الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هيكل.. الشعر والموسيقى والغناء وأشياء أخرى

هيكل
هيكل

- فى حوار منشور وغير منتشر أجراه معه أحمد بهاء الدين وعلى سالم وفهمى هويدى ورتيبة الحفنى

- كل واحد مهتم بالسياسة فى مصر يجب أن يقرأ الكتب جيدًا بل إن أى «جورنالجى» مصرى يجب أن يستوعبها جيدًا

- تأتينى كتب من الخارج لا أول لها ولا آخر على مدار العام بعضها أتلقاه من الناشرين الذين أتعامل معهم فى لندن

- مكرم باشا كان رجلًا بليغًا ينحت كلمات ولا ينحت أفكارًا

- أخاف فعلًا من الكتابة اليومية ولا أظن أننى أستطيع أن أقدم كل يوم فكرة جديدة للقارئ

قبل ما يقرب من أربعين عامًا، وتحديدًا فى يوليو 1986، نشرت مجلة أكتوبر حوارًا مطولًا أجراه أربعة من كبار الكتاب مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الكتاب كانوا أحمد بهاء الدين وعلى سالم وفهمى هويدى ورتيبة الحفنى.

لم يكن الحوار خاصًا بمجلة أكتوبر التى كان يرأس تحريرها خلال هذه الفترة الكاتب الصحفى الكبير صلاح منتصر، ولكنها نشرته نقلًا عن مجلة «القبس الكويتية» التى كانت قد كلفت الأربعة الكبار بإجراء الحوار. 

تركت مجلة «القبس» للكتاب الكبار حرية اختيار الموضوعات التى يحاورون هيكل فيها، ورغم أنه يغلب عليهم الاهتمام بالسياسة من مداخل مختلفة، فإنهم اختاروا أن يكون الحوار عن الثقافة والفن والتاريخ، وكان هيكل الكاتب الموسوعى جاهزًا، بل مفاجئًا ليس بمعلوماته وذكرياته فى الفن والثقافة فقط، ولكنه بقدرته على رسم صورة متكاملة لسياق ربط فيه بين السياسة والثقافة. 

استضاف هيكل الكتاب الأربعة فى بيته فى الجيزة، وترك لهم حرية طرح الأسئلة. 

فى الحقيقة لم يكن هذا حوارًا تقليديًا، يتلقى فيه هيكل الأسئلة ليجيب عنها، لكننا يمكن اعتباره محاورة ثقافية فلسفية، فالمحاورون على درجة كبيرة من الفهم والثقافة والخبرة الحياتية، ولذلك كانوا يطرحون الأفكار التى كان هيكل يتفاعل معها، ولذلك فإن الأسئلة فى هذا الحوار قليلة بالنسبة للأفكار المطروحة. 

كانت مساهمة الدكتورة رتيبة الحفنى هى الأكثر، فقد تداخلت فى الحوار 11 مرة، لكن مداخلات أحمد بهاء الدين الذى تحدث 8 مرات كانت الأعمق والأشمل، وبينما تداخل كل من فهمى هويدى وعلى سالم فى الحوار 7 مرات لكل منهما، إلا أنهما أسهما فى توجيه الحوار إلى مناطق مختلفة ومتنوعة. 

بدأ الحوار بسؤال من على سالم الذى قال لهيكل: نريد أن نتكلم معك خارج السياسة.. هل هذا ممكن؟ فأجاب هيكل دون تردد: موافق.. إذا كان هذا ممكنًا. 

لم يكن لاستدراك هيكل معنى.. فقد كان جاهزًا.. لكن كانت هذه طريقة هيكل الذى كان يمنح نفسه طوال الوقت خط رجعة. 

لا توجد لدى تعليقات على ما جرى، فالحوار بنصه يمكننا أن نعتبره وثيقة تاريخية منشورة لكنها غير منتشرة ولا معروفة فى تراث الأستاذ هيكل، الذى يبدو أنه يظل طويلًا يمدنا بالمفاجآت والصدمات أيضًا. 

الآن يمكننا أن نقرأ نص الحوار معًا: 

أحفظ حوالى عشرة آلاف بيت من الشعر أرددها باستمرار كلما أمكن وبعض الناس يرددون الأغانى فى الحمام لكننى أردد أبيات الشعر

فهمى هويدى: الكل يعرف علاقتك بالكتابة السياسية وما يتصل بها من قراءات، ولكن لا أحد يعرف شيئًا عن علاقتك بالأدب والفن. 

هيكل: من حيث المبدأ أتصور أن كل واحد يمكن أن يتقن وسيلة واحدة فى التعبير عن نفسه، وأخاف جدًا من تعدد وسائل التعبير، لأن ذلك قد يؤدى إلى أن يمارس الواحد أشياء عديدة، فلا يجيد أيًا منها، من ناحية أخرى فأنا عندما أكون صحفيًا مهتمًا بالسياسة مثلًا، وأخاطب الناس من هذه الزاوية ثم يجدوننى أخاطبهم بصورة أخرى ومن زاوية ثانية، فإن ذلك لا بد أن يؤدى إلى اختلاط الأوراق، بمعنى أن تعدد وسائل التعبير التى يمارسها الفرد لا يؤدى إلى إرباكه وحده، ولكنه يؤدى إلى إرباك الناس معه أيضًا. 

