الروائى الأكثر نفورًا من الجنس البشرى
فلوبير.. كاتب عظيم به خطأ
- جاء إلى مصر وهو كاتب مغمور.. وعاد منها على عرش الرواية الفرنسية
- عاش حياته عاجزًا عن التعاطف مع شخصيات رواياته.. واستقراره المالى ظل حصنه ضد التكسُّب من الأدب وكتابة رواية كل عام
على قمة الأدب الفرنسى فى القرن التاسع عشر، وإلى جانب فيكتور هوجو، يتربع ثلاثة عمالقة هم جوستاف فلوبير وستندال وأونوريه دو بلزاك، إنهم الثلاثة الذين جعلوا من ذلك القرن قرن الرواية الفرنسية بامتياز، ومن بين هؤلاء الثلاثة يتمتع فلوبير بمكانة خاصة، فهو بما يشبه إجماع الآراء مبدع الرواية الأوروبية الحديثة، وذلك بأعماله «مدام بوفارى»، و«سلامبو»، و«التربية العاطفية»، فضلًا عن قصصه القصيرة التى تحمل عنوان «ثلاث حكايات»، وأشهرها «قلب بسيط».
ما سبق هو ما كتبه راهب الأدب، الدكتور ماهر شفيق فريد، أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، فى مقدمته لمراجعة الطبعة الإنجليزية لكتاب السيرة «فلوبير» الصادرة عن مكتبة جامعة هارفارد، وهو الكتاب الذى وضعه بالفرنسية المؤرخ ميشيل وينوك، أستاذ التاريخ المعاصر فى معهد الدراسات السياسية فى باريس، والذى يولى أهمية كبرى لمزاج فلوبير الشخصى، وكيف انعكس ذلك على كتاباته بما تتضمنه من إدانة عميقة للجنس البشرى، وللبرجوازية بصورة خاصة، ويذهب مؤلفه إلى أن ذلك الشعور ربما كان راجعًا إلى تأثير أبيه عليه، وهو الذى كان جراحًا بارزًا فى مدينة روان، ورجلًا حر التفكير، إلى جانب مزاج فلوبير الشخصى بالطبع، وهو ما يؤكده الناقد الفرنسى مارتن تيرنل فى كتابه «الرواية الفرنسية» المنشور عام 1950، والذى يقول فيه: «إن فلوبير كان كاتبًا عظيمًا، ولكنه كاتب عظيم به خطأ ما، والمشكلة لا تكمن فى عيوب عارضة تشوب عمله، وإنما فى صميم ذلك العمل نفسه.. فهو كاره للجنس البشرى، عاجز عن التعاطف مع شخوصه الروائية»، وهو كما يبدو لى ليس رأيًا شخصيًا لتيرنل أو وينوك، بل هو نص ما كتبه فلوبير بنفسه: «ذهبت إلى المدرسة وأنا لا أتجاوز العاشرة، وسرعان ما استشعرت نفورًا عميقًا من الجنس البشرى»، وهو ما أعاد صياغته فيما بعد فى خطاب إلى صديقه الكاتب والمصور ماكسيم دو كامب، فكتب إليه يقول: «إنه لغريب ذلك القدر الضئيل من الإيمان بالسعادة الذى ولدت به، فعندما كنت صغيرًا جدًا، كنت أتوقع الشر من الحياة، كانت أشبه بنتن يفوح من مطبخ عفن الرائحة وتطرده المروحة، وما كنت لتحتاج إلى أن تأكل أى شىء من ذلك المطبخ لكى تدرك أنه خليق بأن يجعلك تتقيأ»، وهو أيضًا ما حاول جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية الفرنسى الأشهر، التعبير عنه فى مجلده الضخم «أحمق العائلة»، ذلك المجلد الذى جعل من صاحب «مدام بوفارى» مادة لدراسته التى كتبها فى ثلاثة أجزاء ضخمة، وتجاوزت ثلاثة آلاف صفحة، ورغم ذلك يقول الدكتور ماهر شفيق فريد فى ختام عرضه لكتاب وينوك: «هذا روائى غريب، ذو شخصية معقدة، ولكن إضافته إلى فن الرواية، وعبقريته التخيلية، وبصيرته النفسية، كلها حقائق ساطعة لا سبيل لنكرانها»، فيما يخلص ميشيل وينوك فى كتابه إلى القول بأن فلوبير بقى طيلة حياته، مثل فرنسا نفسها، تأكله التناقضات.. «كانت فرنسا تبحث عن نفسها بين الجمهورية والإمبراطورية والملكية، وكانت حياة فلوبير تخضع لذلك القانون العام، إذ واجه التاريخ من موقع الفنان عندما شعر أن الحمقى لا يلعبون الدور الحاسم فى الحياة الاجتماعية فقط، بل وفى الحياة الفكرية أيضًا.. وربما كان هذا هو السبب فى أن مختلف كتب التاريخ الأدبى الفرنسى تعد فلوبير بمثابة عبقرية فى الأسلوب، وأنه كان شديد الإخلاص للفن، تخلى عن حياته من أجل الكتابة».
