الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المثقف التائه.. عار الشماتة فى الدولة المصرية

افتتاحية العدد الرابع
افتتاحية العدد الرابع والثلاثين

- الدولة تواجه خطرًا وجوديًا هائلًا ربما لم تواجهه قبل ذلك فى تاريخها

على حسابه الخاص بـ«فيسبوك» كتب: «إثيوبيا تعلن تشغيل توربينين جديدين وفتح منافذ تمرير المياه من سد النهضة». 

مجرد خبر لم يعلق عليه الكاتب والروائى والذى يصدر نفسه على أنه واحد من أفراد النخبة المصرية المثقفة، الذى لا يكف عن الثرثرة بامتلاكه تصورات للحل والخروج من الأزمة، لكن نشره الخبر بهذه الصورة- بالنسبة لى- كان يحمل شكلًا من أشكال الشماتة فى الدولة المصرية. 

قد تلتمس العذر لهذا المثقف بأنه يمارس حقه فى النقد. 

من حق كل مواطن أن يفعل ذلك.

يتحدث يناقش، ينقد ينتقد، يغضب ينقض، يحتج يهاجم، يرفض يتمرد. 

لكن على أن يكون ذلك من المساحة الوطنية التى لا يمكن أن نشكك فيها عند أحد، لكن على الأقل لا يمكن أن نتجاهل أن هناك شرحًا يعانى منه كثيرون وهم يتحدثون عما يعترض الوطن من أزمات، وما يعترض طريقه من عثرات. 

لقد كانت الشماتة الكبرى فى الدولة المصرية عندما وقعت هزيمة ١٩٦٧. 

فعلتها جماعة الإخوان الإرهابية، وهذه ليست تهمة نلقيها عليها دون دليل، فلسنا من هواة إلقاء التهم جزافًا. 

وأنا أبحث فى تاريخ الجماعة توقفت عند ما كشفه الكاتب الصحفى والأديب الكبير إحسان عبدالقدوس. 

يحكى إحسان: أتذكر يوم الأربعاء ٧ يونيو ٦٧ دخل علىّ واحد من قيادات جماعة الإخوان وكان من رجال الدين المعروفين، وبعد أن اكتشف ما أنا فيه من مرارة الإحساس بالهزيمة، حاول التخفيف عنى، ولكن بطريقة خانها التوفيق، لأننى فوجئت به يقول لى: لا تثقل على نفسك بكل هذا الحزن، فلعل ما تراه شرًا كل الشر يحمل إلينا الخير، ولكننا لا نرى ضوءه الآن، ونحن نتخبط فى ظلام الهزيمة التى باغتتنا. 

قال له إحسان: أى خير فى الهزيمة يا مولانا؟

فرد عليه الإخوانى: هل تسمح لى بالكلام بصراحة؟ 

قال له: تفضل واشرح لى ما هو الخير الذى تتصور أن الهزيمة حملته لنا، بالعكس فإن كل المصريين يرون أن الهزيمة شر حل بمصر وشعبها. 

كان إحسان بتعبيره يصرخ بعنف تعبيرًا عن سخطه وغضبه. 

وهو الصراخ الذى استفز القيادى الإخوانى.

فقال له: بل هى خير، واسمعها منى صريحة، إن الله يحب مصر وشعبها، وقد أراد إنقاذنا بهذه الهزيمة العابرة، مما هو شر من الهزيمة، ولكنه شر دائم. 

ذهل إحسان من كلام الرجل، وتساءل: كيف وهو الرجل المتزن العاقل، ورجل الدين الكبير والمشهور، كيف به- وهذه صفاته- يسمح لنفسه أن ينطق بهذا الكفر بالوطن؟

يستكمل إحسان ما جرى: لم ينتظر الشيخ حتى أنطق بباقى السؤال، فقاطعنى وقال: لا تظن بى كما يظن أولئك الذين لا يتورعون عن التصريح بفجور، أن الدين أفيون الشعوب، ولا تثر بنفسك الشكوك حول وطنيتى، وحبى الصادق للوطن يدفعنى إلى أن أسألك بصراحة: ما يدريك يا صديقى، لو أننا كنا قد انتصرنا- كما أكد لنا الذين خدعونا- فإن الوضع كان سيستمر على ما هو عليه، وقد ينقلب إلى ما هو أسوأ مما نحن فيه الآن، من كبت الحريات العامة والخاصة، والاعتداء على كرامة الأفراد؟ 

ما قاله القيادى الإخوانى للأسف الشديد صرح به الشيخ الشعراوى عندما قال إنه سجد لله شكرًا بعد هزيمة ١٩٦٧. 