فهمى هويدى: لا أقصد الكتابة بالتحديد، لكن أتحدث عن القراءة، هل تتسع اهتماماتك للقراءة فى الأدب مثلًا؟ 

هيكل: من حيث المبدأ أنا كنت مضطرًا لأن أضحى باقتطاع قراءات معينة من حياتى، لكى أركز على الجوانب التى أعالجها فى كتاباتى، وللأسف فقد كانت القراءات الأدبية فى مقدمة ما اضطررت إلى التضحية به، لكننى لم أنقطع عنها تمامًا. 

فمثلًا عندما طرد الأديب السوفيتى «سولجستين» من الاتحاد السوفيتى سارعت إلى قراءة إنتاجه، وإن لم أجد فيه العبقرية الفذة التى حاول الغرب إضفاءها عليه بعد منحه جائزة نوبل، لقد حاولت أن أقرأه باعتباره أدبًا، لكن تبين لى للأسف أنه أيضًا سياسة. 

أنا أقرأ فى التاريخ كثيرًا، فى المذكرات والسير، ولا أظن أن هذه مجالات منفصلة عن الأدب، فضلًا عن أن هناك كتابات هى خليط من التاريخ والأدب فى الوقت ذاته، هناك ثلاثة كتب فى التاريخ المصرى لا بد أن أعود إليها كل صيف، وهى لثلاثة من مشاهير المؤرخين فى مصر، هم: ابن تغرى بردى، وابن إياس، والجبرتى. 

أحمد بهاء الدين: هذه سياسة أيضًا. 

هيكل: فعلًا، هذا صحيح، فكل واحد مهتم بالسياسة فى مصر يجب أن يقرأ الكتب جيدًا، بل إن أى «جورنالجى» مصرى يجب أن يستوعبها جيدًا، أنا لا أنكر أننى شديد الاهتمام بالعصر المملوكى، لظنى أنه أثر كثيرًا فى روح مصر وموروثاتها، بل أظن أن هناك ظواهر مهمة فى الحياة العصرية يتعذر تفسيرها وفهمها دون الرجوع إلى مناخ العصر المملوكى وقيمه. 

خذ مسألة التواصل- على سبيل المثال - هل كانت منعدمة فى ذلك العصر، لأن كل مملوك لم يكن معنيًا لا بالذى قبله ولا بالذى بعده، فقد كان على يقين من أنه لن يكون له امتداد من أى نوع، فكما أنه جاء من المجهول وانتزع السلطة واحتكر السلطان، فإن غيره سيفعل معه الشىء نفسه، سيظهر من ينتزع السلطة منه فور مماته أو حتى فى حياته، ويبدأ عهدًا جديدًا، هذا المنطق المملوكى- وهو مجرد مثال- نستطيع أن نفسر به ظواهر كثيرة لاحقة فى الحياة المصرية، لكننى أقول إن تلك الكتب ليست سياسية كلها، وإن بدت تاريخية، إلا أنها ليست منقطعة الصلة بالأدب، وأظن أن مثل تلك النوعية من الكتب عديدة فى التراث، الذى بين أيدينا، منها على سبيل المثال «ألف ليلة وليلة» و«الأغانى» للأصفهانى، وغيرها كثير مما نقرأه، فلا نعرف أين ينتهى الأدب وأين ينتهى التاريخ. 

فهمى هويدى: هل هناك كتب غير عربية ترجع إليها بالطريقة نفسها؟ 

هيكل: أنا تأتينى كتب من الخارج لا أول لها ولا آخر على مدار العام، بعضها أنا أطلبه من واقع قراءاتى عنها فى الصحف والمجلات، والبعض الآخر أتلقاه من الناشرين الذين أتعامل معهم فى لندن، وذلك جزء من اتفاقى معهم، وهذه الكتب صنفان، واحد يهمنى فى العمل والآخر يهمنى فى القراءة، كتب العمل أحتفظ بها فى بيتى هنا «فى الجيزة»، أما الكتب الأخرى فأحولها إلى برقاش أولًا بأول، أحيانًا لا أقاوم الكتاب فاقرؤه ثم أرسله، وأحيانًا أمر به سريعًا ثم أبقيه هنا على أمل قراءته فى إجازة نهاية الأسبوع أو فى أوقات الخروج من دوامة العمل اليومية. 

قبل أيام مثلًا رجعت إلى كتب الثورة الفرنسية لأن هناك نقاطًا معينة أردت أن أستوفيها، كل الكتب المهمة التى عندى أرجع إليها بين الحين والآخر، لأن الكتاب إذا كان مهمًا فلا تستطيع أن تنفصل عنه، لا يمكن أن تقرأه وتلقيه جانبًا، وإنما تطالعه وتبقيه إلى جوارك لأنك لا بد أن ترجع إليه يومًا ما. 

