أجاثا كريستى.. الوجه الآخر لسيدة الجريمة الأولى
- سيدة ريفية بكل معانى الكلمة وشاعرة رومانسية كتبت 6 روايات ومجموعتين شعريتين
- كانت تكبر زوجها الثانى بـ13 سنة وعندما سُئلت عن سر تعلقه بها قالت: «لأنه عالم آثار والطبيعى أن يعشق التحف القديمة»
على مدى عقود طويلة، تربعت الروائية الإنجليزية أجاثا كريستى على عرش رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية بحبكتها البريطانية المعروفة، وإن لم تكن هى الفن الوحيد من فنون الإبداع الأدبى الذى جربت حظها معه، وإن لم تكن هى أبرع من كتب هذه النوعية الصعبة من الروايات، وكما تحول ماركيز إلى علامة على تيار الواقعية السحرية فى الرواية الحديثة، رغم أن كثيرين قبله جربوا كتابته وبرعوا فيه إلى حد كبير، تحولت أجاثا كريستى إلى مرادف للرواية البوليسية أو رواية الجريمة، لا يُذكر أحدهما دون أن يستدعى العقل الطرف الآخر، وهى النوعية التى يتعامل معها الكثير من الأدباء والمبدعين والنقاد العرب باستهانة واستسهال كبيرين، على أننى أظن أنها واحدة من أصعب فنون الكتابة القصصية، لما تتطلبه من مهارات وخيال وحيل أخرى خاصة إضافية لمهارات الكتابة الروائية ربما لا تتوفر للكثير من الكتّاب والمبدعين، ويقال إن أعمال أجاثا كريستى باعت وحدها ما يقرب من مليارى نسخة حول العالم، وأدرجت فى موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية كأكثر كاتبة روائية مبيعًا فى جميع الأوقات، وما زالت مسرحيتها «مصيدة الفئران» تتربع على عرش أطول فترة تشغيل لعرض مسرحى فى التاريخ، وهى التى عُرضت لأول مرة فى لندن بتاريخ 25 نوفمبر 1952، وبحلول سبتمبر 2018، كان هناك أكثر من 27500 عرض لذات المسرحية التى أغلقت مؤقتًا فى مارس 2020 بسبب «كوفيد19»، قبل أن يُعاد افتتاحها مرة أخرى فى مايو 2021.
شاعرة رومانسية تفتقد الرفقة
ربما لا يعرف كثيرون أنها، إلى جانب تربعها على عرش الروايات البوليسية، تمتعت بمواهب أخرى عديدة، فهى التى بدأت رحلتها مع الأدب من كتابة الشعر والقصص القصيرة والروايات الرومانسية، ومارست الكتابة للمسرح والتمثيل وهى لا تزال طفلة، كما جربت الغناء، وكتبت ست روايات رومانسية، قبل أن تجد ضالتها فى رواية الجريمة التى حجزت لها تلك المكانة المميزة وسط الكبار، لكنها حافظت على كتابة الشعر معظم حياتها، وكان ديوان «شارع الأحلام» هو أول كتاب شعرى لها، نشرته على نفقتها الخاصة وهى فى الخامسة والثلاثين من عمرها، وتحديدًا فى يناير ١٩٢٥، وكان يباع بسعر خمسة شلنات، وينقسم إلى أربعة أقسام، «قناع من إيطاليا»، و«القصص»، و«أحلام وتخيلات»، و«قصائد أخرى»، أما الديوان الثانى فكان بعنوان «قصائد» ونشرته وهى فى سن الثالثة والثمانين، فى أكتوبر ١٩٧٣، وفى نفس توقيت نشر روايتها الأخيرة «نوازل القدر»، وبعد محاولاتها الأولى فى كتابة الروايات الرومانسية، ومنها رواية «ثلوج على الصحراء» التى لم يقبل بها أى ناشر، تحدتها شقيقتها فى كتابة رواية بوليسية، فكتبت «قضية ستايلز الغامضة» التى ظهر فيها المحقق هركيول بوارو للمرة الأولى، وتم رفضها من ستة دور نشر مختلفة، لكنها نشرت فى النهاية فى صحيفة «رئيس ديلى» عام ١٩٢٠، فحققت نجاحًا محدودًا، ولكنه أسس لها قاعدة جماهيرية، ومن طرائف محاولاتها الأولى للنشر أنها عملت بنصيحة أحدهم عندما حدثها عن أهمية أن تكون الكتابة واضحة كالزجاج، يمكن للقارئ أن يرى المجتمع من خلالها، وذلك على الرغم من أنها هى نفسها صاحبة المقولة الشهيرة: «النصيحة الجيدة لا مفر من تجاهلها، هذا أمر مؤكد، لكن ذلك لا يمنحك سببًا لعدم تقديمها».
