الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خدعة ماركيـز.. مهدت له النازية ومولت شهرته المخابرات الأمريكية وجنى ثمار مجده كاسترو

ماركيـز
ماركيـز

- روايته الرابعة «مائة عام من العزلة» باعت 8 آلاف نسخة فى أسبوع واحد وبلغت مبيعاتها نصف مليون نسخة فى ثلاث سنوات

منذ اللحظة الأولى لظهور روايته الرابعة «مئة عام من العزلة»، يستحوذ الكولومبى الأشهر جابرييل جارثيا ماركيز على كل ما يخص تيار الواقعية السحرية فى الكتابة والإبداع حول العالم، ورغم معرفة الكثيرين أنها لم تكن روايته الأولى، وأنه كتب ثلاث روايات قبلها دون أن يعرف به أحد أو يلتفت إليه أحد، وأنه لم يكن أول من كتب رواية الواقعية السحرية، أو الواقعية العجائبية كما يطلق عليها البعض، يظل هو المرادف الأول والدال على ذلك التيار الجارف فى الرواية العالمية الحديثة، ويظل «جابيتو» كما كان يناديه المقربون من العائلة والأصدقاء، أو «جابو» حسبما كان يناديه الزعيم الكوبى فيدل كاسترو وعموم الشعبين الكوبى والكولومبى من بعده، هو النموذج الذى يطارد محبى فن الرواية فى عموم الكرة الأرضية، وتظل رائعته الأشهر «مائة عام من العزلة» هى الرواية الأكثر شعبية وانتشارًا من بين عشرات الروايات المهمة والفارقة التى كتبت ونشرت وفقًا لذلك التيار، على أننى أظن لن أكون مغاليًا إذا ذهبت إلى أنه لم يكن أبرع من كتب فى هذه النوعية من الروايات أيضًا، سبقه كثيرون كبار ونجوم فى بلدانهم وحول العالم، لكنها الهالة الضخمة التى أحاطت، وما زالت تحيط بروايته «مائة عام من العزلة»، تلك التحفة الأدبية التى نشرت فى يونيو 1967، وباعت ثمانية آلاف نسخة فى أسبوع واحد، بعد أن نشرت صحيفة «موندو نويفو» الكولومبية الممولة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فصولًا منها، رغم منعه لسنوات من دخول أمريكا، وقيل إنها كانت تبيع طبعة جديدة كل أسبوع حتى بلغت مبيعاتها نصف مليون نسخة فى أقل من ثلاث سنوات، وعلى الفور بدأت رحلة ترجمتها وانتشارها حول العالم، فتمت ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة، وحازت أربع جوائز دولية، ولم تمض سنوات حتى كانت تتصدر قائمة الأعمال التى أهّلت كاتبها للفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1982، لتنطلق معها أسطورة ساحر الرواية اللاتينية، ذى الحضور الصاخب.