على سالم: عندى نقطة تتعلق بعلاقة المعلومات بالمعرفة، هل تعتبر أن المعلومات الصحيحة تؤدى إلى معرفة حقيقية، أم أنه يمكن الوصول إلى موقف معرفى خاطئ رغم توافر المعلومات الصحيحة؟ 

جمال حمدان

هيكل: أعتقد أنه من الضرورى التفرقة بين العلم والمعلومات والمعرفة، وأنا أعتبر أنه من الضرورى أن تكون هناك أولًا قاعدة أساسية مبنية على قدر من العلم بالشىء وبحقائقه المجردة، وفوق قاعدة العلم هذه، تضاف المعرفة من خلال الاتصال المستمر بجوانب الموضوع، ثم تجىء المرحلة التى تتلاحق فيها المعلومات، والمشكلة تحدث عندما تتوافر معلومات ولا يتوافر الحد المطلوب من العلم. 

الأمريكان رواد فى هذا المجال، فهم أبرز من تبنى موقف إغفال التاريخ وغيره من الخلفيات التى تؤثر فى المواقف والمصائر، لكنها مما يصعب حسابه عبر العقل الإلكترونى على سبيل المثال، القاعدة الأساسية أن يتوافر أولًا العلم الحقيقى بأصول الموضوع، وهذا العلم أفضل عندى من مجرد تدفق المعلومات على فراغ، وفى عينه ذلك العلم. 

أحمد بهاء الدين: الدول الكبرى تكون لديها معلومات كثيرة، ولكن لعدم معرفتها بعنصر واحد، مثل التكوين النفسى لشعب ما، فإن تلك الدول تقع فى أخطاء كبيرة، «إيدن» فى حرب السويس مثلًا تصور أنه عندما يقصف بعض المدن المصرية ويلقى بعض المنشورات أو يوجه إنذارًا، فإن الشعب المصرى سوف ينقلب على حكومته، لم يدرك أن هذه التصرفات تؤدى إلى نتيجة معاكسة تمامًا، وقد تذكرت هذه القصة عندما كررها الأمريكان مؤخرًا مع الليبيين، عندما تصوروا أنهم إذا قصفوا قاعدة الصواريخ فى ليبيا، ولوحوا بحاملات الطائرات فإن الشعب الليبى سيثور على قيادته، هم ليسوا مدركين أن شعوبنا العربية لها تركيبة نفسية مختلفة عن الشعوب الأوروبية أو الأمريكية، يتصورون أننا إذا انهزمنا سنجلس حول المائدة ونوقع شروط التسليم، كما يفعلون هم ولكن ذلك غير مقبول على الإطلاق فى بلادنا، لكنهم لا يريدون أن يعرفوا تلك الحقيقة. 

رتيبة الحفنى: بمناسبة المعلومات أظن أن متابعتك لما يجرى فى العالم كانت أفضل عندما كنت فى الأهرام بإمكاناتها وقنوات اتصالها مع العالم. 

النحاس باشا

هيكل: الأمر ليس على هذه الصورة، فى الواقع فى الأهرام كنت أدير مصنعًا به ستة آلاف شخص، وهنا يعمل معى ستة أشخاص، منهم اثنان من الباحثين المساعدين، وبعدما تحول العالم إلى قرية صغيرة فى ظل ثورة الاتصالات لم تعد هناك مشكلة فى المعلومات، أنا أتصل يوميًا بمن أريد فى عواصم العالم، وأتابع ما يجرى من خلال ما أقوم به سنويًا من رحلات فى عواصم العالم المهمة، ألتقى خلالها أوسع دائرة ممكنة من المشتغلين بالسياسة والمهتمين بها، وفضلًا عن الأخبار العالمية التى أتابعها من خلال الوكالات والإذاعات، فإننى أتابع أيضًا أهم ما يصدر فى العالم من صحف ومجلات بالإنجليزية والفرنسية بوجه خاص، والباحثان المساعدان فى مكتبى يتولى كل منهما حفظ وتصنيف الأخبار والموضوعات التى يعرف أنها تهمنى، سواء أرشدتهما إلى ذلك أو لم أرشدهما، وهذه المعلومات تخزن فى «كمبيوتر» مكتبى، وفى الوقت ذاته فإنى مشترك فى عديد من مراكز المعلومات فى أوروبا وأمريكا، وإذا احتجت لأى معلومة فى أى موضوع فإننى أطلب من تلك المراكز ما أريد بالتليفون، الموضوع وعدد الكلمات، وبعد دقائق أتلفى ما أحتاج إليه على الكمبيوتر، الخمسة آلاف كلمة تنهمر فى نصف دقيقة، لم تعد هناك مشكلة لا فى المتابعة ولا فى الاتصال كما قلت. 

أحمد بهاء الدين: المشتغل بالسياسة أو بالهم العام فى مصر بالذات لا يستطيع أن يبقى معزولًا عما يجرى فى العالم العربى أو العالم الخارجى. 

هيكل: أعتقد أن موقع مصر له دوره الأساسى فى ذلك والدكتور جمال حمدان قد انتبه إلى هذا البعد البالغ التأثير فى الحياة المصرية عندما تحدث عن «عبقرية المكان» فى شخصية مصر، وأعتقد أن أهم ما ترتب على الموقع من نتائج يمكن قياسه بما جرى فى الحرب العالمية الثانية، فقد كانت مصر خلال تلك الحرب مسرحًا لتفاعلات أثرت فى تاريخها، وعندى قناعة أن ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت من آثار ذلك التفاعل والمخاض الذى عاشته مصر فى ظل فترة الحرب، البعض يظن أن نقطة التحول التى أثرت فى تفجير الثورة هى حادث ٤ فبراير، عندما حاصرت دبابات الاحتلال قصر عابدين وفرضت على الملك تعيين النحاس باشا رئيسًا للوزراء، أنا أتفق مع القائلين بأهمية الحدث وخطورته، لكننى أختلف معهم فى مدى الربط بينه وبين قيام ثورة ١٩٥٢. 