«أحمق العائلة» ويوميات مجنون»
على الرغم من ميل فلوبير لحياة العزلة، وكراهيته للتصوير والصور الشخصية، ولسيطرة حياة الكاتب على منجزه الأدبى، فإن سارتر عندما سُئل عن سبب اختياره له كمادة لدراسته عن «أحمق العائلة» قال ما نصه: «ثلاثة أسباب دفعتنى إلى هذا الاختيار، أولها ظرفى خالص، لأن قلة فقط من الشخصيات فى تاريخ الأدب تركت وراءها كل هذا الكم الذى تركه فلوبير من معلومات ومعطيات وتفسيرات تتعلق بأدبه، وثانيها أن فلوبير يمثل النقيض التام لتصورى الشخصى عن الأدب، فهو لا يكف عن إعلان تنزهه التام عن كل التزام، ناهيك ببحثه الدائم عن مثل أعلى شكلى ليس بأية حال المثل الذى أتطلع إليه، وثالثها كون دراستى لفلوبير تمثل بالنسبة لى استكمالًا لما طرحته فى واحد من أوائل كتبى».
وأصدرت مكتبة «لابلياد» بدايات مايو ٢٠٢١، آخر مجلدين من الأعمال الكاملة لفلوبير، وكتب إيفان لوكلير فى مقدمة «ألبوم جوستاف فلوبير» الصادر عن «لابلياد»، والذى يستعيد بالصور حياة الروائى الفرنسى الشهير، حسبما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، أنه «عندما توفى فلوبير فى الثامن من مايو ١٨٨٠، لم يكن وجهه معروفًا، وهو ما شكل استثناء فى قرن كان فيه تصوير وجه الفنان أو نقشه أمرًا شائعًا»، وأوضح أستاذ الآداب فى جامعة روان لوكالة «فرانس برس» أن فلوبير «كان يرفض باستمرار الوقوف أمام عدسة المصور إذا كان الهدف أن يراه الجميع، عندما كان يتصور، كان يفعل ذلك لأصدقائه فقط، وهذه الصور صعبة التأريخ»، مضيفًا: «ولم يحتفظ نادرًا، أشهر المصورين وقتها، بأى سجلات، ولم يبد أحد اهتمامًا بعمر مؤلف (التربية العاطفية) فى صوره التى ظهرت بعد وفاته»، وقال لوكلير إنه توصل إلى «تحديد تاريخ الصور من خلال التدقيق المتقاطع، وإجراء مقابلات مع الكثير من المتخصصين»، فيما أوضح ميشيل وينوك الذى أصدر فى نفس الوقت كتاب «العالم وفقًا لفلوبير» عن دار «تالاندير» أن «هذا الرهاب من الصور هو إحدى علامات كره فلوبير للنجومية»، موضحًا أن «فلوبير كان وريثًا، وبالتالى فلم يكن مضطرًا إلى أن يكسب قوته، على عكس زملائه الذين كانوا مضطرين إلى أن يزاولوا العمل الصحفى ويكثفوا النشر، ويجعلوا الناس يتحدثون عنهم، لكى يعتاشوا من حقوق النشر الخاصة بهم».
