الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مؤرخ القاهرة رفاييل كورماك: «كباريهات عمادالدين» أكثر حيوية من المسرح الجاد

الباحث والمؤرخ البريطانى
الباحث والمؤرخ البريطانى رفاييل كورماك

- العشرينيات أكثر فترة ثورية وإبداعية عاشتها العاصمة فى مختلف أشكال الفن

- أشعر أننى سأظل أكتب عن العاصمة المصرية حتى آخر عمرى

- «منتصف ليل القاهرة» يطرح وجهة نظر نساء المسرح والسينما والرقص

- مجلة «روزاليوسف» ومذكرات أم كلثوم وبديعة مصابنى أبرز مصادرى

وكأن الزمن قد عاد به إلى عشرينيات القرن الماضى حيث القاهرة، وتحديدًا وسط المدينة، تفوح منها روائح السحر والأناقة، وتبرز فيها مظاهر الحداثة واختلاط الطبقات والفنون الشعبية والاستعراضية فى أبهى صورها وتجلياتها الجمالية والإبداعية. 

إنه الباحث والمؤرخ البريطانى رفاييل كورماك، مؤلف الكتاب الاستثنائى «منتصف الليل فى القاهرة» الذى يمثل بانوراما جمالية لاستعراض تاريخ العاصمة فى فترة حساسة من عمرها وهى العشرينيات، حيث ثورة 1919 وتأثيراتها السياسية، وحيث الكازينوهات والنوادى الليلية التى كانت مسرحًا مفتوحًا لفن الرقص والغناء الشعبى فى أزهى عصوره.

وليس هذا هو الكتاب الوحيد لـ«رفاييل»، فقد سبق وأصدر أيضًا «كتاب القاهرة» الذى يتحدث عن العاصمة بعد ثورة 25 يناير، وهو أيضًا يستعد لإصدار كتاب آخر عن العاصمة فى فترتى العشرينيات والثلاثينيات لكن فى سياقات مختلفة، بل يعترف بأنه سيظل يكتب عن القاهرة حتى آخر يوم فى حياته.

عن القاهرة ومؤلفاته عنها، وعن أحوالها ومظاهر السحر والجمال فيها، أجرت «حرف» مع رفاييل كورماك الحوار التالى.

■ تاريخ القاهرة فى العشرينيات ملىء بالسحر والجمال.. ما الذى ألهمك تحديدًا لتأليف كتابك؟

- خطرت لى الفكرة لأول مرة عندما كنت أعيش فى وسط مدينة القاهرة وأجرى بحثًا لرسالة الدكتوراه، وكانت عن «ترجمات وتعديلات المسرحية التراجيدية أوديب ملكًا لسوفوكليس فى مصر الحديثة»، وبينما كنت أدرس تاريخ المسرح المصرى فى القرن العشرين، اكتشفت عالم الكباريه والرقص والغناء والمسرح الاستعراضى فى شارع عماد الدين، ووجدته أكثر حيوية وإثارة من عالم المسرح الفنى الجاد.

واتفقت مع ما قال الأكاديمى زياد فهمى: «هذا العالم ذو تأثير أكبر وأكثر شعبية من عالم الثقافة الرفيعة مثل المسرح اليونانى القديم». وكلما كنت أقرأ المزيد عن هذا العالم ونجومه أنبهر. كانت فترة ثورية وإبداعية فى مختلف أشكال الفن. وشعرت بأهمية تناولها بجانب تناول سير باريس وبرلين فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. 

■ الفترة التاريخية المتناولة بعيدة وهى منذ ١٠٠ عام تقريبًا.. فكيف جمعت المعلومات عن الشخصيات التى كتبت عنها؟ وما هى التحديات التى واجهتك؟ وهل التقيت عائلات هؤلاء الفنانين؟

- استغرق البحث فى الكتاب وقتًا طويلًا ولكنه كان وقتًا فى غاية المتعة، واعتمدت مصدرين رئيسيين، أولًا: مجلات العشرينيات والثلاثينيات مثل المسرح، ومجلة «روزاليوسف» التى أنشأتها إحدى السيدات التى يحكى الكتاب قصتها، وقضيت وقتًا طويلًا فى قراءة صفحات الترفيه وأحداث الحياة الليلية فى هذه المجلات، وبحثت عن القصص المشوقة، وأحيانًا كنت أسهر حتى الصباح لأقرأ وأغوص فى ثقافة العشرينيات.