فى الحرب العالمية الثانية مر بمصر أربعة ملايين من جنود الحلفاء، واحتكوا بدرجة أو بأخرى بالواقع المصرى، ونقلوا إليه الكثير من الأفكار والثقافات والتيارات التى كان يموج بها العالم آنذاك شرقًا وغربًا، وأذكر أننى حضرت معركة فى شارع قصر العينى بالقاهرة بين فصيلين من المقاومة اليونانية، ونشرت القصة فى جريدة «إجيبشيان جازيت» التى كنت أعمل بها، بل إننا إذا تابعنا الأجانب الذين اجتمعوا فى مصر خلال تلك الفترة، ثم صاروا رموزًا مهمة فى الحياة الثقافية الأوروبية فيما بعد، فسنجد أن منهم عددًا لا بأس به، فقد كان «داريل» مصححًا فى الجازيت، وسنرى أن «جورج أوريل» عمل بالجازيت أيضًا، وسايف بارير وكيرميت روزفلت وسالزبرجر كانوا من الصحفيين الذين عملوا فى مصر فى تلك الفترة، هى مرحلة بالغة الخصوبة، تستحق الدراسة للتعرف على مجمل التيارات الفكرية والاقتصادية والأدبية التى وفدت على مصر خلال الحرب، بل أعتقد أن فى تاريخ مصر الحديث ثلاثة منعطفات حضارية مهمة أسهمت فى ربطها بالعالم، هى: الحملة الفرنسية على مصر، والدور الذى أداه القطن أثناء حكم الخديو إسماعيل، والحرب العالمية الثانية. 

أحمد بهاء الدين: التأثير كان مهمًا لأن مصر كانت معزولة فى تلك الفترة بسبب ظروف المواصلات، وربما لهذا السبب لجأ بعض المصريين إلى التوجه للبلاد العربية، ومنهم كثيرون كانوا يذهبون إلى فلسطين عبر خط السكة الحديد المباشر الذى كان يربط مصر بفلسطين. 

هيكل: أنا أذكر أن النحاس باشا والملكة نازلى من الذين كانوا يذهبون إلى فلسطين، مع غيرهم من السياسيين، وأذكر أننى دخلت المستعمرات الإسرائيلية قبل سنة ١٩٤٨ عندما ذهبت إلى هناك مع هيكل باشا، وكان الأدباء الفلسطينون يوجهون إليه الدعوة ويحتفلون به كثيرًا، وبالمناسبة فليست بيننا صلة قرابة لكنه مجرد تشابه أسماء، جر على وعليه مشاكل كثيرة مما جعلنا أصدقاء بالضرورة وهو الأديب والسياسى الكبير بينما كنت صحفيًا صغيرًا. 

الحكاية بدأت عندما كنت أكتب فى مجلة «آخر ساعة» وأوقع باسمى، وفى إحدى المرات اتصل صديق للباشا ليهنئه على ما يكتبه، لكنه نفى أنه كتب شيئا، وكلف سكرتيره بتحرى الأمر. 

عفاف راضي

وكان السكرتير هو سيد نوفل الذى أصبح أمينا مساعدا للجامعة العربية فيما بعد، نوفل دعانى لمقابلة الباشا واقترح على قبل الدخول أن أوقع باسم آخر، دخلت على الباشا، فاقترح على أن أوقع باسم هيكل الصغير، وقتئذ كان للأديب الشهير عبدالقادر المازنى ابن يوقع باسم المازنى الصغير وكانت كتاباته ناجحة، لكننى لم أتقبل الفكرة فاعترضت على رأى الباشا بأدب، وقلت له إننى إذا وقعت باسم هيكل الصغير، فقد يظن البعض أننى ابنه فعلًا، ويحسب كلامه عليه، فاقتنع وعدل عن الفكرة، ومنذ ذلك الحين بدأت علاقتنا تتوثق. 

وبسبب التشابه بين اسمينا أيضًا حدثت مشكلة عندما ذهبنا إلى مؤتمر بلودان سنة ١٩٤٦ مع صدقى باشا، وكان هيكل باشا من الذين سيحضرون المؤتمر، ولما ذهبت قبلهم كصحفى مهمته تغطية المؤتمر، نشرت الصحف خطأ أن هيكل باشا وصل، فانقلبت الدنيا من السفارة المصرية إلى الرئاسة السورية، حتى إن الفندق سارع بتغيير غرقتى ونقلنى إلى جناح يليق بمقام الباشا، وحضر إلى الفندق على الفور السفير المصرى فى دمشق والدكتور عبدالرازق السنهورى باشا لتحية الباشا الذى وصل فجأة دون أن يخبر أيًا منهما، لكنهما فوجئا بأن هيكل الذى وفد عليهما فى صالون الفندق ليس هو الباشا الذى قدم من أجله. 

أوضحت لهما اللبس، ثم ذهبنا جميعًا لاستقبال هيكل باشا فى المطار عندما عرفوا نبأ وصوله، ولما رآنى سألنى عن الأخبار، وقال: عسى ألا تكون هناك مشكلة، قلت له حصل.. ورويت القصة. 