يذهب الكاتب والناقد اللبنانى إبراهيم العريس إلى أن السبب الظرفى لكتابة سارتر لدراسته «أحمق العائلة» يتمثل فى عمل مبكر لفلوبير هو «يوميات مجنون»، وهو عمل اشتغل عليه سارتر فيما كان يكتب سيناريو فيلم لم يتم تنفيذه عن حياة فرويد، وهى الرواية التى كتبها فلوبير عام ١٨٣٨، أى عندما كان فى السابعة عشرة من عمره، ولكنها لم تنشر إلا فى عام ١٩٠٠، أى بعد ٢٠ عامًا من موت صاحبه، و«يوميات مجنون»، حسب تصور إبراهيم العريس: «مثل معظم الأعمال الأولى للكتاب والفنانين، هو سيرة ذاتية، لكنه ليس بالطبع محصلة حياة طويلة، إذ ما الذى كان يمكن أن يكتبه على سبيل السيرة ذلك المراهق الذى كان عليه فلوبير فى ذلك الحين.. كل ما يهمه، على الأرجح، هو أن يرمى على الورق عواطفه وأحاسيسه تجاه أول حب حقيقى عرفه فى حياته، وهو حب كان من نصيب امرأة متزوجة تكبره سنًا، هى، فى عرف سارتر، كما فى عرف كثير من الذين كتبوا عن فلوبير لاحقًا، إسقاط لشخصية أمه نفسها.. إلا أنهم، وفى مقدمتهم سارتر، أجمعوا على أهمية ذلك النص فى الكشف عن روح فلوبير المعذبة والقلقة، والمتأرجحة بين مثالية كانت طاغية عليه، وحزن رومانسى كان من سماته، وسيظل يسمه حتى نهاية حياته، وفى أعماله التالية، حيث الخيبة التى ستكون دائمًا من نصيب أبطاله الذين لا يصل أى منهم إلى مبتغاه العاطفى أبدًا».
ضحية البحث عن الكمال
كما وسم فلوبير حياته بالصرامة والحسم وحياة العزلة، قيل إن معظم أعماله كانت عبارة عن أفكار راودته فى عمر المراهقة وحاول أن يكتب عنها، وإن جميع كتاباته تميزت بالاعتماد على العقل والرؤية الموضوعية كبديل عن نظيرتها الذاتية التى يميل إليها الرومانسيون، بالإضافة إلى دقة الملاحظة، ودقة وصفه للنماذج البشرية العادية، تميزت كتاباته بعدم النفور من الواقع ونقله كما هو، منطلقًا من اعتقاد راسخ بأن الفن الحقيقى هو ذاك الفن الموضوعى، وأن الفنان يجب أن يفصل تمامًا بين ذاته وشخصيته، وبين الفن الذى يقدمه كموضوع، وربما كان ذلك هو السبب فى أن كتاباته اشتهرت بتجنب التعبيرات غير الدقيقة والمجردة والغامضة وغير المناسبة، كما اشتهرت بحرصه الشديد على تجنب التعبيرات الشائعة «الكليشيهات»، وقال فى إحدى رسائله إلى الروائية والكاتبة المسرحية جورج ساند إنه يقضى معظم وقته فى محاولة كتابة جملة متناغمة منسجمة، متجنبًا السجع والعبارات المستهلكة.. ولأنه كان يؤمن بمبدأ «الكلمة الوحيدة الصحيحة»، عاش حياته يسعى إلى تحقيق ذلك المبدأ، والوصول إلى تلك المفردة، وهو ما كان يعتبره المفتاح الرئيسى والوحيد للوصول إلى الجودة العالية فى الأدب والفن.
كان فلوبير يعمل فى عزلة صارمة، وكثيرًا ما كان يستغرق أسبوعًا كاملًا فى كتابة صفحة واحدة، دون أن يصل أبدًا إلى مرحلة الرضا التام عما يكتبه، وهو ما أشار إليه كثيرًا فى مراسلاته، موضحًا أن النثر الصحيح لم يكن يتدفق منه، فلم تكن الجملة طيعة منسابة معه، وأن أسلوبه الذى عرف به فيما بعد، لم يتحقق إلا من خلال العمل والمراجعة، وقال إنه عاش «يحلم بأسلوب كتابة إيقاعى كالشعر، دقيق كلغة العلوم، متماوج وعميق كنغمات التشيلو، كالنار يتوجها اللهب.. كتابة من شأنها أن تخترق فكرتك مثل الخنجر، وأن تبحر معها بسهولة كما لو أنها تسبح فوق سطح أملس، مثل مركب شراعى صغير تدفعه رياح خفيفة جيدة».