ماركيـز

«الواقعية السحرية».. من ألمانيا النازية إلى أمريكا اللاتينية

ربما لا يعرف الكثيرون أن نشأة تيار الواقعية السحرية لم تكن لها علاقة بالقارة اللاتينية العامرة بالسحر والسحرة، وإيقاعات السامبا وأشجار الكوكايين، بل من الأراضى الألمانية فى قلب القارة الأوروبية العجوز، فى مدينة مانهايم الواقعة فى جنوب غرب الجمهورية الألمانية الاتحادية، حيث نظمت مجموعة من الفنانين التشكيليين معرضًا جماعيًا قبلها بنحو نصف قرن أو يزيد، وتحديدًا فى عام ١٩٢٥، ضم ١٣٠ عملًا فنيًا لاثنين وثلاثين فنانًا، وكان من زواره الناقد الفنى الألمانى فرانك روه، الذى أطلق عليه مسمى «الواقعية السحرية»، فكانت هى المرة الأولى التى يظهر فيها ذلك التعبير لوصف طريقة للتعبير الفنى، وليصبح كل من ماكس بيكمان، وجورج جروسز، وكريستيان شاد، وكونراد فيليكمولر وأورتو ديكس، وغيرهم من رموز «التعبيرية» من أوائل المؤسسين لتيار الواقعية السحرية الذى رفضته النازية وأعلنت عداءها له، فوصفته بالفن المبتذل، أو «الفن المنحط» حسب التعبير الشائع وقتها، وجمعت أهم الأعمال واللوحات المنتجة فى تلك الفترة لحرقها فى ساحة عامة، ما ترافق مع عملية طرد واسعة لأساتذة الفن من مناصبهم وأعمالهم، وأدى إلى انتقال الحركة الجديدة إلى بقية دول الجوار الأوروبية، لكن تطورها لم يكن بالأمر السهل مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وضياع عدد كبير من اللوحات تحت قصف القنابل، ما دفع بكثير من الفنانين للهجرة إلى أمريكا اللاتينية حيث ترجمات «ألف ليلة وليلة» ورفيقتها رائعة ابن المقفع «كليلة ودمنة» التى تستند إلى استنطاق الحيوانات، واللتين تحظيان بمقروئية عالية فى غير بلاد العرب، وأغلب الظن أنهما أمدتا خيال كتاب وفنانى أمريكا اللاتينية بالكثير من الحيل والتقنيات والقصص الخلابة، إلى جانب طبيعة الحياة فى الأراضى الجديدة، إذ تكثر القصص والحكايات العجائبية المفعمة بالسحر والغموض، والمتجاوزة لواقع الحياة فى أوروبا وغيرها من دول العالم الحديث، ويذهب نقاد الأدب الحديث إلى أن حركة «الواقعية السحرية» تقوم على مزج العناصر المتقابلة والمتعارضة فى سياق العمل، لتختلط الأوهام بالحقائق، والتصورات أو الخيالات بالوقائع والأحداث، بحيث يتم تصوير ذلك كله ومزجه فى إطار من الحياد الشكلى أو الموضوعى الذى لا يوحى بأية ظلال للصنعة، وأن هذا التيار عمد إلى توظيف العناصر والقدرات الخارقة الشائعة قصصها بين الناس، والمستمدة من الأساطير الشعبية والخرافات وحكايات الجدات، واستخدامها فى صلب العمل الفنى والأدبى، مثل قدرة بعض الشخصيات على الطيران والسباحة فى الهواء، أو تحريك الأحجار بمجرد النظر إليها أو التفكير فيها، والقدرة على استحضار الجان والأرواح الضائعة، وغيرها ما يربك الحواس، خصوصًا مع تضفيرها فى إطار من الحكى المستند إلى سرد الوقائع الجافة، والتى لا تسمح للقارئ بمساحة يستطيع فيها التمييز بين ما هو حقيقى، وما هو غير طبيعى أو مفارق للواقع، ويرجح مؤرخو «الواقعية السحرية» أن أول رواية يمكن التأريخ بها لنشأته كانت «السيد الرئيس» للكاتب الجواتيمالى ميجيل أنخل أستورياس، والتى نشرت عام ١٩٤٦، وكانت ضمن حيثيات فوزه بجائزة نوبل عام ١٩٦٧، فيما ظهرت لدى الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس فى مجموعته القصصية «الألف» والتى نشرت عام ١٩٤٩، تليها رواية «بيدرو بارامو» للمكسيكى خوان رولفو عام ١٩٥٥، والتى قيل إنها حظيت باستقبال باهت من قبل النقاد والقراء، وبيع منها ألفا نسخة فقط، لكنها لاحقًا نالت استحسانًا كبيرًا لاحقًا، ناهيك عن أعمال جون شتاينبيك وماريو فارجاس يوسا وغيرهما من الكتاب الكبار الذين كتبوا أعمالًا شديدة الأهمية تحت تيار «الواقعية السحرية»، فيما جاءت «مئة عام من العزلة» فى يونيو ١٩٦٧، لتطغى على كل ما سبقها، وتضع تيار «الواقعية السحرية» فى بؤرة الاهتمام العالمى، وليرتبط باسمه وحده دون غيره، على أنه من سخرية القدر أن تتعاون الأضداد الأيديولوجية والسياسية لصناعة مجد كاتب دون غيره، وليحصد نتاج جهودها غير المقصودة فى الغالب خصم وعدو تاريخى، فتتعاون النازية مع المخابرات المركزية الأمريكية لإسعاد الزعيم الكوبى فيدل كاسترو.. تضيق النازية الأرض أمام رواد الواقعية السحرية ورموزها، وتطاردهم حتى آخر الأرض، إلى أمريكا اللاتينية، لتأتى المخابرات المركزية الأمريكية فتمول نشر الفصول الأولى من رائعة ماركيز، وصانعة مجده، وليذهب ذلك المجد على طبق سحرى إلى مائدة فيدل كاسترو ورفاقه ورموز حكمه، فيرتبط به اسم ماركيز، وتجمع بينهما صداقة ظلت محل ريبة واستهجان الكثيرن، حتى قيل إن ماركيز ظل لسنوات طويلة بمثابة «وزير الثقافة الشخصى لفيدل كاسترو».