فهمى هويدى: ابتعدنا عن علاقتك بالأدب، وهناك سؤال يتصل بالشعر الذى نعرف أنك تحفظه. 

هيكل: نعم، أنا أحفظ حوالى عشرة آلاف بيت من الشعر أرددها باستمرار كلما أمكن، ليس فقط من باب التذوق، ولكن لتقوية الذاكرة التى تضعف مع السن، وبعض الناس يرددون الأغانى فى الحمام، لكننى أردد أبيات الشعر، والصحفى ليس مصادر ومعلومات فقط، ولكنه ذاكرة أيضًا.. وعلى فكرة أنا فى يوم من الأيام حاولت أن أكون شاعرًا وكتبت شعرًا رديئًا. 

رتيبة الحفنى: هل نستطيع أن نسمع شيئًا من شعرك؟ 

هيكل: هى محاولات ساذجة فى أيام الصبا والمذاكرة وبنت الجيران، وأنا أذكر واقعة محددة قلت فيها شعرًا، لأنه سبب لى مشكلة، فقد كانت بنت الجيران تخرج إلى الشرفة لابسة ثيابًا سوداء، ويبدو أن أمها التى كانت تكره السواد ضغطت عليها فغيرت البنت ثوبها إلى اللون الأحمر، وفوجئت بها فى الشرفة مرتدية هذا الثوب، فسارعت إلى كتابة بيتين من ذلك الشعر الردىء قلت فيهما: ماذا بقلبك يا حسناء من وجد يضطرب/ أحال الفحمة السوداء إلى حمراء تلتهب. 

نقلت البيتين فى ورقة وناولتها لشخص كان يعمل فى بيتنا، وطلبت منه أن يوصلها إلى بنت الجيران، وذهب إلى بيتها فعلًا، لكنه أعطى الورقة إلى أمها، وجرى ما جرى، لكن لم أستمر فى كتابة الشعر، لحسن حظ الناس ولحسن حظى. 

على سالم: أفلاطون فى جمهوريته الفاضلة التى تمناها حرص على أن يكون رجل الدولة فى تلك الجمهورية من ذوى الذاكرة الحاضرة. 

عبدالناصر كان يحب الاستماع إلى أم كلثوم دائمًا وكثيرًا ما كنت أجده يستمع إلى شريط لها حتى وهو يعمل.. وكان أيضًا يحب صوت فيروز

هيكل: جزء كبير من الذاكرة القوية يعد ظاهرة ذكاء، فإذا قلنا إن الذكاء فى بعض أوجهه هو القدرة على الربط فى العلاقات بين الأشياء، فهذه عملية تلعب فيها الذاكرة دورًا كبيرًا، لكن السياسى فى زماننا لم يعد مضطرًا للاعتماد على الذاكرة، سواء بسبب حجم المعلومات الذى يفوق طاقة الاستيعاب البشرى، أو بسبب تطور وسائل حفظ المعلومات وتعميمها. 

أحمد بهاء الدين: بالمناسبة مَن مِن السياسيين الذين عرفتهم لهم علاقة بالثقافة؟ 

هيكل: فى الفترة الصحفية المبكرة من حياتنا كان واضحًا أن السياسة المصرية كانت ذات علاقة أحادية مع الثقافة، هيكل باشا كان نموذجًا فريدًا من السياسى المثقف والكاتب، محمود خليل كان كل اهتمامه بجمع المقتنيات الفنية، ولا بد أن يذكر له أنه ترك كل مقتنياته للبلد، شريف صبرى أيضًا كان مهتمًا بالاقتناء، اقتناء السجاد خصوصًا. 

رتيبة الحفنى: محمد عبدالوهاب يتحدث كثيرًا عن مكرم عبيد كأديب. 

هيكل: مكرم باشا كان رجلًا بليغًا، وكان ينحت كلمات، ولا ينحت أفكارًا، مثل: لنجعل من ماضينا قاضينا، وانقضوا أو انفضوا، ساعده على بلاغته أنه كان حافظًا للقرآن، لكن ذلك لم يكن يعنى بالضرورة أنه كان يتمتع بعمق ثقافى، البلاغة كانت مهمة للسياسة، وأكاد أقولها إنها كانت مهمة أيضًا للصحافة، فمنذ القرن الـ١٩ من أول ظهور الوقائع المصرية، كانت الصحافة عندنا والثقافة أيضًا قائمة على الترجمة، وبعد الثورة العرابية حتى الحرب العالمية الأولى، عشنا مرحلة لعبت الخطابة فيها دورًا مهمًا، وبعد الاستقلال قامت صحافة تعبر عن الطبقة التى تسلمت السلطة، وكانت ثرثرة الصالونات هى مادتها الأساسية. 

أحمد بهاء الدين: بعض الأدباء حاولوا العمل كصحفيين، مثل طه حسين والعقاد. 

هيكل: هذا صحيح، كان هناك وهم فى عصر المقالات أن الأديب الكبير يمكن أن يكون عنصرًا نجاحًا للجريدة أو المجلس، العقاد رأس تحرير روزاليوسف، لكن تجربته فشلت، لكننا لا يجب ألا ننسى دور رواد الصحافة، مثل الدكتور محمود عزمى، الذى كان هو وزوجته الروسية الأصل يحاولان القيام بدور ثقافى مهم عن طريق تبنى الشباب وتوجيههم. 

