الأحد 22 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الكاتب الأكثر شعبية فى الكوكب..

تشيكوف.. 120 عامًا من البحث عن خليفة لسيد المسرح والقصة القصيرة

تشيكوف
تشيكوف

- فى حياته فاز بجائزة «نوبل» ثلاثة كُتّاب لا يعرف العالم عنهم شيئًا.. وتحول اسمه إلى دليل على فساد الجوائز ولجانها

- حفيد أحد العبيد الذى لم يفز فى حياته بغير جائزة محلية.. ويحلم كتاب القصة والمسرح فى العالم بالقرب من عبقريته

- فيرجينيا وولف: نحتاج مع تشيكوف إلى حس جرىء وواعٍ بماهية الأدب لكى نستمع إلى اللحن بالشكل الصحيح

- قال عنه جوركى: «إذا تذكرته يعود النشاط إلى حياتك ويدخلها المعنى».. وقال تولستوى: «ميزة فنه أنه مفهوم وقريب لكل إنسان»

رغم مرور اكثر من مائة وعشرين عامًا على توقف قلبه فى الخامس عشر من يوليو 1904، ما زال العالم كله يبحث عن خليفة لأنطون بافلوفيتش تشيكوف، يقارنون جميع كتاب المسرح والقصة به، يبحثون بين محترفى الكتابة الأدبية من الأطباء عن شبيه له، فى تصوراته للأدب، فى أساليب عمله وطرقه فى الكتابة.

ولأنه بدأ رحلته مع الكتابة المسرحية خلال فترة دراسته بكلية الطب فى جامعة موسكو، نقل عنه كثيرون مقولة «الطب زوجتى، والأدب عشيقتى»، وكلما ظهر كاتب قصة يعمل فى حرفة الطب، تبدأ رحلة المقارنة، والدعاية له باعتباره «تشيكوف روسيا الجديد»، أو «تشيكوف اليابانى» أو الأمريكى أو أيًا كان.. وهو ما حدث فى مصر مع أكثر من طبيب، بداية من الراحل يوسف إدريس، الذى تماس مع تشيكوف فى منطقتى نفوذه «القصة القصيرة والمسرح»، ثم تكرر مع كثيرين غيره، وصولًا إلى الكاتب الكبير محمد المخزنجى، الذى اكتفى من تشيكوف بالقصة القصيرة، وأغلب ظنى أنه لو حاول فى المسرح لكان له شأن كبير مماثل لموقعه على خريطة القصة القصيرة العربية.. عشرات الكتاب حول العالم عاش النقاد والصحفيون يطلقون عليهم لقب «تشيكوف»، دون أن يتجاوزه أحدهم، أو يتحول اسم أحدهم إلى أيقونة مماثلة، أو حتى مجاورة.. ما يدفعنى شخصيًا للتساؤل، ألم تشهد الكرة الأرضية عبقرية قصصية أو مسرحية تفوق ذلك الكاتب الذى لم تطل فترة وجوده على سطح البسيطة أكثر من أربع وأربعين سنة وخمسة أشهر وسبعة عشرة يومًا، أنتج خلالها أكثر من 400 قصة قصيرة، و70 قصة متوسطة الحجم، و7 مسرحيات طويلة وعشرًا من مسرحيات الفصل الواحد؟! هل يعرف من يحلمون بخلافة تشيكوف، أو الانتساب لاسمه أنه لم يفز طوال حياته بغير جائزة محلية هى جائزة «بوشكين» لأفضل إنتاج أدبى عام 1887، ولم يهتم بأى تكريمات أو جوائز، محلية أو عالمية، وكأنه أراد أن يكون اسمه بمثابة الدليل الحى على فساد لجان تحكيم الجوائز المحلية والعالمية، وأن الجوائز لا تصنع كاتبًا.. لا تضيف شيئًا إلى موهبة كبيرة، أو تنقص منها.. فاز بجائزة «نوبل» فى حياته ثلاثة كُتّاب لا يعرف العالم اليوم عن أحدهم شيئًا، ولا أظن أن هناك بقعة على سطح الكرة الأرضية لم يتردد فيها اسم تشيكوف، فما سر هذا الرجل؟! كيف بدأت رحلته مع الكتابة وإلى أين انتهت؟! وكيف استطاع خلال حياته شديدة القصر التأثير على مجريات اثنين من أعظم فنون الكتابة الأدبية لسنوات طويلة لاحقة؟!

تشيخوف مع عائلته

نصيحة غير مجربة

«وقاك الله شر أن تقرأ مؤلفاتك لأحد قبل نشرها، لا تقرأها لأحد، ولو كانت بروفات الطبع».. 