ثانيًا: عدد المذكرات الكبير مما كتبه الممثلون والمغنون والراقصون فى تلك الفترة، بما فيها مذكرات النساء اللاتى وردت قصصهن فى الكتاب، كفاطمة رشدى، وروز اليوسف، وأم كلثوم، وبديعة مصابنى، وأشخاص آخرين عرفوهن كيوسف وهبى وبديع خيرى وزكى طليمات، إلخ.

كانت الصعوبة الأساسية فى العمل بهذه المصادر هى محاولة تقييم مدى موثوقيتها وصدقها. وفى الواقع تضمنت جميع قصص هذه الفترة بعض المبالغات. فهؤلاء الأشخاص يعملون بالتمثيل، وحيواتهم الحقيقية كانت عبارة عن عروض تمثيلية أشبه بأعمالهم المسرحية. وهنا أردت تحقيق التوازن بين الصدق التام والانجذاب لروح العصر. 

فى النهاية، قررت أن أحكى قصصًا ربما عرفها الناس فى العشرينيات والثلاثينيات عن أولئك النجوم، حتى لو كانت أحيانًا غير قابلة للتصديق إلى حد ما. ومع ذلك، أردت تجنب إعادة سرد الأساطير التى رويت لاحقًا، والتى لم يكن الفنانون أنفسهم على علم بها. وتأكدت من قصص كتابى من صحافة تلك الفترة، أو من المذكرات المنشورة لأشخاص كانوا على قيد الحياة فى ذلك الوقت. 

■ كيف أثرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى مصر خلال العشرينيات على حياة هؤلاء الفنانات؟

- ذات مرة قالت أم كلثوم إن الفن والسياسة ليسا شيئًا واحدًا ولكنهما أخوة. وكان الترفيه الشعبى فى مصر أمرًا سياسيًا جدًا لعدة أسباب، فأنا أزعم فى كتابى أن الحياة الليلية فى شارع عماد الدين كانت صنيعة ثورة ١٩١٩ والنشوة الوطنية التى أعقبتها، والشعور بالإمكانات الجديدة. وحاول الفنانون فهم ما يعنيه أن تكون مصريًا فى بلد مستقل، وحاولوا صنع فن مصرى مستقل. وهذا الشعور حدد طبيعة الإنتاج أكثر من أى شىء آخر.

■ لماذا اقتصر الكتاب على حياة الفنانات؟ وبماذا تفيد تلك الحكايات الأجيال الجديدة؟

- لا يقتصر الكتاب على قصص النساء، بل يحكى عن العديد من الفنانين الرجال المهمين فى ذاك العصر، مثل نجيب الريحانى، وعزيز عيد، ويوسف وهبى. لكن الكتاب يُسرد من وجهة نظر الفنانات، لأسباب عدة، فلطالما أخبرنا المؤرخون عن صعوبة العثور على قصص النساء قبل ١٠٠ عام، فهذه القصص إما هامشية أو منسية. لكن فى مجال الترفيه كانت قصص النساء دائمًا فى مركز الصدارة، ومن المستحيل فهم المسرح المصرى دون النساء. وأعتقد أن قصة الحركة النسائية فى العشرينيات، كدخول المرأة تدريجيًا سوق العمل، وبالتأكيد زيادة الظهور العام للنساء، كانت دلالة على التغيّر السريع الذى يحدث فى مصر وعلى امتلاكها رؤى جديدة. وأردت من خلال كتابة هذا الكتاب من وجهة نظر أشهر نساء المسرح والسينما والغناء والرقص فى العشرينيات، أن أحلل التغيّرات السريعة فى تلك الفترة. ولم يكن الغرض كتابة قصة إيجابية غير واقعية. وبالأحرى أردت الاستفسار عن تجربة كل فنانة فى ذاك العصر، خيرها وشرها، فرصها ومخاطرها. كانت حياة هؤلاء النساء صعبة فى كثير من الأحيان، لكنهن استخدمن ما يمتلكن من قوة للتعريف بأنفسهن ولضمان أننا نتذكر أسماءهن اليوم.