أحمد بهاء الدين: السياسى لا بد أن تكون له تذوقات فنية وأدبية جيدة أو رديئة، ولأنه يخاطب الجمهور فلا بد أن تكون له حاسة تذوق، فى ذهنى مثلًا تشرشل كشف فى مذكراته عن براعة فى فن الكتابة، وعمق فى المعرفة بالتاريخ، ديجول فى مذكراته كان له أسلوب متميز جدًا، ومن السياسيين البارعين فى الموسيقى إدوارد هيث فى إنجلترا، وهلموت شميث فى ألمانيا. 

رتيبة الحفنى: هيث له كتاب فى الموسيقى، ويقود الأوركسترا وقبله كان بادرسكى رئيس وزراء هولندا الذى كان نابغًا فى العزف على البيانو، وفريدريك الأكبر. 

هيكل: هناك على وجه التأكيد علاقة عضوية بين السياسى والفنان، فكل منهما إنسان يعيش على تقدير ورضا الآخرين، اهتماماته تتجاوز كثيرًا دائرة مصالحه الخاصة، لكنى أقول إنه فى العالم العربى، وبسبب ظروف كثيرة جدًا فإن العلاقة بين الثقافة والسياسة كانت ضعيفة أو واهية، لورد كولفيل الذى كان سكرتيرًا لتشرشل خلال الحرب العالمية الثانية نشر مذكراته مؤخرًا، وقال فيها إن الألمان أسقطوا لغمًا كبيرًا بجوار مقر رئاسة الوزراء فى «داوننج ستريت»، لكنه غاص فى الأرض، ولم تنجح محاولات إخراجه، فما كان من الخبراء إلا أن قرروا إخلاء المكان من الناس، حتى إذا انفجر اللغم لا تحدث خسائر فى الأرواح، ولما أبلغوا تشرشل بذلك، فإنه رغم دوامة الحرب وظروفها المعقدة سأل: ما الذى سيحدث للعصافير التى على الشجر إذا ما حدث الانفجار؟ 

أيضًا فإن تروتسكى روى فى مذكراته أنه أثناء النضال السرى ضد حكم القياصرة، أوفده رفاقه إلى لينين، الذى كان مقره فى لندن، حاملًا ملاحظاتهم على تصرفات المناضلين فى الخارج، ولما زاره فى بيته، دعاه لينين لكى يطلعه على الوجه الحقيقى للإمبراطورية البريطانية، وظن تروتسكى أن لينين سيذهب إلى مقر الملكة أو مجلس اللوردات أو قيادة جيوش الإمبراطورية، لكنه فوجئ بأن لينين اصطحبه إلى المتحف البريطانى، وقال له: هذه هى الإمبراطورية. 

رتيبة الحفنى: تعتقد أن السياسى محتاج إلى نوع من الصقل الفنى الذى يوفر له قدرًا من راحة الذهن يساعده على العطاء الأفضل؟ 

هيكل: أحيانًا يحدث خلط بين ما هو فنى، وما هو ترفيهى، وأكثر ما أخشاه أن يكون أكثر ما نراه فى العالم العربى الآن ينتمى إلى الترفيه والتسلية، بأكثر من انتمائه للفنون. 

أحمد بهاء الدين: أنت تعرف الكثير عن علاقة عبدالناصر بالفن. 

هيكل: عبدالناصر كان يحب الاستماع إلى أم كلثوم دائمًا، وكثيرًا ما كنت أدخل عليه وأجده يستمع إلى شريط لها، حتى وهو يعمل، هو أيضًا كان يحب صوت فيروز يعتبر أنها كانت ينبغى أن تظهر فى مصر، وأن ظهورها فى لبنان من قبيل أخطاء المصادفات، وظن فى وقت من الأوقات أن عفاف راضى يمكن أن تكون فيروز مصر. 

فى سنة ١٩٧٠ كنت وزيرًا للإعلام، وذهبت مع عبدالناصر فى رحلة عمل إلى موسكو، لكنى كنت مضطرًا للعودة سريعًا إلى القاهرة قبل انتهاء مدة زيارته، وقد ذهبت إليه لأستأذنه فى السفر، وتكلمنا فى أشياء كثيرة، وعندما هممت بالخروج من غرفته إذا به يستبقينى قائلًا إن هناك أمرًا مهمًا يريد أن يحدثنى فيه، ثم قال إن هناك مطربة اسمها عفاف راضى عندكم، قلت: عندنا فين؟، قال: فى الإذاعة، ثم سألنى عما إذا كنت أستمع إلى الراديو، قلت: لا، فقال لى إنه لا يعرف عفاف راضى، ولكنه سمعها مرتين أو ثلاثًا، وصوتها يذكره بصوت فيروز، ثم أضاف لو أن البيروقراطيين فى الإذاعة راعوها وأتاحوا لها فرصة الظهور يمكن يطلع منها فيروز تانية، عدت إلى القاهرة، تحدثت مع مدير الإذاعة فى الموضوع، وأظن أن الإذاعة شجعتها كثيرًا فى تلك الفترة.