كانت كريستى قارئة نهمة منذ صغرها، ومن ذكرياتها الأولى أنها كتبت قصيدتها الأولى فى أبريل ١٩٠١، وهى فى الحادية عشرة من عمرها، بعنوان «زلة البقرة»، وفى نفس السنة تدهورت صحة والدها، وتوفى فى نوفمبر من نفس العام بسبب الالتهاب الرئوى وأمراض الكلى المزمنة، وقالت لاحقًا إن وفاة والدها كانت بمثابة نهاية لطفولتها، فقد ساء الوضع المالى للعائلة، وتزوجت شقيقتها الكبرى مادج فى العام التالى وانتقلت إلى تشيدل، شيشاير، بينما كان شقيقها مونتى فى الخارج، يخدم فى فوج بريطانى، فبقيت بمفردها فى أشفيلد مع والدتها التى ألحقتها بمدرسة «الآنسة جوير» للبنات فى توركواى، لكنها وجدت صعوبة فى التكيف مع الجو المنضبط، وفى عام ١٩٠٥، أرسلتها والدتها إلى باريس، حيث تلقت تعليمها فى سلسلة من المدارس الداخلية، مع التركيز على التدريب الصوتى والعزف على البيانو، ولكنها سرعان ما أدركت أنها تفتقر إلى المزاج والموهبة، فقررت التخلى عن هدفها فى الأداء الاحترافى كعازفة بيانو أو مغنية أوبرا.
وفى سن الثامنة عشرة، كتبت قصتها القصيرة الأولى «بيت الجمال»، وهى قصة من حوالى ٦ آلاف كلمة عن «الجنون والأحلام»، المواضيع التى كانت تثير اهتمامها فى ذلك الوقت، وعلقت كاتبة سيرتها الذاتية، جانيت مورجان، على ذلك قائلة إنه على الرغم من «قصور الأسلوب» فإن القصة كانت «مقنعة»، وكانت نسخة مبكرة من قصتها «بيت الأحلام»، وتلتها قصص أخرى توضح اهتمامها بالروحانيات والخوارق، ومنها «نداء الأجنحة» و«الإله الصغير الوحيد»، إلا أن جميع المجلات التى راسلتها رفضت طلباتها المبكرة المقدمة بأسماء مستعارة، بما فى ذلك ماك ميلر، وناثانيال ميلر، وسيدنى ويست؛ وتمت مراجعة بعض هذه التقديمات لاحقًا ونشرها باسمها الحقيقى، وعناوين جديدة.
ولدت أجاثا مارى كلاريسا ميلر فى الخامس عشر من سبتمبر ١٨٩٠، لعائلة إنجليزية ثرية من الطبقة المتوسطة العليا، وعاشت معظم طفولتها فى بلدة توركواى، ديفون، لأب أمريكى هو فريدريك ألفاه ميلر «فريد»، الذى قالت عنه فيما بعد إنه كان رجلًا نبيل الجوهر، لم يتغير أبدًا، وظل طوال حياته رجلًا لطيفًا للغاية، فيما كانت أمها كلاريسا مارجريت «كلارا» ابنة لضابط فى الجيش الإنجليزى هو فريدريك بوهمر، وحين توفى جدها لأبيها ترك لهم مبلغًا ماليًا كبيرًا، فاستخدمه والدها فى شراء «فيلا أشفيلد» بتوركواى، حيث ولدت الطفلة الثالثة والأخيرة أجاثا فى ذلك المنزل الذى قضت فيه معظم طفولتها فى اللعب بمفردها مع حيواناتها الأليفة، ووفقًا لكريستى، اعتقدت والدتها كلارا أنها لا ينبغى أن تتعلم القراءة حتى تبلغ الثامنة من عمرها، ولكن بفضل فضولها، أصبحت تقرأ فى سن الرابعة، ورغم أن أختها الكبرى «مادج» أُرسلت إلى مدرسة داخلية، أصرت والدتها على أن تتلقى أجاثا تعليمها فى المنزل، ونتيجة لذلك أشرف والداها وشقيقتها على دراستها فى القراءة والكتابة والحساب الأساسى، كما علموها الموسيقى، والعزف على البيانو والمندولين، ولهذا تصف طفولتها بأنها كانت سعيدة جدًا، لأنها كانت محاطة بمجموعة من النساء اللاتى منحنها الشخصية القوية والمستقلة منذ سن مبكرة.. وتقول أجاثا كريستى عن تلك الفترة من حياتها: والدتى سهلت اتجاهى إلى التأليف، فقد كانت سيدة ذات شخصية ساحرة، وذات تأثير قوى وكانت تعتقد اعتقادًا راسخًا بأن أطفالها قادرون على فعل كل شىء، وذات يوم أُصبت ببرد شديد ألزمنى الفراش، فقالت لى: خير لكِ أن تقطعى الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت فى فراشك. فأجبتها: ولكنى لا أعرف، فقالت: لا تقولى لا أعرف.. ثم طرحت فكرة كتابة قصة مستوحاة من الأحداث التى نقرأها فى الصحف لمقاومة الألم والانشغال عنه، فحاولت ووجدت متعة فى المحاولة، وقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصًا قابضة للصدر، يموت معظم أبطالها، كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة أحتشد فيها عددًا هائلًا من الشخصيات.