هذه العبارة هى نص نصيحة عظيم المسرح والقصة القصيرة أنطون بافلوفيتش تشيكوف لصديقه الكاتب الروسى ألكسندر كوبرين، التى لم يستطع هو نفسه الالتزام بها طوال حياته القصيرة، ربما جاهد لتنفيذها فى سنواته الأخيرة التى عاشها كتومًا صامتًا إلى حد أثار دهشة كثير من المقربين منه، حتى إن كوبرين قال ذات مرة ما نصه: «تقريبًا.. نحن لا نعرف عن عمله شيئًا، لا عن أسرار إبداعه، ولا عن أساليب عمله الخارجية العادية».. على أن الأمر لا يخلو من بعض الإشارات إلى أسرار موهبته الكبيرة، ربما نجدها فى حكايات أصدقائه المقربين، خصوصًا رسائله إلى تلميذه الأقرب مكسيم جوركى، الروائى الروسى الملقب بأيقونة البروليتاريا، أو فى رحلة حياته شديدة القصر، الكثيرة التقلبات والانتقالات والأحزان، الغنية بالتفاصيل والتحديات والمسئوليات المبكرة، وفى ما كتبه عنه نقاد ومبدعون اقتربوا من عوالمه، فتأثروا بها، وحاولوا تفكيكها وقراءة ما بين سطورها. 

يقول كوبرين: «يقال إنه كان فيما مضى أكثر كرمًا فى شأن إطلاع الآخرين على أسرار عمله، كان ذلك فى الفترة التى كان يكتب فيها كثيرًا جدًا وبسرعة كبيرة، فقد قال هو نفسه إنه كان يكتب قصة قصيرة كل يوم»، وقالت والدته يفجينيا ياكوفافنا تشيكوف: «عندما كان أنطوشا طالبًا، كان يحدث أن يجلس صباحًا لتناول الشاى، وفجأة يستغرق فى التفكير، ويحدق أحيانًا مباشرة فى عينى جليسه، ولكنى أعرف أنه لم يعد يرى شيئًا ثم يستخرج المفكرة من جيبه، ويكتب فيها بسرعة، ثم يستغرق فى التفكير من جديد».

ويذكر كوبرين، أن تشيكوف فى السنوات الأخيرة من حياته أخذ يحاسب نفسه بمزيد من الصرامة والتشدد، فكان يستبقى القصص لديه عدة سنوات، ولا يكف عن تنقيحها، وإعادة صياغتها، ومع ذلك؛ وبالرغم من هذا العمل المدقق كانت بروفات المطبعة العائدة منه تبدو مليئة بالعلامات والإشارات والإضافات.. كى ينجز العمل الأدبى كان ينبغى أن يكتبه دون انقطاع. قال ذات مرة: «إذا ما تركت المؤلَف فترة طويلة، فإننى لا أستطيع بعد ذلك أن أنهيه، وعندها أحتاج إلى أن أبدأ من جديد».

والحقيقة أننى لا أظن أننى أضيف جديدًا إذا ذهبت إلى أنه لا يذكر فن القصة القصيرة فى أى مكان فى العالم دون ذكر تشيكوف، ولا يذكر تشيكوف دون حديث عن القصة القصيرة، وكأنهما توأم ملتصق لا وجود لأحدهما دون الآخر.. غير أن ما لا يعرفه كثيرون أن المسرح كان هو ملعبه الأثير، منه بدأت شهرته، وبه تواصلت، واستمرت وتوسعت فى كامل الكرة الأرضية، حتى إن مسرحياته تتصدر الركن الأبرز فى «ريبرتوار» المسرح العالمى إلى جانب البريطانى الأشهر وليم شكسبير، وكتب آلان تويج، رئيس تحرير وناشر مجلة مراجعة الكتب الكندية «بى سى بوك وورلد» ما نصه: «يمكن للمرء أن يزعم أن أنطون تشيكوف هو ثانى أكثر كاتب شعبية على هذا الكوكب، ووفقًا لقاعدة بيانات الأفلام «آى إم دى بى» فإن شكسبير فقط هو من يتفوق على تشيكوف من حيث كم المعالجات السينمائية لأعماله حول العالم، ولكننا عمومًا نعرف عن تشيكوف أقل كثيرًا مما نعرفه عن شكسبير الغامض».. ولمن لا يعرف فكلمة «ريبرتوار» الفرنسية الأصل، تحمل الكثير من المعانى والدلالات التى تختلف بحسب السياق والحقل الدلالى، فهى «الذخيرة» فى مصطلحات الصناعات العسكرية، وهى «المرجع» و«الدليل» فى عالم الأدب والفن، و«الفهرس» فى دنيا الطباعة والنشر، وهى فى المسرح كل ما ذكرت.. هى الأعمال العظيمة التى لا تاريخ صلاحية لها ولا نهاية، لا تتوقف عمليات إعادة إنتاجها على مر الزمن، ولا يفقد أى من عناصر نجاحه وتفوقه.. حتى إن المخرج الروسى الشهير قسطنطين ستانسلافسكى قال عنه: «بعد نجاح مسرحيتى «النورس» و«الخال فانيا» لم يعد بوسع المسرح أن يمضى بدون مسرحية جديدة لتشيكوف، وهكذا أصبح مصيرنا منذ ذلك التاريخ معلقًا بيدى أنطون بافلوفيتش، فإذا قدم مسرحية فسنقدم موسمًا، وإذا لم يقدمها فسيفقد المسرح رونقه، ومن الطبيعى إذن أن نهتم بسير العمل لدى تشيكوف، فيما قال عنه معاصره الروسى الأشهر ليف تولستوى: «تشيكوف فنان لا نظير له، إنه فنان الحياة، وميزة فنه أنه مفهوم وقريب، ليس لكل إنسان روسى فحسب، بل ولكل إنسان عمومًا».