فيروز

 

رتيبة الحفنى: هل لك علاقة بالموسيقى؟ 

هيكل: أنا مدين فى حبى للموسيقى العالمية لزوجة الدكتور محمود عزمى الروسية التى كانت تجمعنا فى بيته كل يوم خميس نتكلم ونتناقش، ثم نستمع إلى قطعة موسيقية، ما أتاح لى إمكانية تذوق تلك الموسيقى، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول متابعة الحفلات الموسيقية، حتى أصبحت أحضر مهرجان موتسارت فى سالزبورج كل سنة. 

رتيبة الحفنى: أنا أيضًا أذهب إليه كل سنة، ومع ذلك لم نلتق هناك. 

على سالم: التفسير واضح، الأستاذ هيكل يجلس فى الصف الأول، فلا تتمكنين من رؤيته. 

هيكل: بالعكس، الصف الأول لا يطاق، الصفوف التالية أفضل، والمهرجان يفقد طعمه بغير كاريان، الذى أراه كل سنة وأتصور- بسبب تقدم عمره- إن هذه ستكون المرة الأخيرة، آخر مرة كان هناك تألق، وفوجئت بأن اثنين حولى لم يستطيعا أن يحبسا دموعهما من شدة التأثر فبكيا، وكان الاثنان هما ابنى حسن، ومارجريت تاتشر التى تعطى الانطباع بأنها غير قابلة للبكاء. 

فهمى هويدى: لم تذكر شيئًا عن الموسيقى العربية.

هيكل: منذ مرحلة الطفولة والموسيقى العربية فى أعماقى، هناك نغم على وجه التحديد كنت أسمعه فى بلدتنا، إن مجموعة من المنشدين الذين كانوا يفدون إليها كل سنة فى مولد ولى اسمه «سيف» كانوا يقعدون على الجسر وينشدون كلامًا يذكرون فيه الخلفاء الراشدين، وما زلت إلى الآن أسمع أصواتهم وهم يرددون بنغم شجى عبارة «دول الأحبة الأربعة- دول الأربعة- دول الأربعة» ما زلت أحب التواشيح الدينية وأعتبرها الوعاء الباقى للنغم الشرقى الأصيل، أحب أيضًا الموشحات الأندلسية، ومن الأصوات التى تجذبنى وتعجبنى صوت سيد درويش، أحب أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فى مرحلة معينة، قبل الخلط الذى طرأ على الأنغام والأداء، وفى السجن كنت دائمًا أتذكر أغنية عبدالوهاب التى كتب كلماتها أحمد شوقى، وفيها يقول: الفجر شقشق ولاح على سواد الخميلة، أمثال تلك الأغانى فيها موسيقى شرقية حقيقية لها بناء وفيها روح بصرف النظر عن مسألة الطرب. 

رتيبة الحفنى: هل تستمع إلى الموسيقى الجديدة؟ 

هيكل: رأيى أن موسيقى «الروك» مثلًا موسيقى عصر بعيد، أولادى أحيانًا يسمعونها، ويسألوننى إن كنت أعتبرها همجية، لكنى أقول لهم إنها صرخة عصر مختلف، قد لا أكون قادرًا على استيعابه، ولكنى أحاول أن أفهمه، وأعترف بأننى عجزت عن ذلك، إلى الآن على الأقل. 

على سالم: هذه الموسيقى ليست فقط من عصر آخر، ولكنها أيضًا من مكان آخر؟ 

هيكل: فى العصر الحديث ليس هناك مكان آخر أنت عندك خصوصيتك لكنك تعيش فى كل مكان. 

على سالم: الموسيقى تاريخ وجغرافيا، سقراط قال إن الأساليب الغربية فى العزف توصل السفلة إلى الحكم على المدى البعيد، بينما رأى أفلاطون أنه عندما تتغير القوانين الأساسية فى الدولة، تتغير الأساليب الموسيقية. 

هيكل: ثقافة كل عصر لها علاقة بوسائل المواصلات فيه، ولا أتصور أن يكون هناك عصر يمكن أن يفرز موسيقى بمعزل عن الأصوات السائدة فيه، موسيقى الروك تعبير عن عصر السيارة والطيارة والنفاثة والصاروخ، والموسيقى الكلاسيك تعبر عن عصر الحصان والمركبة التى تتهادى وسط المروج والوديان، أفلاطون أثينا لو أخذته إلى نيويورك فسيفكر بطريقة مختلفة، والمشكلة بالنسبة لنا هى كيف نعيش العصر ونبقى على خصوصيتنا فى الوقت ذاته. 

على سالم: كثيرون عملوا موسيقاهم، اليونانيون، الهنود، الإيرانيون، البابليون، وما يحيرنى هو لماذا لم نستطع أن ننتج موسيقانا نحن إلى الآن؟ 

هيكل: الواقع أن النموذج الغربى لا يزال مسيطرًا علينا، وإلى الآن لا يزال بيننا من يناقش ما إذا كانت مصر بلدًا عربيًا أم أنها شىء متميز، يلتحق بدول البحر الأبيض التى هى امتداد لأوروبا، ثم إن مسيرة التاريخ المصرى حافلة بالمنعطفات الحادة والمثيرة، العصر المملوكى كان كارثة، كقاعدة طوال ٥٠٠ سنة تقريبًا كان يحكم هذا البلد مماليك لا يعرفون عنه شيئًا، حتى لغته، البرجوازية المصرية فتحت أعينها على الاحتلال الإنجليزى فقلدته وتقلت قيمه. 