عندما عادت أجاثا إلى إنجلترا بعد رحلة تعليمها فى فرنسا، وجدت والدتها مريضة، فقررتا قضاء شتاء ١٩٠٧، ١٩٠٨ فى مناخ مصر الدافئ، وهو الذى كان آنذاك مقصدًا سياحيًا منتظمًا للبريطانيين الأثرياء، وأقامتا لمدة ثلاثة أشهر فى «فندق قصر الجزيرة» فى القاهرة، حيث حضرتا العديد من المناسبات الاجتماعية، وقالت إنها استمتعت بشكل خاص بمشاهدة مباريات البولو للهواة، بعدها عادت إلى إنجلترا ليتقدم لها عدد من الخاطبين الأثرياء والفقراء، ولكنها رفضتهم جميعًا، حتى كان زواجها الأول من العقيد أرشيبالد كريستى، وهو طيار عسكرى حديث التعيين فى الطيران الملكى البريطانى، ومنه أخذت لقبها الذى لازمها طوال حياتها، ولكن زواجهما فشل بسبب افتقادها الصحبة المشتركة أو الرفقة الزوجية، وهى قيمة أساسية ظلت تؤكد عليها فى حياتها حتى بعد زواجها الثانى، وبينما كان هو فى الجبهة فى فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، تطوعت فى أحد المستشفيات فى بلدتها، كما اشتغلت صيدلانية، وتعلمت الكثير عن السموم والمواد الكيميائية وصناعة الأدوية، وهو ما ساعدها لاحقًا فى نسج أحداث كثير من رواياتها، ووصف طرق استخدام السموم فى جرائم القتل التى صورتها.
ريفية بريطانية فى رحلة إلى الشرق
تقول كاتبة سيرتها جانيت مورجان: «فضلًا عن ارتباط أرتشى كريستى بعلاقة عاطفية مع امرأة أخرى، ثم تصرفه مع أجاثا وكأنها ربة بيت ورفيقة فراش فقط لا غير، كان تعطشها للرفقة أحد أهم أسباب انفصالها عنه بالطلاق عام ١٩٢٨، بعد أن أنجبت منه ابنتها روزلند.. أجاثا سيدة ريفية بكل ما فى الكلمة من معانى، ليس لأنها ولدت وترعرعت فى توركواى، وهى منتجع صيفى فى جنوب بريطانيا، بل لأن مظهرها وعاداتها كانت مطابقة لحياة وعادات الحقبة التى عاشتها تمامًا، ولم تمر فى حياتها بأحداث دراماتيكية أو كانت تسعى وراء المغامرة».
وفى عام ١٩٣٠ تزوجت من عالم الآثار المعروف ماكس مالوان، والذى كان يصغرها بنحو ثلاث عشرة سنة، كان عمره وقت زواجهما ٢٦ سنة، بينما كانت هى على مشارف الأربعين، والتقت به فى مدينة «أور» العراقية خلال إحدى سفرياتها إلى الشرق، فتجولت معه فى بلاد الشام والعراق ومصر، ولعل الاستقرار العائلى الذى أتاحه لها زواجها الثانى، كان من أسباب استقرارها النفسى والفكرى ما هيأ لها فرص الكتابة والإنتاج الأدبى، ويقول ماكس مالوان فى مذكراته عن طقوس الكتابة لدى زوجته: «شيدنا لأجاثا حجرة صغيرة فى نهاية البيت، كانت تجلس فيها من الصباح، وتكتب رواياتها بسرعة وتطبعها بالآلة الكاتبة مباشرة، وألفت ما يزيد على ست روايات بتلك الطريقة موسمًا بعد آخر».