بدأت شعبية تشيكوف فى الغرب والولايات المتحدة متأخرة قليلًا، مع اتساع تأثير نظام ستانسلافسكى للتمثيل، ومفهومه للنص الفرعى، وهو من كتب عن مسرح تشيكوف: «إن تشيكوف غالبًا ما كان يعبر عن أفكاره، ليس من خلال الحوار، بل فى فترات التوقف، بين السطور، أو فى ردود تتكون من كلمة واحدة، فالشخصيات عنده غالبًا ما تشعر وتفكر فى أشياء لا يتم التعبير عنها فى سطور الحوار الذى ينطقونه»، ويذهب النقاد إلى أن كثيرًا من كتاب المسرح المعاصرين تعلموا من تشيكوف كيفية استخدام المزاج العام للقصة والتفاصيل الدقيقة الظاهرة، وتجميد الأحداث الخارجية فى القصة؛ لإبراز الحالة النفسية والداخلية للشخصيات، كما تحول مبدأ بندقية تشيكوف الدرامى إلى قاعدة أساسية فى الكتابة المسرحية، وهو المبدأ الذى يقوم على فكرة أنه «يجب حذف كل ما ليس له علاقة بالقصة، فإذا قلت فى الفصل الأول إن هناك بندقية معلقة على الحائط، فيجب أن تنطلق فى الفصل الثانى أو الثالث، وإذا لم يحدث ذلك، فلا ينبغى أن تكون معلقة هناك».

وكان جورج برنارد شو أحد أوائل غير الروس الذين أشادوا بمسرحيات تشيكوف، فوضع لإحدى مسرحياته عنوانًا فرعيًا «فانتازيا حول موضوعات إنجليزية بمزاج روسى»، مشيرًا إلى أوجه التشابه بين الطبقة المالكة البريطانية ونظيراتها الروسية كما صورها تشيكوف: «نفس الطيبة واللطف، ونفس العبث المطلق»، بينما لا يمكننى شخصيًا التعامل مع كلمات إرنست هيمنجواى: «إن تشيكوف كتب حوالى ست قصص جيدة، لكنه كان كاتبًا هاويًا»!!، بغير اعتباره شكلًا من أشكال الاضطراب الأمريكى فى قراءة كاتب ينتمى إلى المعسكر الروسى، وربما كانت كلماته تلك نتيجة لمروره بواحدة من نوبات الاستعراض المعروفة عنه، فهو نفسه، فى تصورى، لم يكتب ست قصص جيدة!!

أما فلاديمير نابكوف، الشاعر والروائى الروسى الأمريكى فجاءت كلماته لتكشف بصورة أوضح عن حالة الاضطراب الأمريكى أو الغربى عمومًا مع نصوص تشيكوف المسرحية والقصصية، فهو من ينتقده قائلًا عن أعماله إنها «مزيج من النثر المروع، والنعوت الجاهزة، ومن التكرار»، ولكنه يستطرد موضحًا: «ومع ذلك، فإن أعماله هى التى يجب أن آخذها معى إذا ذهبت فى رحلة إلى كوكب آخر»، ويصف قصته «السيدة والكلب» بأنها واحدة من أعظم القصص التى كتبت على الإطلاق، فى تصويرها لعلاقة إشكالية، كما يصف تشيكوف بأنه يكتب «بالطريقة التى يتعامل بها شخص مع أهم الأشياء فى حياته، ببطء، ولكن دون انقطاع، وبصوت خافت قليلا»، وبالنسبة للكاتب والمخرج البريطانى ويليام بويد، فقد كان الإنجاز التاريخى لتشيكوف هو التخلى عن «حبكة الحدث» من أجل شىء أكثر «ضبابية وتمزيقًا.. أو بعبارة أخرى يتم العبث به بواسطة الحياة».