وكثيرًا ما تداول النقاد والكُتاب عبارته الشهيرة: «إن المؤلف فى كتابه يجب أن يكون مثل الله فى الكون، حاضرًا فى كل مكان، وغير مرئى فى أى مكان»، ويذهب مؤرخو الأدب إلى أن إصرار فلوبير على اتباع ذلك الأسلوب المضنى فى الكتابة هو السبب فى قلة إنتاجه، فعندما يقارن إنتاجه الأدبى على مدى حياته مع إنتاج أقرانه، بلزاك أو زولا على سبيل المثال، فإن فلوبير كان ينشر بشكل أقل بكثير عما كان معتادًا فى عصره، ولم يقترب أبدًا من وتيرة الرواية سنويًا، كما كان أقرانه يفعلون غالبًا، حتى إن أحد كبار الأسلوبيين فى العالم هو الناقد الفنى والأدبى البريطانى والتر باتر، أطلق عليه لقب (شهيد الأسلوب)».
وعلى الرغم من أننى لست ممن يعتقدون فى مصادفات التاريخ والجغرافيا، لفتت نظرى الروائية والصحفية اللبنانية مايا الحاج إلى مفارقة لطيفة رصدت فيها كثير من السمات التى جمعت بين الفرنسى جوستاف فلوبير وبين الروسى الأكبر فيودور دوستويفسكى، تقول مايا الحاج: «إن ما يجمع بين فلوبير ودوستويفسكى ليس بقليل، فكلاهما ولد عام ١٨٢١، بفارق شهر واحد فقط، ولد دوستويفسكى فى ١١ نوفمبر ١٨٢١، وبعده بشهر ويوم ولد فلوبير فى ١٢ ديسمبر من نفس العام، والاثنان رحلا بفارق عشرة أشهر لصالح دوستويفسكى، إذ رحل فلوبير فى ٨ مايو ١٨٨٠، ولحق به دوستويفسكى فى ٩ فبراير من العام التالى، وكلاهما أسهم فى تغيير مجرى الرواية، وانتقلا بها من الرومانطيقية إلى الحيز الواقعى والنفسى، وانشغل أدبهما بالإنسان نفسه، بأخطائه وخيباته ومخاوفه ونزواته وطبائعه وتناقضاته.. يجتمعان أيضًا فى لائحة الكتاب الأكثر قراءة على مر التاريخ.. والاثنان عاشا تجربة قاسية مع مرض الصرع، لكنهما صنعا من معاناتهما فنًا وعبقرية وأدبًا لا ينتهى، وربما يكون مرض دوستويفسكى أكثر قسوة ووضوحًا فى رواياته مما هو عند فلوبير».
أن تلامس قدميك أرض مصر
بدأ فلوبير كتابة روايته الأشهر «مدام بوفارى» بعد عودته مباشرة من رحلة إلى مصر، وهى الرواية التى كانت مجرد بذرة فى رأسه قبل هذه الرحلة التى شملت لبنان وفلسطين وسوريا وتركيا، برفقة صديقه الكاتب والمصور مكسيم دو كامب، وهى الرحلة التى بدأت فى نوفمبر ١٨٤٩، فى مهمة رسمية تحمل الصفة الدبلوماسية، كموفد من وزارة الزراعة لكتابة تقارير عن طرق الفلاحة وحصاد المحاصيل فى هذه البلدان، لكن ما كان يدور بداخله لا بد أنه كان شيئًا آخر، إذ وصل فلوبير ميناء الإسكندرية، وهو كاتب هاوٍ فى أواسط العشرينيات من عمره، لم تنشر له بعد أى مؤلفات على نطاق واسع، وبدأ رحلته من الإسكندرية فى اتجاه الجنوب مرورًا بأهرامات الجيزة، بعد سنوات طويلة من الفضول والانتظار، وكتب عن تلك اللحظة ما نصه: «يا له من شعور فريد وروحانى.. أن تلامس قدميك أخيرًا أرض مصر».