أقامت أجاثا خلال فترة شهر العسل فى قرية «عين العروس» بشمال سورية على ضفاف نهر البليخ بمحافظة الرقة، وخلال وجود زوجها فى مهمة أثرية فى شمال شرق سورية، سكنت فى فندق «بارون» بمدينة حلب، وهو الذى كان مقصد مشاهير أوروبا، والقادمين على قطار الشرق، وهناك كتبت قصتها الشهيرة «جريمة فى قطار الشرق»، وانضمت رسميًا إلى بعثة التنقيب البريطانية فى نينوى شمال العراق برئاسة الدكتور تومسن كامبل، ثم إلى بعثة الأربجية عام ١٩٣٢ برئاسة زوجها، وكانت، فضلًا عن جهدها التنقيبى، تجد الوقت الكافى للكتابة، حتى أنه حين لا يتوفر لها السكن فى الموقع، تنصب لها خيمة خاصة تبعد قليلًا عن ضجيج الحفر، وكتب مالوان عن حياتهما معًا فى العراق: عشنا فى بيت صغير ذى حديقة أسفل تل النبى يونس بشمال العراق، وكانت كثيرًا ما تتهيأ لشتاء الموصل الطويل بشراء كميات من الخشب التماسًا للدفء كلما اقترب موسم البرد، وكانت تدفع بسخاء لقوافل الأكراد التى تبيع الخشب، وفى هذا البيت قليل الأثاث احتاجت أجاثا مرة لمنضدة تكتب عليها روايتها «اللورد ايجوير يموت» فقصدت سوق الموصل واشترت بثلاث باوندات منضدة، اعتبرها الدكتور كامبل، رئيس هيئة التنقيب، تبذيرًا كبيرًا.
ورغم أن الكتابة كانت شاغلها الأكبر طوال الوقت، كان لها دورها ومهماتها ضمن بعثة التنقيب، يقول مالوان: «كانت أجاثا سخية دائمًا، ونموذجًا للانسجام، ساعدت فى إصلاح العاجيات، ووضع الفهارس لأنواع اللقى الأثرية، كما ساعدت فى التصوير الفوتوغرافى للبعثة»، وهو ما دفعه إلى القيام بمهام كثيرة تخص عملها الإبداعى، فكان ينظم أعمالها على نحو لم تكن تنتظره، ويحل مشاكلها المالية، سواء بالنسبة لألاعيب دور النشر المستغلة، أو تحايل منتجى الأفلام، أو مشاكلها مع أصحاب المسارح، كما كان يجيد ترتيب المعلومات وتبسيطها.
كانت أجاثا كريستى ترى فى مسألة الرفقة عنصرًا جوهريًا للسعادة الزوجية، إلى جانب مشاطرة الخبرات والمشاعر والأفكار والتعبير عنها، وكان ذلك من أسباب نجاح زواجها من مالوان، فاستمرت حياتهما معًا ٤٥ عامًا، حتى وفاتها عام ١٩٧٦، ومن طريف ما يروى أنها كلما كانت تسأل عن سر تعلق مالوان بها وحبه لها كلما تقدمت فى العمر وهى تكبره أصلًا، فكانت تجيب: «إنه أمر طبيعى، فزوجى عالم آثار يعشق الآثار القديمة».
وقيل إنها كانت دائمًا ما تردد أن أعظم متعة يحس بها المؤلف هى اختراع الحبكات، ولهذا تجد فى قصصها ورواياتها كما فى مسرحياتها كم هائل من الألغاز والحبكات الغامضة، ويذهب كثير من النقاد إلى أنها غالبًا ما كانت تلجأ إلى تكنيك يستند إلى الحيلة أو الخدعة كأسلوب للإثارة والتشويق، ولكى تبعد الملل عن القارئ تعمد إلى إقحام بعض الألغاز والرموز التى تحتمل التأويلات والتفسيرات المتضادة، وفى حالات قليلة كانت تتعمد الاستعانة بواقعة من حياتها مع بعض التمويه، على أنها لم تلجأ إلى سجلات الشرطة أو المحاكم كما يفعل غيرها من كتاب رواية الجريمة، وهم كثيرون، بل كان اعتمادها الأكبر على مخيلتها الجامحة وذاكرتها القوية والثرية بالتفاصيل، وقالت الناقدة البريطانية جوليان سيمونز: «إن قارئ كريستى بالإنجليزية يلحظ دون أدنى شك أنها استخدمت لغة وسطى سلسة وسياله، لم تكتب بلغة شكسبيرية عالية، رغم أنها ارتقت بأعمالها عن مستوى الإنجليزية المتداولة، لغة المحادثة اليومية، ولعل هذا يفسر رواج قصصها ورواياتها لدى الأوساط الشعبية فى بريطانيا وأوروبا وما وراء البحار، كما يفسر سهولة ترجمتها إلى مختلف لغات العالم».