الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

The Book of Eli.. إنقاذ البشرية بالوجه الإنسانى للأديان

حرف

- إيلاى يستخدم قواه الخارقة فى مواجهة القتلة والمغتصبين واللصوص

- عانينا كثيرًا من الاستخدام النفعى للدين وواجهنا جماعات متطرفة وقاتلة جعلت منه وسيلة لإحكام السيطرة على رقاب العباد

فى العام ٢٠١٠ استقبلت دور العرض بالولايات المتحدة الأمريكية فيلم «The Book of Eli» «كتاب إيلاى»، ومنها إلى دور العرض فى مختلف دول العالم. 

الفيلم الذى كتبه «جارى ويتا» وأخرجه «الأخوان هيوز» ولعب بطولته «دنزل واشنطن» ينتمى إلى أفلام الديستوبيا، حيث ينتهى العالم بعد ضربة نووية تأتى على الأخضر واليابس، وتحول حياة البشر إلى خراب، يتنازعون خلالها على البقاء بالقوة المفرطة التى لا يحكمها قانون ولا يتحكم فيها منطق. 

ومن بين هذا الخراب يخرج بطل الفيلم «إيلاى» فى رحلة إلى الغرب الأمريكى بعد أن استمع إلى صوت غامض لا يعرف لا مصدره ولا حقيقته يهمس إليه بأن يسلم نسخة من كتاب غامض إلى مكان آمن يكون من شأنه أن ينقذ البشرية من المصير الذى ينتظرها. 

يخوض «إيلاى» رحلته الغامضة وهو يحمل فى حقيبته كتابه الذى نعرف أنه نسخة الإنجيل التى كان يمتلكها الملك «جيمس»، وعندما يصل إلى قرية بناها «كارينجى»، الذى يحكمها بالحديد والنار، ويسخر رجاله للحصول على الكتاب الغامض الذى يعتقد أنه يمكن أن يحكم العالم الجديد من خلاله بعد أن يقوم ببناء قرى ومدن أخرى تكون تحت سيطرته وحده، يشك «كارينجى» أن الكتاب بحوزة «إيلاى» فيخطط للسطو عليه من خلال إغرائه بأن يبقى معه، يرسل إليه رفيقته العمياء «كلوديا» التى تفشل فى التفاهم معه، فيرسل إليه بابنتها «سولارا» بهدف إغرائه ومعرفة ما إذا كان الكتاب بحوزته أم أنه مجرد غريب عابر. 

فى الغرفة التى تجمع «إيلاى» بـ«سولارا» يقاوم إغراءها ويعلمها صلاة النعمة قبل أن يتناولا الطعام معًا، وعندما يستمع «كارينجى» منها إلى هذه الصلاة، يتأكد أن «إيلاى» يمتلك الكتاب، فيقرر أن يحصل عليه حتى لو قتل صاحبه، لكن «إيلاى» يهرب منه بعد أن يقتل رجاله دون أن تصيبه رصاصة واحدة. 

فى رحلة الهروب التى تصطحبه فيها «سولارا» يصل «إيلاى» إلى بيت مهجور يسكنه زوجان من أكلة لحوم البشر، يهاجم «كارينجى» البيت ويقتل صاحبيه بلا رحمة، ويهدد «إيلاى» بقتل «سولارا» إن لم يمنحه الكتاب، فيتنازل «إيلاى» عنه دون تردد. 

على هامش مشهد تسليم الكتاب نجد أنفسنا أمام وجهين لاستخدام الكتاب المقدس. 

الوجه الأول هو الاستخدام النفعى للدين، فـ«كارينجى» يريد أن يحصل على الكتاب لأنه يستطيع من خلاله أن يحكم العالم ويُخضع أتباعه لإرادته، فلا يكون لأحد منهم اختيار إلا السير فى طريقه وحده. 

والوجه الثانى هو الاستخدام الإنسانى للدين، وهو الوجه الذى يمكن من خلاله إنقاذ البشرية من حالة الخراب التى تسيطر عليها. 

بدا لى ذلك من الحوار الذى دار بين «إيلاى» و«سولارا» بعد أن عادت إليه. 

فبعد حصول «كارينجى» على الكتاب أطلق على «إيلاى» الرصاص، واصطحب «سولارا» معه، لكنها استطاعت أن تهرب وتعود مرة أخرى إلى «إيلاى» الذى أدركت أن الحياة معه أفضل من البقاء تحت سيطرة «كارينجى»، الذى يهين أمها ويمتهن كرامتها ويدفع رجاله إلى السطو والسرقة ويفتح حانة فى القرية يسيطر من خلالها على أتباعه. 

تسأل «سولارا» «إيلاى» عن سبب تسليمه الكتاب رغم أنه كان حريصًا عليه ولم يفرط فيه أبدًا ودافع عنه بكل ما يملكه من قوة؟ 

فيرد عليها «إيلاى» بأنه فعل ذلك بعد أن وجدها مهددة بالقتل. 