تصريح الشيخ الشعراوى كان فى برنامج «من الألف إلى الياء»، الذى كان يقدمه طارق حبيب وأذاعه التليفزيون المصرى فى شتاء العام ١٩٨٨، وقد أثار حوله ضجة وصخبًا وغبارًا، وما زال يفعل ذلك حتى الآن. 

اضطر الشيخ إلى تبرير موقفه، فقال إنه فعل ذلك لأن مصر كانت فى أحضان الشيوعية، ولو انتصرت لقيل إنها فعلت ذلك وهى بعيدة عن طريق الله، وهو لا يريد أن تنتصر مصر إلا وهى فى أحضان الدين. 

تبرير.. مجرد تبرير.. وفقدان للبوصلة الوطنية الحقيقية، وحالة من التيه يعانى منها من يتحدثون بذلك، ففى النهاية الهزيمة انكسار، وبدلًا من البحث عن أسبابها الحثيثة تثير فرحة فى نفوس البعض، ولما نؤاخذهم على هذه الفرحة يخرجون علينا بتفسيرات وتبريرات لا قيمة لها.. ولا وزن. 

اللافت أنهم وهم يفعلون ذلك يتغنون بالوطن وحبه والعمل من أجله، فى حالة من التدليس التى لا تخفى على أحد. 

فى السجون كان بعض الإخوان لا يزالون موجودين على ذمة قضية ٦٥ التى اتهم فيها تنظيم سيد قطب بمحاولة قلب نظام الحكم والتخطيط لاغتيال شخصيات سياسية نافذة كان على رأسهم الرئيس جمال عبدالناصر، وهؤلاء عندما عرفوا بخبر الهزيمة هللوا وكبروا وشكروا الله على ما أصاب الوطن. 

يعلل الإخوان ما يفعلونه بأنهم لا يشمتون فى الدولة المصرية، ولكنهم يشمتون فى النظام ومن يحكمون، وهى حيلة سياسية يدفعون بها حتى لا يتهمهم أحد بعدم الوطنية التى يتشدقون بها. 

ورغم دناءة وانحطاط ما قام به وما يقوم به الإخوان حتى الآن من إعلان شماتتهم فى كل ما يمر به الوطن من أزمات ومشاكل، إلا أننى أراه طبيعيًا من أكثر من وجه. 

الوجه الأول أنهم خصوم واضحون للدولة المصرية، مشروعهم يناهضها، يريدون الانقضاض عليها، ولذلك يدخلون فى خصومة واضحة مع كل من يريد تثبيت الدولة المصرية والدفاع عنها. 

والوجه الثانى أنهم يعيشون بحالة من الثأر الواضحة مع كل من ينتمى إلى الدولة المصرية، ومع كل مؤسساتها، وإذا حدث إخفاق لأى مؤسسة منها لا يتأخرون فى إعلان فرحتهم وغبطتهم وسعادتهم المطلقة بما يحدث.. حتى لو كانت المعاناة عامة وشاملة تضر بالجميع. 

الوجه الثالث أنهم بالفعل ليسوا مصريين لا بالمعنى الخاص ولا بالمعنى العام، ولذلك فهم يتعاملون مع المصريين على أنهم شعب آخر، يستحق كل ما يحدث له، بل يتمنون أن يلحق بهذا الشعب الأذى كل الأذى.. فى كل وقت وحين. 

ما يجعلنى فى موقف الحيرة والأسف أن هناك من خارج جماعة الإخوان، وممن لا ينتمون لها يسلكون نفس سلوك أعضاء الجماعة. 

لا يترددون فى إعلان الشماتة فى الدولة المصرية إذا ما حدث إخفاق فى ملف ما. 