ومن جانبها حاولت فيرجينيا وولف تأمل حالة الجودة الفريدة لقصص تشيكوف فى كتابها «القارئ العادى»، فكتبت ما نصه: «ولكن هل هذه هى النهاية، إننا نتساءل؟ لدينا شعور بأننا تجاوزنا إشاراتنا؛ أو وكأن لحنًا توقف فجأة دون النغمات المتوقعة لنهايته، ونقول إن هذه القصص غير حاسمة، ثم نستمر فى صياغة نقد قائم على افتراض أن القصص لابد وأن تنتهى بالطريقة التى ندركها أو نعرفها.. وبهذا فإننا نطرح مسألة مدى ملاءمتنا كقراء.

عندما يكون اللحن معتادًا ومألوفًا والنهايات حاسمة.. فالعشاق مجتمعون، والأشرار مرتبكون، والمكائد مكشوفة، كما هى الحال فى أغلب الروايات الفيكتورية، فإننا لا نستطيع أن نخطئ، ولكن عندما يكون اللحن غير مألوف، والنهاية نغمة استجواب، أو مجرد معلومات بأنهم مستمرون فى الحديث، كما هى الحال فى تشيكوف، فإننا نحتاج إلى حس جرىء وواعٍ بالأدب؛ لكى يجعلنا نستمع إلى اللحن، وخصوصًا تلك النغمات الأخيرة التى تكمل حالة الانسجام مع النص».

تشيخوف مع زوجته أولغا كنيبر

الطريق إلى كأس الشمبانيا الأخير

ولد أنطون بافلوفيتش تشيكوف فى ٢٩ يناير ١٨٦٠، فى تاجنروج، وهى ميناء صغير على بحر آزوف فى جنوب روسيا، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال لبافيل إيجوروفيتش تشيكوف، التاجر ومدير محل البقالة، الذى كان ابنًا لعبد اشترى حريته وأسرته من بعده..

دخل أنطون مدرسة يونانية للأولاد، وفى عامه الثامن أرسل إلى «تاجنروج جيمنازيوم»، وهى نوع من المدارس الثانوية التى توفر التعليم المعتاد إلى جانب التعليم الرياضى، لكنه أثبت فشلًا فى النشاط والرياضة، وقيل إنه احتجز فى قبوها السفلى لمدة عام بسبب فشله ١٥ مرة فى امتحان اليونانية، واشتهر بتعليقاته الساخرة، ومزاحه وبراعته فى إطلاق الألقاب الساخرة على الأساتذة، وأنه كان يستمتع بالتمثيل فى مسرح الهواة، وأحيانًا كان يؤدى أدوارًا فى عروض المسرح المحلى. وقد جرب يده آنئذ فى كتابة «مواقف» قصيرة، وقصص هزلية فكاهية، كما أنه ألف فى تلك السن مسرحية طويلة اسمها «دون أب»، لكنه تخلص منها فيما بعد، خصوصًا أنها لم تعجب شقيقه الأكبر ألكسندر.

كان والده متعسفًا فى تربيته لأبنائه، لكنه أيضًا كان مديرًا للجوقة الكنسية الأرثوذكسية اليونانية، أما والدته فكانت راوية ممتعة، فكانت تحكى لأطفالها عن رحلاتها مع والدها تاجر الأقمشة فى جميع أنحاء روسيا، وربما كان ذلك سبب مقولة تشيكوف «حصلت على الموهبة من والدى، أما الروح فأخذتها من أمى».

فى عام ١٨٧٦، اضطر والده إلى الهرب من تاجنروج إلى موسكو، بعدما أعلن إفلاسه بسبب إفراطه فى الحصول على تمويلات لبناء بيت جديد، وتجنبًا للسجن، فاصطحب معه أكبر اثنين من أبنائه، نيكولاى وألكسندر، اللذين كانا طالبين جامعيين، فيما بقى أنطون ثلاث سنوات أخرى لاستكمال تعليمه، حيث اضطر إلى دفع تكاليف دراسته، فعمل فى عدة مهن مختلفة، كمدرس خصوصى، وفى اصطياد وبيع الطيور، كما عمل فى الرسومات التخطيطية للصحف، وكان يرسل بكل روبل يستطيع توفيره إلى موسكو، مع رسائل ممزوجة بروح الدعابة للرفع من معنويات العائلة، وخلال تلك الفترة مر تشيكوف بسلسلة من العلاقات العاطفية، كانت إحداها مع زوجة معلم، وحضر أول عرض مسرحى فى حياته، وكانت «أوبرا هيلين الجميلة» لباخ عندما كان فى الثالثة عشرة، فوقع فى عشق المسرح، وكان ينفق جزءًا كبيرًا من مدخراته لحضور المسرحيات، وكان مقعده المفضل فى الخلف؛ نظرًا لأن سعره أقل، ولأن «الجيمنازيم» لم تكن تسمح لطلبتها بالذهاب إلى المسرح إلا بتصريح خاص لا يصدر بسهولة، وفى العطلات الأسبوعية فقط، كان أنطون وأصدقاؤه يقومون بالحيل التنكرية؛ للتهرب من طاقم المدرسين، الذين يبحثون عن الطلبة داخل المسرح.