ماركيـز

ثمانى سنوات لصناعة أسطورة

تعددت نشاطات جابرييل خوسيه دى لا كونكورديا جارثيا ماركيز الحياتية بصورة لا يقدر عليها شخص آخر، فهو الروائى والصحفى والناشر والناشط السياسى الكولومبى، الصديق الأقرب للرئيس الكوبى فيدل كاسترو، وغيره الكثير من الرؤساء والزعماء حول العالم، والذى عاش سنوات طويلة يختلف الصحفيون حول تاريخ ميلاده، فقيل إنه ولد فى السادس من مارس عام ١٩٢٧، وقيل إنه ولد عام ١٩٢٨، وظل هذا الاختلاف يلاحقه حتى تدخل بنفسه عام ٢٠٠٢، عندما أعلن فى كتابه «عشت لأروى» أن تاريخ مولده الحقيقى فى عام ١٩٢٧.

وجابرييل جارثيا ماركيز هو ابن جابرييل إيليخيو، ولويسا سانتياجا ماركيز إجواران، وولد فى مدينة «أراكاتاكا»، ماجدالينا فى كولومبيا، «فى التاسعة من صباح يوم الأحد السادس من مارس ١٩٢٧» حسبما جاء فى مذكراته المعروفة باسم «عشت لأروى»، ويحكى ماركيز أن جده لأمه كان عقيدًا فى الجيش الكولومبى، وأنه رفض علاقة ابنته بوالده لأنه عندما وصل إلى «أراكاتاكا» كان مجرد عامل تلجراف، ولم يجد فيه العقيد نيكولاس ماركيز الشخص المناسب لابنته، خصوصًا مع اعترافه بأنه «زير نساء»، فأرسلها خارج المدينة، بينما ظل جابرييل إيليخيو يلاحقها متوددًا بألحان الكمان الغرامية مرة، وقصائد الحب الملتهبة مرة أخرى، وبالرسائل التليجرافية التى لا تعد ولا تحصى مرات ومرات، وظل على ذلك حتى استسلمت عائلتها، وحصلت لويسا على تصريح بالزواج من جابرييل إيليخيو، فى ١١ يونيو ١٩٢٦ فى سانتا مارتا، وقال ماركيز إنه استوحى روايته «الحب فى زمن الكوليرا» من هذه الدراما العائلية، كما ذكر فى إحدى المقابلات الصحفية أن الفرق بين القصتين هو أن والديه تزوجا، وبعدها لم يصبحا شخصيات أدبية مألوفة للكتّاب، بينما استندت «الحب فى زمن الكوليرا» إلى قصة قرأها فى إحدى الصحف عن وفاة اثنين من الأمريكان، عن عمر قارب الثمانين عامًا، واللذين كانا يجتمعان كل عام فى «أكابولكو»، حتى قُتلا ذات يوم على ظهر قارب على يد أحد المراكبية. وأشار إلى أنه تم الكشف عن قصة الحب الرومانسية بينهما بعد وفاتهما، وقال: «كنت حقًا مفتونًا بهذه القصة. بالرغم من أنهما كانا متزوجين، كل منهما من شخص آخر».

بعد ولادة جابرييل بوقت قليل، وفى يناير ١٩٢٩، انتقل والداه للحياة فى مدينة «بارانكويلا»، وهى ميناء صغير عند مصب نهر «ماجدالينا»، حيث عمل والده كصيدلانى تاركًا ابنه فى رعاية جديه لأمه، فعاش السنوات الأولى من حياته فى ظلال جده العقيد نيكولاس ماركيز وجدته ترانكيلينا إجواران كوتس، وتأثر كثيرًا بحياتهما العامرة بالأحداث والمغامرات وقصص الأشباح والراحلين، واستمد منهما الكثير من المواقف والأحداث التى وظفها فى رواياته، ورغم أن فترة إقامته معهما لم تزد على ثمانى سنوات، لكنها ثمانى سنوات صنعت أسطورته، ومثلت المخزون الذى عاش لينتج منه القصص والروايات، بل واستمد منها أسلوبه الخاص فى الكتابة، ومنها مثلًا ما حكاه عن أن جده قتل رجلًا فى شبابه فى مبارزة بينهما، وهو ما ظل لسنوات طويلة يمثل عبئًا نفسيًا كبيرًا عليه، وكثيرًا ما قال له «لا يمكنك أن تتخيل كم يزن قتل شخص»!!