والمؤسف أكثر أن من بين هؤلاء الذين يشمتون فى الدولة المصرية مثقفين نعرفهم بالاسم، لا يكفون عن الكتابة والحديث عبر المنصات الخاصة بهم، وما يجعلك تأسف أكثر أنهم يتعاملون مع ما يقولونه أو يكتبونه على أنه معارضة وبطولة حقيقية، ويطلبون منا الإقرار لهم بذلك. 

هؤلاء المفروض أنهم يقفون على أعلى درجات الوعى بمعنى الدولة، وبالتحديات التى تعترض مشروعها، وبالأزمات التى تمر بها، وبالأخطار التى تحيط بها من كل مكان، لكنهم لا يلتفتون إلى ذلك، يتجاهلونه تمامًا، ويبثون سمومهم التى تستهدف الدولة وكل ما تمثله. 

بعد أحداث ثورة ٣٠ يونيو كان واضحًا أن الخريطة انقلبت رأسًا على عقب. 

الدولة تواجه خطرًا وجوديًا هائلًا.. ربما لم تواجهه قبل ذلك فى تاريخها. 

هذا الخطر الوجودى كان يستدعى أن يقف المثقفون فى خندق الدولة لا يغادرونه أبدًا. 

لم يطلب منهم أحد مالًا ينفقونه ولا جهدًا يبذلونه. 

لم يطلب منهم أحد أن يحملوا السلاح ويتوجهوا إلى سيناء لمواجهة الجماعات الإرهابية التى استوطنتها وأخذت منها أرضًا لإدارة معركة ضد الدولة المصرية. 

لم يطلب منهم أحد أن يتحولوا إلى جنود يفارقون بيوتهم وفراشهم وأسرهم وأولادهم ويقفون على الحدود ليصدوا عن مصر الخطر الذى يهددها. 

كان المطلوب من المثقفين- ولا يزال- أن يكونوا جنودًا فى معركة الوعى، فلديهم القدرة على الحديث إلى الناس والكتابة لهم، لديهم مواهب خاصة فى التأثير فى الوعى الجمعى. 

لم يطلب منهم أحد أكثر من أن يقوموا بدورهم فى إيقاظ الناس وتنبيههم إلى المخاطر التى تعترض طريق الدولة، حتى تتماسك الجبهة الداخلية لتصطف خلف القيادة فى معاركها ضد الإرهاب وفى معركة التنمية التى بدأتها الدولة فى نفس توقيت معركتها مع الإرهاب. 

كان يمكن للدولة المصرية أن تختار الطريق السهل. 

وكان يمكن لرئيسها أن يركن إلى الحل الآمن. 

أن يعلن دخول الدولة فى مواجهة طويلة وممتدة مع الإرهاب. 

ساعتها كان يمكنه أن يقول إنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع الإرهاب.

لا تنمية ولا بناء ولا استثمار ولا تحسين بنية تحتية. 

لا حديث عن زراعة أو صناعة أو استثمار حتى تنتهى المعركة مع الإرهاب. 

لكن الطريق الصعب كان هو الاختيار. 

أن نحارب ونبنى فى الوقت نفسه. 

كان من المفروض أن يعرف المثقفون دورهم فى المعركة، لكنهم استسلموا، وضعوا أقلامهم جانبًا، وبدأوا فى التجبيه ضد الدولة المصرية، وشارك بعض المثقفين فى التضليل والكذب ونشر الأخبار الكاذبة وإشاعة مناخ من الإحباط والاكتئاب، وهو أخطر ما يواجه أى دولة. 

لم يكتف بعض المثقفين بذلك، بل تحولوا إلى أسلحة مرفوعة فى صدر الدولة، وهو ما كان صادمًا ومؤلمًا فى الوقت نفسه. 

مع مرور الوقت أصبح بعض المثقفين خصمًا من رصيد الدولة المصرية، بل زاد الطين بلة أنهم صمتوا عن كل ما يواجه الدولة من أزمات وكأنهم كانوا ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث، مجرد متفرجين يخفون انحيازهم وتصفيقهم حتى تنتهى المعركة، فيعلنون ولاءهم لمن ينتصر. 