وفى عام ١٨٧٩ أنهى تشيكوف دراسته الثانوية بتفوق، والتحق فى العام نفسه بكلية الطب فى جامعة موسكو، فلحق بأسرته، وتولى مسئولية دعم جميع أفراد الأسرة، ودفع الرسوم الدراسية عنهم، فكان يكتب يوميًا «الاسكتشات» الفكاهية والمقالات الساخرة القصيرة، وينشرها فى الصحف الفكاهية تحت أسماء مستعارة، أشهرها «أنتوشا تشيكونتا»، وأكسبته تخريجاته المذهلة سمعة واسعة، ووصف وقتها بمؤرخ الشارع الروسى الساخر، وكتب تشيكوف خلال سنوات دراسته الخمس، والأولى من نشاطه الإبداعى، نحو ٤٠٠ أقصوصة، وخاطرة نقدية ساخرة، صور فيها شخصيات تنتمى إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، ووصف فيها ضيق الأفق، وبلادة الحس، كما سخر من التفاهة والنفاق والجبن والقسوة، وكل ما يحرف الإنسان عن إنسانيته، وفى عام ١٨٨٤، تخرج كطبيب، ومارس مهنة الطب لبعض الوقت، وكان يعالج الفقراء مجانًا، ولكنه سرعان ما وقف معظم وقته وجهده على العمل الأدبى بعدما أحرز القليل من المال، وفى عام ١٨٩٢ اشترى مزرعة «ميلوخوفو» فى ريف موسكو، وانتقل إلى هناك للسكن مع أبيه وأمه وإخوته، ويصف ميخائيل تشيكوف، مدى الالتزامات الطبية لأخيه بقوله: «منذ اليوم الأول الذى انتقل فيه تشيكوف إلى ميليخوفو، بدأ المرضى يتوافدون إليه من مسافة عشرين ميلًا. كانوا يأتون سيرًا على الأقدام، أو يُنقلون فى عربات، وكثيرًا ما كان يتم نقله إلى المرضى على مسافة بعيدة. وفى بعض الأحيان، كانت النساء والأطفال من الفلاحين يقفون أمام بابه فى انتظاره منذ الصباح الباكر».

فى مارس ١٨٩٧ تعرض تشيكوف إلى نزيف كبير فى الرئتين، بينما كان فى زيارة لموسكو، وتم إقناعه بصعوبة بالذهاب إلى العيادة، حيث تبين أنه مُصاب بمرض السل فى الجزء العلوى من رئتيه، ما أدى إلى تغير نمط حياته كله، وبعد وفاة أبيه فى أكتوبر ١٨٩٨، واشتداد مرض السل عليه قرر الانتقال إلى شبه جزيرة القرم، فباع مزرعة ميلوخوفو عام ١٨٩٩ وانتقل إلى يالطا، حيث اشترى قطعة أرض فى ضواحى المدينة، وبنى فيها فيلا أقام فيها مع أمه وأخته، وزرع فيها الأشجار والزهور، واستقبل ضيوفه من الكتاب والفنانين، وفى مقدمتهم ليو تولستوى ومكسيم جوركى، وفى عام ١٩٠٠ انتخب عضوًا فخريًا فى أكاديمية العلوم الروسية، ولكنه تخلى عن اللقب بعد عامين، احتجاجًا على إلغاء القيصر انتخاب مكسيم جوركى عضوًا فخريًا فى الأكاديمية، وفى مايو ١٩٠١ تزوج الممثلة المسرحية أولجا كنيبر، وبحلول مايو ١٩٠٤، أشار ميخائيل تشيكوف إلى أن «جميع من رأوه شعروا بداخلهم أن نهايته ليست ببعيدة»، وفى ٣ يونيو انطلق مع زوجته أولجا باتجاه مدينة الحمامات الألمانية ومصحة بادن فايلر، فى الغابة السوداء، حيث كتب رسائل مرحة إلى شقيقته ماشا واصفًا المواد الغذائية والبيئة المحيطة، ومؤكدًا لوالدته بأنه فى تحسن مستمر، حتى إنه فى رسالته الأخيرة، شكا إليها من طريقة لبس النساء الألمانيات، وحيث توفى فيها فى الخامس عشر من يوليو ١٩٠٤، وبعد رحيله بنحو أربع سنوات، وفى عام ١٩٠٨، كتبت أرملته أولجا عن اللحظات الأخيرة فى حياته ما نصه: قام أنطون بشكل غير اعتيادى، وجلس بشكل مستقيم وقال بالألمانية بصوتٍ عالٍ وبوضوح، مع أنه لم يكن يتقن اللغة الألمانية «أنا أموت»، فقام الطبيب بتهدئته وحقنه بمادة الكافور، وأمر بإحضار الشمبانيا له.. شرب أنطون كأسًا كاملة منها، ومن ثم ابتسم لى وقال: «لقد مضى زمن طويل منذ أن شربت الشمبانيا»، وعندما شربها جلس على جانبه الأيسر بهدوء، وكان لدى الوقت لأذهب إليه وأستلقى بقربه، وناديته، لكنه توقف عن التنفس وكان ينام بسلام وكأنه طفل».