ويشرح لها وجهة نظره: لقد ظللت طوال رحلتى أحافظ على الكتاب دون أن أنتبه إلى أننى يجب أن أحافظ على ما فيه، والكتاب يقول لى إننى لا بد أن أقدم للآخرين أكثر مما أقدمه لنفسى. 

يضع «إيلاى» أمامنا الدرس الأكبر الذى تحمله الأديان، فالكتاب ليس مقدسًا، ولكن حياة الإنسان هى المقدسة، وإذا كان يجب أن نحافظ عليه، فلا بد أن نحافظ على حياة الإنسان أكثر. 

عندما يعود «كارينجى» ومعه الكتاب إلى قريته ويأتى بالمهندس الذى يفتح له «القفل» الذى أغلقه به «إيلاى» يكتشف أنه مكتوب بطريقة «برايل»، فى إشارة إلى أن «إيلاى» أعمى، لكن الإشارة الأهم أن قيمة الكتاب المقدس ليست بمن يحمله ولكن بمن يفهمه. 

يطلب «كارينجى» من «كلوديا» رفيقته العمياء أن تقرأ له ما جاء فى الكتاب المقدس، لكنها تمتنع عن ذلك بحجة أنها نسيت القراءة، فيتحول الكتاب بين يديه إلى لا شىء، وعندما يدرك أنه لن يستطيع استخدامه فيما يخطط له يجد أن عالمه ينهار من حوله، وينقلب عليه رجاله ويقومون بقتله. 

كان «إيلاى» قد استكمل رحلته مع «سولارا» إلى الغرب الأمريكى، حيث يصل إلى سفينة تعمل فيها مجموعة من أجل الحفاظ على ما تبقى من تراث البشرية، كتب وموسيقى وآثار. 

يخبرهم «إيلاى» بأن لديه نسخة من الإنجيل، وعندما يطلبونها منه يعرفون أنه يحفظها فى قلبه، فيبدأ فى إملائها عليهم. 

بعد الانتهاء من الكتابة يحمل أحدهم الإنجيل المنسوخ ليضعه فى المكتبة، فنجد أن إلى جواره التوارة والقرآن، فى إشارة واضحة إلى أن هناك من حمل هذه الكتب قبله وتم نسخها ووضعها فى المكتبة. 

عمر هذا الفيلم الآن أربعة عشر عامًا، عرض فى معظم دول العالم، وتقوم منصة «نتفليكس» بعرضه الآن، ويحظى بمشاهدات عالية، ربما لأنه يمس وبقوة العصب العارى للبشرية الآن فيما يتعلق بعلاقتها بالأديان. 

الرؤية التى يقدمها الفيلم بسيطة رغم ما فيها من فلسفة عميقة. 

ففى الوقت الذى تتعرض فيها الأديان إلى ما يشبه العاصفة التى تهدد بقاءها، وفى ظل مناقشات ممتدة حول جدواها ودورها وتأثيرها، يأتى هذا الفيلم ليقول الحقيقة، فالأديان ليست مقدسة لذاتها ولكن للدور الذى يمكن أن تقوم به فى حياة الناس. 

الفيلم يقدم رؤية تقدمية لكيف يمكن الحفاظ على البشرية. 

فالسفينة التى توجه إليها «إيلاى» بدفع من الصوت الغامض الذى استمع إليه، لم يحرص القائمون عليها على الحفاظ على الكتب السماوية فقط، ولكنهم جمعوا ما تركته البشرية وراءها من تراث فنى وتاريخى ومعرفى وفلسفى، فى إشارة واضحة إلى أن كل ما أنتجه الإنسان على الأرض إلى جوار ما تلقاه من السماء هو الطريق إلى إنقاذه وجعل حياته أكثر إنسانية. 

لقد عاش البشر بعد خراب الأرض فى غابة، القوة فيها هى الوسيلة الوحيدة للسيطرة، الصراع يستمر من أجل الطعام والشراب والجنس، الإنسان بلا قيمة إذا كان لا يملك شيئًا، ومن يملك القوة يستطيع أن يمتلك الجميع ويخضعهم لإرادته، لا توجد منظومة قيمية تحكم سلوك الناس أو توجههم إلى أن يعيشوا على الأرض جميعًا شركاء لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. 

ظل «إيلاى» بطل الفيلم يعتقد أن الكتاب المقدس الذى يرمز إلى الأديان هو المنقذ الوحيد، تلك القدرة على نسج منظومة قيمية وأخلاقية تنظم حياة الناس وتمنحها وجهًا إنسانيًا راقيًا، لكنه عندما يصل إلى سفينة النجاة، يكتشف أن الأديان وحدها لن تكون المنقذ، ولكن ما أنتجه البشر من فنون وآداب ومعارف وخبرات لها مكانها وقدرتها على المساهمة فى وضع المنظومة القيمية الكبرى. 