كان لافتًا للانتباه أن كثيرًا من المثقفين يلتزمون الصمت عند ارتقاء أبناء الجيش المصرى شهداء فى المعركة ضد الإرهاب، ولا أريد أن أوثق هنا نماذج مما قالوه وكتبوه عن شهدائنا، الذين لم يعتبروهم كذلك، بل اعتبر البعض منهم أن الدولة هى التى تفتعل الإرهاب وأنه لا توجد معركة حقيقية، بل إن البعض منهم لم يكن يقم بنعى هؤلاء الشهداء، وهو أضعف الإيمان. 

ترددى فى توثيق ما كتبوه ليس حرصًا عليهم، فمن قاموا بذلك لا بد من فضحهم أمام الناس، لكن لأننى أعتبر ما فعلوه هو العار الكامل فى حقهم، وهو عار سيظل يلاحقهم حتى يدخلوا قبورهم، فإننى أصمت مؤقتًا. 

المفزع هو ما وصل إليه هؤلاء المثقفون بعد ذلك. 

فقد تحولوا إلى ماكينات شماتة فى الدولة المصرية، ينتظرون إخفاقها فى أى ملف من الملفات، فيتقمصون شخصيات سيدات النواصى، ويبدأون فى التلقيح والشماتة الواضحة التى لا تحتمل تأويلًا، فهى كذلك بالفعل، ولا يمكن أن نجد لها تفسيرًا آخر. 

أدرك كثيرون ممن ينتمون إلى النخبة المثقفة أن الظرف الاقتصادى الذى تمر به مصر كان لأسباب خارجية واضحة، فقد مر العالم ولا يزال بموجات من الأوبئة والحروب التى لا تنقطع، وقد ألقت هذه الأحداث على مصر بظلالها الكثيفة، لكنهم تجاهلوا ذلك وركزوا هجومهم على النظام باعتباره المسئول الوحيد عن كل ما يجرى. 

خذ عندك فقط ما كتبه المثقف والكاتب والروائى المزعوم عن سد النهضة فى صيغة خبرية لتفهم ما أريد الإشارة إليه. 

لقد دخلت مصر معركة سياسية ودبلوماسية طويلة مع إثيوبيا لتخفيف آثار سد النهضة الذى أصبح واقعًا لا فرار منه ولا مهرب بعد أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، وحاولت مصر أن تتجنب أى حل عسكرى، لأنها لا تريد اللجوء إلى القوة الخشنة فى حسم قضاياها، فى ظل تعنت إثيوبى هائل، ومراوغة لا تنقطع، وتدخلات من أطراف إقليمية ودولية، وبدلًا من أن يفهم مثقفونا ذلك يغمزون ويلمزون. 

إننا لا أخاف من المثقف السلبى، الذى ينكفئ على ذاته، ولا يرى من الحياة إلا ما يخصه وحده، فهذا لا نستفيد منه ولا يضرنا بشىء، لكن الخوف الكبير من المثقف التائه الذى يفتقد البوصلة فيضل الطريق، ببساطة لأنه فى هذه اللحظة لا يضل وحده، بل يضل معه آخرون، لا يعيش فى واقع زائف ولكن يزيف واقع الآخرين، لا يزور الحقائق التى يتحدث عنها ولكن يزور ويضلل الآخرين. 

قد يكون من الصعب أن نحدد لبعض المثقفين ما يقولون. 

لكن أعتقد أنه من السهل أن يصمتوا أحيانًا فى بعض القضايا التى لا يحيطون بها علمًا. 

وقد يكون من الصعب أن نطالبهم بأن يأخذوا مواقف معينة. 

لكن على الأقل يمكن أن نراجعهم فى المواقف التى يأخذونها، دون أن يعتبروا هذا هجومًا عليهم أو انتقاصًا من شأنهم. 

فليس معقولًا أن يعتبروا أنفسهم وحدهم أصحاب توكيلات المعارضة، ولا يحق لغيرهم أن يشتبكوا معهم. 

لقد أنفقنا سنوات طويلة نطالب بتجديد الخطاب الدينى، دون أن ننتبه إلى أننا فى حاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الثقافى الذى هو آفة من آفاتنا التى توردنا موارد التهلكة دون أن ندرى. 

فهل يفعلها مثقفونا؟ 

أم أنهم يعتصمون بما يقنعون به؟ 

وكثير منه- للأسف الشديد- ليس إلا إفكًا وضلالًا وأكاذيب.