تجول فلوبير وصديقه فى عدد من المدن المصرية، من القاهرة للمنيا وأسيوط، إلى جانب الإسكندرية بالطبع، والتقى بعدد من المسئولين، وفى مقدمتهم سليمان باشا الفرنساوى، مؤسس العسكرية المصرية فى عهد محمد على باشا، وكانت لدى سليمان باشا جارية وراقصة إغراء اسمها «كوتشوك هانم»، ويقال إنها كانت فائقة الجمال، حتى إن فلوبير وقع فى غرامها بمجرد أن وقعت عيناه عليها، وأغرم بها حد الهوس، ووصفها بالتدقيق فى رسائله لأصدقائه فى فرنسا، ورغم أنها لم تبادله الغرام، ولم يكن بالنسبة لها أكثر من زائر، أو «أبوشنب» حسبما كان يطلق عليه الصبية الذين عرفوه بمنزلها خلال تدوينه لرقصاتها، فإنه كان يكثر من ذكرها فى خطاباته لصديقته وحبيبته السابقة لويز كوليه، والتى جاءت من بعده إلى مدينة إسنا للبحث عنها، ولكنها لم تجدها، ومنها رسالة إلى صديقه الشاعر لويس بويى ادعى فيها أنه طارح كوتشوك هانم الغرام مرارًا، وأنها كانت تستحق كل لحظة أنفقها معها، وفى رسالة أخرى كتب يصف رقصة إباحية تسمى «رقصة النحلة»، كانت تجيدها، وتؤدى فيها دور نحلة تدور من حوله ثم «تلسعه» بكل إثارة وغواية، وكتب المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد فى كتابه «الاستشراق» عن تلك العلاقة ما نصه: «هى لم تتكلم عن نفسها أبدًا، لم تعبر عن مشاعرها، حضورها أو تاريخها.. هو، أى فلوبير، من تحدث باسمها ومثلها».
فى عام ١٨٥٠، بعد عودته من مصر مباشرة، بدأ فلوبير العمل على «مدام بوفارى»، وهى الرواية التى استغرقت كتابتها خمس سنوات، ونشرت بعدها فى حلقات مسلسلة بمجلة «ريفيو دو بارى» عام ١٨٥٦، وقيل إنه اختار عنوانها خلال إحدى سهراته على ضفاف النيل، الذى نجح فى إضفاء لمسة واقعية على شخوص وثيمات روايته، وقيل إن كثيرًا من ملامح وصفات بطلة «مدام بوفارى» مبنية على شخصية «كوتشوك هانم» بفضل ما عايشه من أحداث فى مصر التى جاءها وهو كاتب مغمور، وعاد منها متسلحًا بمذكرات صنعت له اسمًا أدبيًا، وجعلته واحدًا من أهم الروائيين العالميين، باعتبارها واحدة من أفضل الروايات العالمية على الإطلاق، فهى الرواية التى كتب عنها الروائى البيروفى الأشهر ماريو فارجاس يوسا فى كتابه «مجون لا نهائى» ما نصه: «إن مدام بوفارى تبقى دائمًا رواية الروايات التى لا يمكن للنقد الأدبى أن يتجاوزها، وعندما نتحدث عن أصول الفن، فإننا لا بد أن نكون على استعداد للبحث عن فلوبير»، وقيل إن فلوبير حاول وهو فى سن العاشرة تقليد أسلوب صاحب «البؤساء» فى إحدى قصصه القصيرة، لكن والده لم يشجعه على الاستمرار فيها خوفًا من تعلق طفله بالأدب بدلًا من الطب، وفى ٣٠ أغسطس ١٨٥٧، كتب إليه فيكتور هوجو شخصيًا رسالة شديدة الأهمية جاء فيها: «لقد صنعت يا سيدى كتابًا جميلًا، ويسعدنى أن أخبرك أن بينى وبينك رابطًا خاصًا يصلنى بنجاحاتك، إن مدام بوفارى تحفة أدبية، وأنت أحد العقول الرائدة فى جيلك، استمر، واحمل شعلة الفن عاليًا»، وهو أيضًا الذى كتب إليه عندما رفعت الحكومة دعوى قضائية ضده وضد ناشر الرواية بتهمة الفجور ما نصه: «أنت إحدى القمم النبيلة التى تضربها جميع الضربات، لكن لم يُهدم منه شىء.. والرواية ستحقق نجاحًا مهمًا فى المكتبات»، وهو ما حدث بالفعل، حين تمت تبرئته، وظهرت «مدام بوفارى» فى شكل كتاب، فما زالت الرواية تتم طباعتها وقراءتها والاحتفاء بها حول العالم حتى هذه اللحظة.