أعتقد أن هذه هى الصيغة التى يحتاجها العالم الحائر الآن. 

لقد عانينا كثيرًا من الاستخدام النفعى للدين، وواجهنا جماعات متطرفة وقاتلة جعلت منه وسيلة لإحكام السيطرة على رقاب العباد، فأورثتنا خرابًا ودمارًا حتى المنتهى، قتلت وسفكت الدماء وأهلكت الحرث والنسل، وهو ما جعلنا نبحث عن الوجه الحقيقى للأديان، وهو وجه ليس عابسًا ولا كريهًا ولا متطرفًا، ولكنه إنسانى إلى أبعد مدى. 

لم يجعلنا هذا الوجه الذى اكتشفناه ننصرف عن إبداعات البشر التى استطاعت أن تساند الأديان فى رسالتها وتحقق لها دورها، وهى رسالة الفيلم الأساسية التى يجب أن ننتبه إليها، ولا نجعلها تفلت من بين أيدينا. 

لقد تمتع «إيلاى» حامل الكتاب المقدس بصفات إنسانية نادرة، فهو لا يتجاوز حدوده مع الآخرين، يستخدم قواه الخارقة فى مواجهة القتلة والمغتصبين واللصوص ومن يمتهنون حياة البشر، لا يتردد فى التضحية من أجل الآخرين، وعندما تأتى لحظة الاختبار الحقيقية فى الاختيار بين الكتاب المقدس وحياة إنسانة، يتنازل عن الكتاب لإنقاذها، لأن هذه هى مهمة الكتب المقدسة، إنقاذ البشر وسعادتهم وليس قتلهم وتعاستهم. 

خلال السنوات الأربعة عشر وهى عمر الفيلم ساهم كتّاب كثيرون على مستوى العالم، من بينهم كتاب ونقاد عرب، فى كشف أسرار الفيلم، وكم كان عجيبًا أن يشتبك معه البعض على أرض الشك والتشكيك فى دوافعه، بل ويتهمه بما ليس فيه، فى محاولة لجعل الفيلم موجهًا إلى غاية بعينها، وهى قراءة مغرضة فى اعتقادى تبدد رسالة الفيلم الأساسية. 

لقد التبس على الأمر، فاعتقدت أنهم جعلوا الكتب الدينية الثلاثة فى كتاب واحد، واعتقدت أنه يروج ومبكرًا لما تعارفنا عليه بعد ذلك بالديانة الإبراهيمية، لكنهم وضعوا كل كتاب منها فى المكتبة مستقلًا عن الآخر، وحسنًا فعلوا ذلك. 

لقد عانت الديانات السماوية والأرضية خلال مسيرتها الطويلة مع البشرية من حملات عداء وكراهية مستمرة، وكان المبرر فى ذلك أن الأديان هى سبب شقاء البشرية، واستقر هذا المعنى لدى كثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة والأدباء والسياسيين وعوام الناس أيضًا، وكان لدى كل منهم دليله على ذلك. 

لكننى أعتقد أن البشرية وقعت فى أكبر عملية لبس وسوء تفاهم مع الأديان السماوية والأرضية، لأن هناك من قرر استخدامها لتحقيق أهدافه، وجعل منها مطية ليصل من خلالها إلى ما يخطط له، وفى طريق الاستخدام النفعى للأديان، لاقت البشرية أهوالًا لا يقدر عليها أحد، وكان هذا مبررًا للعداء مع البشرية. 

يقتضينا الإنصاف أن نقول إن العداء ما كان يجب أن يوجه أبدًا إلى الأديان، فالأولى به من أطلقوا على أنفسهم رجال الدين، هؤلاء الذين جعلوا منه حرفتهم وعملهم ومصدر رزقهم ووسيلتهم للسيطرة على الناس وطحن عظامهم من أجل الحصول على مكاسب من الثروة والسلطة والنفوذ. 

هل يمكننى أن أقول إن هذا الفيلم الذى يعيد العالم اكتشافه الآن هو فى حد ذاته اكتشاف متجدد لحقيقة الأديان؟ 

هذا ما فعله بالضبط، وهذا ما أعتقد أننا يجب أن ننتبه إليه، ونعيد النظر مرة أخرى فى القيمة الحقيقية التى تقدمها الديانات السماوية منها والأرضية، فى ظل حملات طاغية لإنكار الأديان وتغييبها واستبعادها من المشهد بدعوات الإلحاد والتطرف والشذوذ وتفكيك العلاقات الاجتماعية التقليدية، وكلها صيغ فى النهاية لن تأتى على العالم بأى خير، بل العكس تمامًا هو ما يحدث، فالعالم بعيدًا عن منظومة قيمية منضبطة سيسير حتمًا نحو التفسخ. 

وهذا ما لا نرضاه ولا نريده.