تشيخوف (يسار) مع أخيه نيقولاي عام 1882

أربع سنوات بعيون أيقونة البروليتاريا

لعله من المناسب هنا أن أذكر أن هذه الأسئلة التى بدأت بها هذا الموضوع ربما كانت هى ما دار فى عقل الكاتب الروسى الكبير مكسيم جوركى الذى ارتبط بعلاقة صداقة حميمة مع تشيكوف، ورغم أن علاقتهما لم تزد عن أربع سنوات، كانت هى السنوات الأخيرة فى حياة تشيكوف، كان جوركى كثيرًا ما يزوره فى المزرعة التى اشتراها فى مرحلة متأخرة من حياته، ورغم أنه لا يصغره بأكثر من ثمانى سنوات، فإنه كثيرًا ما ردد أن تشيكوف هو أستاذه الذى تتلمذ على إبداعه، وتكشف مراسلاتهما التى ترجمت إلى العربية فى ٢٠١٨، وصدرت عن أكثر من دار نشر مصرية وعربية، عن طلب جوركى نصائح وإرشادات تشيكوف، وهو من نقل إلى العالم الكثير من التفاصيل التى تخص حياته وآراءه ومواقفه، ولعله من اللافت أن جوركى لم يكن يعرف أن ذلك الطبيب الذى حفر اسمه عميقًا فى تاريخ الأدب العالمى لا يكبره بغير ثمانى سنوات، فكتب إليه متسائلًا كيف لرجل فى الأربعين من عمره أن يصنع ما صنعه، وأنه كان يظن أنه أكبر من ذلك بكثير، إذ كانت بداية تعارفهما فى نهايات العام ١٩٩٨، عندما كتب الشاب جوركى إلى تشيكوف خطابًا قال فيه: «أبلغنى ميروليوبوف أنكم عبرتم عن رغبة فى تلقى كتبى، لذا أرسلتها لكم، وأود فى نفس الوقت أن أكتب لكم شيئًا، فثمة ما أقوله لكم أنطون بافلوفيتش.. أود أن أعبر لكم صراحة عن محبة كبيرة أكنها لكم منذ نعومة أظافرى؛ أن أخبركم بكم المتعة التى تمنحنا إياها موهبتكم الفذة، تلك الموهبة الآسرة للروح، التراجيدية، البديعة دومًا، والرقيقة كذلك. آه، يا إلهى.. أشد على يديك؛ هذه يد فنان، ذى قلب، وشجون. علىَّ أن أفعل، أليس كذلك؟

أسأل الرب أن يمد فى عمرك حتى يدوم مجد الأدب الروسى، أسأله أن يهبك صحة، جلدًا؛ وأن تسعد روحك، فكم من لحظات رائعة عشتها مع كتبك، وكم ذرفت الدموع فوق صفحاتها، ويصيبنى السعار كذئب وقع فى فخ، ثم لا ألبث أن أضحك طويلًا وقد مس روحى الأسى.

ربما سيثير خطابى ضحككم، ذلك لشعورى أنى أكتب حماقات مثيرة للسخرية، وفى غير موضعها.. أترون، ما هذه الحماقة إلا لأن كل ما يصدر عن القلب هو الحماقة بعينها. أحمق، حتى ولو كان عظيمًا. تعلمون هذا بالطبع.

مرة أخرى أشد على يديك. موهبتكم روح طاهرة مشرقة، تكبلها الأرض، وضرورات الحياة الخسيسة، التى منها ينبع الألم. فلتنشج هذه الموهبة، وليصل نشيجها للسماء مسموعًا جليًا».

ورد تشيكوف عليه بهذا الخطاب: «المحترم ألكسى مكسيموفيتش، لقد تسلمت خطابك وكتبك منذ وقت طويل مضى، وكلما عزمت بالرد عليك، أمور كثيرة تحول بينى وبين ذلك، سامحنى.. أرجوك.

