به وتحركاته، إذ استُنسِخَت بحذافيرها.
■ كيف ترى العلاقة بين الثقافة والسياسة؟ وكيف يمكن أن يؤثر التفاعل بينهما على المشهد الثقافى؟
- لا يوجد لدينا «مشهد ثقافى» أصلًا.. هذه مجرد أوصاف صحفية اخترعها الصحفيون ونقاد المقاهى و«الفيسبوك».
إن المثقفين الحقيقيين باعتقادى هُم الأشخاص الأحرار فى قناعاتهم، الذين لا يعتمدون على ضغوط اقتصادية أو حزبية أو حكومية، ولا يخضعون لالتزامات أيديولوجية.