الثورة اهتمت بالحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المباشرة، فى بداية الثورة وأثناء إحدى المناقشات طرحت اقتراحًا سبب لى مشكلة، كانت هناك عدة مشروعات لمجلس الإنتاج تتضمن بناء عدة مجمعات ومصانع ومنشآت بغير حصر، وكان اعتقادى أن هناك عدة منشآت ارتبطت بعصر الملك فؤاد، مثل جمعية فؤاد الأول للحشرات والتليفونات، هو طراز رومانى حقًا، لكنه أصبح علامة لعهد معين، وأننا لو صممنا المنشآت الجديدة بهذا الطراز نكون قد أعطينا تلك المرحلة قسمات معمارية متميزة، ولكن هذا الاقتراح عارضه جمال سالم بشدة، ولم يتصور أن تبنى الثورة فكرة لعثمان محرم باشا، الذى كان قد قدم للمحاكمة بعد الثورة مباشرة بتهمة الفساد السياسى. 

ورغم ذلك فإن الثورة حركت تيارات ثقافية وفكرية كبيرة فى مصر، وكان للدكتور ثروت عكاشة جهده البارز فى ذلك عندما كان وكيلًا للثقافة. 

رتيبة الحفنى: من الأمور المحزنة التى حدثت أننا غيرنا السلام الوطنى بعد الثورة مرتين، وأنه ارتبط بالسياسة بصورة غير مبررة، فى العالم المتحضر لا يحدث ذلك، موسيقى ألمانيا فوق الجميع كانت سلامًا وطنيًا لألمانيا أيام هتلر وبعده، لماذا ألغينا نحن السلام الذى وضعه هايدن، ثم استبدلناه بموسيقى نشيد «والله زمان يا سلاحى» وبعد وفاة عبدالناصر استبدلناه بموسيقى نشيد بلادى بلادى؟ 

هيكل: أنا أفسر ذلك بالموروث المملوكى الذى تحدثت عنه، التواصل مفقود، فالدولة رجل، والرجل منفصل عما قبله وما بعده، ولولا بعض الجهود الفردية لاندثر ما بقى لنا من الموسيقى الشرقية. 

فهمى هويدى: نريد أن نتحدث عن الصحافة ومستقبلها فى ظل منافسة التليفزيون والفيديو؟ 

هيكل: باختصار الصحافة لها مستقبل لا يضاهيه مستقبل آخر، وصحافة الجودة فى العالم لم تهتز ولم تتأثر بالمنافسة المزعومة مع التليفزيون والفيديو، وأعنى بالجودة التحليل المعمق بالدرجة الأولى، الناس تصورت أن إنجلترا مشبعة ومكتفية بالصحف، لكنه فى ذروة تلك المنافسة المفترضة صدرت صحيفة جديدة مؤخرًا فى لندن وزعت خمسة ملايين ونصف المليون نسخة فى اليوم الأول. 

الصحافة العربية فى أزمة بسبب أزمة الحرية، مساحة الحرية محدودة، والتحليل المعمق مفقود، والنتيجة أن الصحف تكرر مادة الإذاعة والتليفزيون، ومع ذلك فالطاقة القرائية متزايدة فى العالم العربى. 

فهمى هويدى: قرأنا لك رأيًا تحفظت فيه على كتابة الأعمدة اليومية؟ 

هيكل: أنا أخاف فعلًا من الكتابة اليومية، ولا أظن أننى أستطيع أن أقدم كل يوم فكرة جديدة للقارئ، «والترليبمان» سيد المعلقين الصحفيين فى هذا القرن كان يكتب مرتين كل أسبوع، وبعد الستين أعلن عن أنه سيكتب مرة واحدة، وبعد الخامسة والستين قال إنه سيكتب كلما كان عنده ما يستحق أن يقوله للناس، الكتابة اليومية غير موجودة فى أى مكان فى العالم، هناك أعمدة فعلًا ولكن يتناوب عليها عديد من الكتاب وليست حكرًا على كاتب واحد. 

رتيبة الحفنى: أخيرًا ما هى الحكمة أو الفلسفة التى تؤمن بها ككاتب صحفى وتحب أن تنقلها إلى أى كاتب سياسى ناشئ؟ 

هيكل: هذا سؤال تتعذر الإجابة عنه، فليس بمقدور جيل أن ينصب نفسه قيّمًا على جيل آخر، المخبر الصحفى لا يصدر أحكامًا، ولكنه يجمع معلومات، ويفسر ويحلل، وما عندى قلته فيما كتبته، ولا أظن أن أحدًا منا يستطيع أن يختزن خبرته أو خلاصة تجاربه فى كبسولة ثم يقدمها للناس. 

رتيبة الحفنى: هذا تواضع.

هيكل: لا والله بالعكس، أنا أقول رأيى صادقًا، ولو أن ما تطلبينه عندى لما بخلت به، ولست مدعيًا التواضع، خاصة أنه من بين مشاكلى أن بعض الذين يقرأون لى يتصورننى رجلًا متعاليًا، وهو ما أستعيذ بالله منه.