عندما تتوافر لدى ساعة فراغ، سأجلس لأكتب إليك. بالأمس ليلًا قرأت كتابك «سوق جولتفا» الذى أعجبنى كثيرًا، ووجدت فى نفسى الرغبة أن أكتب إليك هذه السطور، حرصًا منى على عدم تسرب الاستياء إلى نفسك منى، وأن تظن بى الظنون.

كم أنا سعيد بتعارفنا، وأود أن أشكرك معبرًا عن امتنانى الكبير لك ولميروف، الذى كتب لك عنى. وفى انتظارى للحظة السعيدة التى سأحظى فيها بمزيد من الوقت، أرسل إليك خالص أمنياتى، وأشد على يدك بود».

وهكذا كان اللقاء الأول بينهما، وهو اللقاء الذى كان له أثر كبير فى تعميق الصلة بين الكبيرين، فكتب جوركى لتشيكوف بعدها ما نصه: «أنت أول إنسان أراه فى حياتى يتمتع بهذا القدر من التعفف والحرية»، وفى المقابل، ومع استمرار التواصل وتعدد اللقاءات، أدرك تشيكوف أنه أمام موهبة كبيرة، فصار بالنسبة له صديقًا حميمًا، وراعيًا لموهبته، فقدمه لجماعة الفن المسرحى فى موسكو «صعلوك الفولجا ذو الموهبة الكبيرة»، والتى طلبت منه كتابة مسرحية لتقديمها.

ومن رسائله الأولى كتب جوركى أيضًا: «إنى لا أتحدث إليك لأنى أحبك فحسب، بل لأنى عالم بأنك رجل تكفيه كلمة واحدة كى ينشئ صورة، ويؤلف جملًا ويكتب قصة.. قصة رائعة تنبش أعماق الحياة وجوهرها كما تفعل أداة السبر بالأرض»، على أن من طرائف ما تضمنته رسائل جوركى وتشيكوف، أن تشيكوف كان يشكو مرارة الوحدة، فيما كان جوركى يتمناها، حتى إنه كتب ذات مرة ما نصه: العزلة بداية الحكمة، وإننى لأود أن أكون فى عزلة تامة، عزلة كعزلتك، يخيل لى أن الحياة تعاملك كقديس من القديسين، فلا تعكر عليك تلك العزلة».

وفيما بعد كشف جوركى كثيرًا من جوانب شخصية تشيكوف وآرائه، ومنها مثلًا تلك الحكاية التى يقول فيها: «كنت فى زيارته، وكان يتحدث بحيوية، قائلًا: لو كانت لدى نقود كثيرة لأقمت هنا مصحة مخصصة للمرضى من المدرسين، المدرس يا عزيزى بحاجة للعلاج وبحاجة إلى معرفة كل شىء، آه لو تعلم مدى حاجتنا إلى مدرس جيد ذكى مثقف.. المدرس عندنا، عامل يدوى، شخص قليل الثقافة، ينبغى ألا نسمح بإذلاله من الشرطى، والتاجر الغنى، القسيس، شيخ البلد، مدير المنطقة، إن من الحماقة أن ندفع ملاليم لرجل مدعو لتعليم الشعب، أتفهم يا صاحبى جوركى؟ تربية الشعب، لا يجوز أن نسمح أن يسير فى الأسمال، ويرتعش من البرد، ويختنق بدخان المدافئ السيئة، وفى الثلاثين من عمره يموت بالسل.. ها قد ألقيت عليك مقالة كاملة، سأسقيك شايًا مكافأة على صبرك».

ويضيف جوركى: «كثيرًا ما كان يتحدث بحرارة وجدية، ثم يسخر من نفسه فجأة، وفى هذه السخرية الرقيقة الحزينة تحس بالتشاؤم الرهيف لشخص يعرف قيمة الكلمة»، ثم يستطرد: «حدث أن أتى مدرس ما لمقابلته، وكان بطبيعة الحال يود أن يظهر بمظهر المثقف الجليل أمام الأديب الشهير، وبدأ حديثًا حول المركب السايكولوجى وإمكانية الموقف الموضوعى، وما شابه من أفكار، فسأله تشيكوف بكل رقة: من يضرب التلاميذ فى مدرستكم؟! هنا انتفض المدرس رعبًا، وقال: لست أنا وأقسم على ذلك، إنه «ماكاروف»، ولكن مكاروف عنده أربعة أولاد، وزوجته مريضة، وهو أيضًا مسلول، وراتبه ٢٤ روبلًا، ويسكنون غرفة واحدة رطبة، وفى ظروف كهذه قد تضرب الملائكة!! والأولاد ليسوا ملائكة. 