■ ما تأثير تلك الفترة الزمنية على تشكيل هوية القاهرة الثقافية؟

- بعض النساء فى هذا الكتاب، مثل أم كلثوم، يظل من عمالقة الثقافة المصرية بلا منازع. وأخريات مثل عزيزة أمير ومنيرة المهدية وفاطمة رشدى، صرن أقل شهرة حاليًا، إلا أنهن جميعًا ساهمن فى تشكيل الهوية الثقافية ليس للقاهرة فحسب بل للعالم العربى كله. فقد لعبت عزيزة أمير دورًا فعالًا فى بداية صناعة السينما المصرية. وبإمكاننا رؤية أصدائها فى الموسيقى والمسرح حتى يومنا هذا.

■ يحاول الكثير من الأدباء ودور النشر المصرية تنفيذ حركة ترجمة عكسية، أى من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، وأنت حققت ذلك فى إصدارك «كتاب القاهرة» وترجمت عدة قصص مصرية إلى الإنجليزية.. كيف اخترت الأعمال المترجمة؟ ولماذا هى تحديدًا؟

- كان تحرير «كتاب القاهرة» فرصة رائعة، وكانت عملية إيجاد القصص شاقة ولكنها ليست معقدة جدًا. كنت أعرف بعض المؤلفين الذين أردت ضمهم، وطلبت توصيات من آخرين، وذهبت للمكتبات والناشرين فى القاهرة وحصلت على مجموعاتهم القصصية الأخيرة وقرأتها. أردت معرفة الشعور العام فى مصر للسنوات التالية لعام ٢٠١١ من خلال القصص القصيرة. وبعد قراءات كثيرة اخترت ١٠ قصص ووجدت لها مترجمين.

■ كيف كانت تجربة العمل مع الكتاب المختلفين؟ وكيف تم التنسيق بينهم؟

- كان التنسيق بين الكتاب والمترجمين ممتعا جدًا، فجميع القصص كانت بالفعل مكتوبة، لذا لم نضطر لانتظار إنهاء الكتّاب قصصهم. وسعدت بتقديم كل هؤلاء الكُتّاب الجدد، أى ممن لم تنشر أعمالهم باللغة الإنجليزية من قبل، إلى القارئ المتحدث بالإنجليزية. 

■ أى القصص أكثر أهمية؟

- لا توجد فى الكتاب قصة أكثر أهمية من أخرى. فلم يكن الأمر متعلقًا بالحصول على أفضل القصص رغم أن القصص ممتازة، ولم يكن الأمر محاولة لصناعة دليل سياحى للقاهرة.

و«كتاب القاهرة» كان محاولة لوصف الشعور بالوجود فى قاهرة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين من وجهات نظر مختلفة.

وهناك قصص تُروى وسط فوضى حركة المرور بالمدينة الشهيرة عالميًا، وقصص تُروى جميعها من «بلكونة» واحدةو وهناك قصص تُروى فى أحياء الطبقة العاملة بوسط القاهرة وفى الضواحى الجديدة.