وإضافة إلى أنه كان أبًا رسميًا لثلاثة من الأبناء، كان لديه تسعة من الأبناء غير الشرعيين من أمهات كثيرات، كما كان محاربًا ليبراليًا فى حرب الألف يوم، وشخصًا يحظى باحترام كبير بين أقرانه، واشتهر بسبب رفضه السكوت عن مذبحة إضراب عمال مزارع الموز، الحدث الذى أدى إلى وفاة مئات من المزارعين على يد القوات المسلحة الكولومبية فى ديسمبر ١٩٢٨، والذى كتب عنه فى روايته «مئة عام من العزلة»، وهو الذى وصفه ماركيز بأنه كان أشبه ما يكون بـ«الحبل السرى الذى يربط التاريخ بالواقع»، وأنه فوق ذلك كله كان راويًا مخضرمًا، يحمل فى جعبته الكثير من الحكايات المدهشة، وهو من علمه الاستعانة الدائمة بالقاموس. 

أما جدته لأمه، والتى أطلق عليها اسم «الجدة مينا»، فوصفها بـامرأة الخيال والشعوذة، وقال عنها إنها كانت تملأ المنزل بقصص عن الأشباح والهواجس والطوالع والعلامات، فكانت مصدر إلهامه الأول والرئيسى، واستمد منها روحها وطريقتها غير العادية فى تعاملها مع الأشياء غير النمطية وأسلوبها فى القص، إذ كانت تروى عليه القصص والحكايات الخيالية والفانتازية كما لو كانت حقيقية، أو أمرًا طبيعيًا، وقال إنها هى من ألهمته شخصية «أورسولا إجواران»، التى ظهرت بعد ذلك بنحو ثلاثين عامًا فى «مئة عام من العزلة».

على أن إقامته مع جديه لوالدته لم تدم طويلًا، إذ توفى جده وهو فى سن الثامنة، وأصيبت جدته بالعمى، ما اضطره للانتقال للحياة مع والديه فى بلدة بدائرة سوكر بكولومبيا، وتم إرساله إلى مدرسة داخلية فى «بارانكويلا»، حيث لقبه زملاؤه بالعجوز بسبب شخصيته الجادة، وقلة اهتمامه بالأنشطة الرياضية والترفيهية، وبسبب خجله الشديد، رغم أنه وقتها كان يكتب القصائد الساخرة ويرسم رسومًا هزلية، ونشر قصائده الأولى وهو فى الثالثة عشرة من عمره بمجلة مدرسية عام ١٩٤٠، وبعد تخرجه عام ١٩٤٧، انتقل إلى العاصمة الكولومبية بوجوتا لدراسة القانون بجامعة كولومبيا الوطنية، وحيث تعرف على نوعية جديدة من الكتب، فقرأ ترجمة خورخى لويس بورخيس لرواية «المسخ» لفرانتس كافكا، والتى قال إنها ألهمته كثيرًا، وجعلته متيمًا بفكرة الكتابة وفق طريقة جدته فى الحكى، «حيث تتداخل الأحداث غير النمطية وغير العادية مع تفاصيل الحياة الطبيعية، كما لو كانت مجرد جانب من جوانب الحياة اليومية»، وبالفعل كانت قصته الأولى «الإذعان الثالث» متأثرًا بكافكا، ونشرت فى صحيفة «الإسبكتادور» فى ١٣ سبتمبر ١٩٤٧، وكانت باكورة أعماله مجموعة قصصية من خمس عشرة قصة قصيرة نشرها فى الصحيفة نفسها خلال الفترة بين عامى ١٩٤٧ و١٩٥٢، بعدها بدأ فى كتابة روايته الأولى «الأوراق الذابلة»، والتى بحث عن ناشر لها لعدة سنوات حتى تمكن أخيرًا من نشرها عام ١٩٥٥، وعلى الرغم من أن الرواية لاقت نقدًا واسعًا، فإن عددًا كبيرًا من نسخها ظل بالمخازن، ولم يحصل منها على أى شىء، ولكنه عندما تحدث عنها قال ما نصه: «من بين كل ما كتبته، تظل الأوراق الذابلة هى المفضلة، لأنها تعتبر من أكثر الأعمال صدقًا وتلقائية».