هكذا فى ثوانٍ استطاع تشيكوف أن ينزع عن ضيفه الثوب التنكرى ويدخل إلى أعماقه، ولهذا قال له ذلك المدرس فى نهاية اللقاء: «عندما جئت إليك كنت أشعر بالوجل والرعشة، فانتفخت كالديك الرومى، أردت أن أريك أنى أيضًا لى شأن، ولكنى أتركك كشخص طيب، قريب، يفهم كل شىء.. إن العظماء هم أبسط وأكثر فهمًا وأقرب بأرواحهم إلينا من كل هؤلاء الحقراء الذين نعيش بينهم، وداعًا، لن أنساك أبدًا».

وكان تعليق تشيكوف بعد ذهاب المدرس لصديقه الكبير: «هذا شاب طيب لن يعلم طويلًا، سيكيدون له وسيطردونه».

يستكمل جوركى شهادته عن تشيكوف: لقد عاش حياته كلها على موارد روحه، كان دائمًا صادقًا مع نفسه، كلما التقى شخصًا مسرفًا فى الزينة، تتولاه الرغبة فى تخليصه من كل التوافه المضنية التى لا لزوم لها، والتى تشوه الوجه الحقيقى والروح الحية، فقد أحب كل ما هو بسيط وحقيقى وصادق، وكانت له طريقة فريدة فى تبسيط الناس، والوصول معهم إلى مناطق اتفاق إنسانية أكثر جمالًا، زارته ذات مرة ثلاث نساء متأنقات ببذخ وبعطور قوية، وحرائر غالية.. وسألته إحداهن: كيف ستنتهى الحرب يا عزيزى؟ فرد تشيكوف بابتسامة «على الأرجح بالسلام»، سألت «لكن من تعتقد أنه سينتصر، الأتراك أم اليونانيون؟! فكان رده «أعتقد أنه الأقوى من سينتصر»،.. «ومن هم أقوى فى رأيك؟»، «من يتغذون أفضل، ومن هم أكثر ثقافة»، «من تحب أكثر؟! الأتراك أم اليونانيين؟!»، «أنا أحب المرملاد، هل تحبينها يا سيدتى؟! والمرملاد هى حلوى روسية من مربى الفواكه، هنا كان رد السيدة «نعم أحبها كثيرًا ورائحتها جميلة للغاية»، فتدخلت أخرى مكملة الحديث عن تلك الحلوى، وانهمكت السيدات الثلاث مع تشيكوف فى حديث طويل عنها، فكان من الواضح أنهن راضيات تمامًا عن مسار الجلسة، وأنه لا لزوم للتظاهر باهتمامهن بالحرب، حتى إن إحداهن قالت له فى نهاية اللقاء «سنرسل إليك المرملاد التى تحبها».

ومما يحكيه جوركى أيضًا أنه قابل وكيل نيابة شابا، وكان ذلك الوكيل يتحدث عن إحدى قصص تشيكوف، ويعلق بأن المجرم فى القصة ينبغى أن ينال عقابًا صارمًا، وأن العدالة، وأن المجتمع، فسأله تشيكوف: «هل يعجبك الفونوجراف؟!»، «أوه نعم، إنه اختراع مدهش»، فرد تشيكوف: «أما أنا فلا أطيق الفونوجرافات، لأنها تتحدث وتغنى بدون أن تحس، كل ما يخرج منها يخرج بصورة كاريكاتيرية ميتة، هل تهتم بالتصوير؟ فشرع الوكيل يتحدث عن عشقه للتصوير، ونسى تمامًا الفونوجراف، وبعد ذهابه علق تشيكوف قائلًا: «أمثال هذه البثور على مقاعد العدالة هم الذين يتصرفون بمصائر البشر»!

يقول جوركى: «كان الابتذال عدو تشيكوف الأول الذى قضى عمره كله مقاتلًا ضده، كان موهوبًا فى فن اكتشاف الابتذال، وإبرازه، وهو فن تخلقه الرغبة الحادة فى رؤية الناس البسطاء، جميلين متجانسين، كان قاضيًا قاسيًا وحادًا ضد الابتذال، فى الصبا، يبدو الابتذال شيئًا مضحكًا، ثم يحيط بالإنسان تدريجيًا، ثم يتغلغل بضبابه الرمادى فى عقله ودمه، كالسم والحرائق، فيصبح الإنسان أشبه بلافتة قديمة أكلها الصدأ، لا تستطيع أن تقرأ منها شيئًا».. «كان يحب البناء ويعشق البساتين، وتزيين الأرض، وبأى حدب كان يراقب أشجار الفواكه.. وكان يقول، كلمته التى أصبحت خالدة مثل أعماله: «لو أن كل إنسان زرع فى قطعة أرض كل ما يستطيع، لأصبح كوكبنا فتنة للناظرين»، وينهى جوركى كلامه عن تشيكوف بتلك العبارة شديدة الدقة والجمال: «هو إنسان إذا ما تذكرته، يعود النشاط إلى حياتك، ويدخلها من جديد معنى واضح».