■ كيف استقبل النقاد الكتاب خاصة أن قصصه تحكى عن فترة دقيقة من تاريخ مصر المعاصر بعد ثورة ٢٥ يناير؟

- كان استقبالهم جيدًا، ولكنى تمنيت المزيد. من الصعب هذه الأيام بيع قصص عن العالم العربى للناس فى الغرب إلا إذا كانت عن الحرب أو الإرهاب أو أى كارثة سياسية أخرى. وحاولت من خلال «كتاب القاهرة» و«منتصف الليل فى القاهرة» أن أظهر للناس أن العالم العربى يتمتع بمشهد ثقافى غنى ونابض بالحياة، وهو أمر قد يثير اهتمامهم للغاية. فلا أظن أن الغرب يريد فقط سماع الأخبار السيئة عن العالم العربى، ولكن هذا ما يصل إليهم غالبًا. أنا ممتن لناشرىّ فى المملكة المتحدة، Comma Press وSaqi Books . وناشرىّ فى أمريكا، W.W. ونورتون، لأنهم يغتنمون الفرصة لنشر مثل هذه الكتب، وأنا متأكد من أنها ستثبت استحقاقها لكل هذا العناء على المدى الطويل.

■ ما رؤيتك لتأثير الأدب المصرى الحديث على الأدب العربى والعالمى؟

- لدىّ فلسفة مفادها أن كل الآداب والثقافات متصلة ببعضها، حتى مع محاولة الحدود السياسية الفصل بينهم.

فى «منتصف الليل فى القاهرة» سنرى كيف أن صناعة الترفيه المصرية مرتبطة بالترفيه الأمريكى والأوروبى بشتى الطرق الغريبة وغير المتوقعة. كلاهما يتأثر ببعضهما، وخلق هذه الصناعة غير مقتصر على أحدهما دون الآخر. كانت جميعًا جزءًا من مشهد عالمى، لا يمكن لجزء منه أن يوجد من دون الأجزاء الأخرى. هذه نظرتى للثقافة والأدب فى عشرينيات القرن الماضى وعشرينيات القرن الحالى. 

■ هل أثرت خلفيتك الأكاديمية على كتابة هذين العملين؟

- لقد تدربت أكاديميًا ولوقت طويل على اللغات اللاتينية واليونانية القديمة والعربية، وكذلك فى دراسات الشرق الأوسط، رغم أننى لا أحب هذه التسمية، ومع ذلك أجد أن بعض الكتابات الأكاديمية مملة وتفتقر إلى نوع معين من الحيوية. لكنى أتأثر فى كتاباتى بالخيال وبالأنواع الأخرى من الكتابة السردية بقدر تأثرى بالكتابة الأكاديمية. ومع ذلك، أتمنى دائمًا تطبيق معايير البحث والدقة التى هى أساس الدراسة الأكاديمية. فى كتاب «منتصف الليل فى القاهرة» أردت أن أكتب كتابًا بمعايير أكاديمية يجذب جمهورًا أكبر.

■ ألا تتعلق أعمالك المستقبلية بمصر أيضًا؟

- أعتقد أننى سأظل أعمل على مصر فى عشرينيات القرن الماضى معظم حياتى بطريقة أو بأخرى. كتابى الأخير الذى انتهيت منه للتو يحكى عن فنانى الخوارق والمنومين المغناطيسيين والسحرة فى جميع أنحاء العالم، ويتناول مصر قليلًا، ولكنه يتناول أيضًا فلسطين ولبنان وفرنسا وإنجلترا وأمريكا. 

الآن، بعد أن انتهيت من هذا الكتاب، أبدأ مشروعًا آخر متعلقًا بمصر فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين مرة أخرى، ولكنه لا يزال فى البداية.

■ الجميع يترقب صدور الترجمة العربية للكتاب.. هل أنت متحمس إلى هذه الخطوة؟

- أنا سعيد وفخور للغاية بإصدار «منتصف الليل فى القاهرة» باللغة العربية، ومن غير الترجمة العربية كان الإصدار مجرد نصف كتاب، وأنا ممتن جدًا لدار النشر الرائعة «الكتب خان» لاهتمامها بالكتاب، ولعلاء الدين محمود لترجمته. ولدىّ فضول لمعرفة رأى القارئ العربى فيه، وآمل أن يجد القراء فيه مرجعًا تاريخيًا مثيرًا للاهتمام عن هذه الفترة، وآمل أن يشجع الكتاب الناس على الكتابة أكثر عن تلك الفترة، وربما يختلفون مع ما كتبته. ولا يزال هناك الكثير من البحث لا بد وأن أؤديه.