واحــة بلا غروب.. من قال إن بهاء رحل؟
- أعماله ترصد التحولات الاجتماعية والظلال السياسية لثورة يوليو
- تحضر سردية الصراع العربى الإسرائيلى فى «الحب فى المنفى» على خلفية الدمار الذى لحق بلبنان
عامان على رحيل بهاء طاهر، «٢٧ أكتوبر ٢٠٢٢»، بعد حياة حافلة إبداعيًا، تنوعت فيها الإصدارات ما بين القصة القصيرة، والرواية، والترجمة، والكتب الفكرية التى تجلت فى مؤلفه المهم «أبناء رفاعة»، الذى يؤصل فيه لمسارات التنوير المصرى عبر استعادة أحد أبرز رموزه «رفاعة الطهطاوى»، ممن لهم فضل السبق.
بهاء الذى يمكنك أن تعرف أن «الحب فى المنفى»، أو «قالت ضحى»، أو، «نقطة النور» أو غيرها هى نبته، حتى لو نزعت الأغلفة، حيث يمكنك أن تميز اللغة الرقراقة المنسابة على مهل، أو المندفعة فى حكمة لا تخطئها عين إلى وجهتها كى تحمل موقفًا من العالم.
ثمة تيمة مركزية فى أعمال بهاء طاهر الإبداعية، تتمثل فى تلك التغريبة التى يعانيها راو بطل، فى بلاد لا يعرفها، وتأخذ هذه التغريبة أشكالًا متعددة، فتحضر لديه فى القصة القصيرة، مثلما تحضر فى الرواية، سنرى صداها مثلًا فى مجموعته القصصية «بالأمس حلمت بك»، وتحديدًا فى القصة المركزية التى تحمل الاسم ذاته، حيث ثمة سارد بطل، ورفاق مغتربون، أكثرهم من أولئك العابرين الذين يجيد بهاء الحكى عنهم، ورسم ملامحهم النفسية قبل ملامحهم الخارجية عبر إشارات دالة ومكتنزة، هنا أيضًا كمال، وفتحى صديقان غارقان فى الغربة بمعناها الروحى، حيث انفصال الإنسان الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به، يستهل بهاء طاهر قصته بمفتتح سردى دال يعزز فكرة الرتابة التى حوت الحياة حول السارد البطل، دون أن ينسى النصية على آلية التكرار للحوادث والأشياء من جهة، والمكان القاحل إنسانيًا من جهة ثانية «أذهب إلى العمل فى الصباح، وأعود فى المساء للبيت. يحدث هذا خمسة أيام فى الأسبوع، يحدث هذا فى الشمال فى مدينة أجنبية». تتواتر الأحداث وتتقاطع وتبدأ لعبة الأرواح المتجولة، عبر توظيف تيمة الكتاب الحاوى لتلك الفكرة والذى يتناقله الأصدقاء فى غربتهم، وتلوح أيضًا «آن مارى»، ويعم الثلج، وتتوالد داخل القصة مفردات تشكل جزءًا أصيلًا فى عالمها المبنى على التوزع، ومحاولة الخروج من أسر واقع ضاغط ظنه السارد البطل فكاكًا منشودًا من واقعه الشرقى الصلد، لتنتهى القصة بهذا المختتم السردى المسكون بالشجن والفجيعة معًا: «كنت أبكى دون صوت ولا دموع ولكن مددت يدى».
ويمكن لنا أن نرى منحى الاغتراب هذا أيضًا فى روايته الشهيرة «الحب فى المنفى»، مع اتساع فى تعميق سردية الأنا والآخر، وهى الجدلية التى يمكن لنا رؤيتها فى أعمال متعددة فى الرواية العربية، وإن بدت متباينة فى التكنيكات المستخدمة من جهة، وفى الدلالة السردية من جهة ثانية، من قبيل «قنديل أم هاشم» ليحيى حقى، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«الحى اللاتينى» لسهيل إدريس، وغيرها.
وتحيلك «الحب فى المنفى» على جدل العلاقة بين الشرق، والغرب، فى إطار صيغة مغايرة من التفاعل الندى الثقافى الذى يبرز عبر حكايات إنسانية الطابع، تلوح فيها دومًا وحدتان أساسيتان «الأنا الشرقى الذى يمثله السارد البطل»، والآخر الغربى الذى تمثله الفتاة المنتمية إلى الشمال «بريجيت».
وينفتح السرد فى «الحب فى المنفى» على إشكالية الرواية وصداها الذى يتواتر بانتظام، فى ظل حركة الإيقاعات السردية المتعاكسة والمتقاطعة فى الآن نفسه «كنت قاهريًا طردته مدينته للغربة فى الشمال، وكانت هى مثلى أجنبية فى ذلك البلد، لكنها أوروبية وبجواز سفرها تعتبر أوروبا كلها مدينتها».
وتحضر سردية الصراع العربى الإسرائيلى فى «الحب فى المنفى»، على خلفية الدمار الذى لحق بلبنان عقب الاجتياح الإسرائيلى فى العام ١٩٨٢: «انظر إلى تلك المجزرة فى لبنان وشعب الله المختار يستأصل شعبًا غير مختار، ويقول قائد جيشه (العربى الجيد هو العربى الميت)!.. كل ذلك القتل لأن القاتل دائمًا هو الأفضل، هو الأرقى، وعجلة المجازر تدور طوال الوقت لتستأصل الآخرين، الأغيار، أعداء الرب، أعداء العقيدة الصحيحة، أعداء الجنس الأبيض، أعداء التقدم.. الأعداء دائمًا وإلى ما لا نهاية. مع أنه لا توجد فى العالم حرب شريفة غير تلك التى تدافع فيها عن بيتك أو عن أهلك أو عن أرضك وكل حرب غيرها فهى قتل جبان».
ثمة مقاطع مركزية فى «الحب فى المنفى»، هى فى ظنى ما يميز بهاء طاهر، حين يحتشد لغويًا بأقصى طاقة ممكنة، ويبد والأسلوب السردى حاملًا قدرًا هائلًا من الشحنات العاطفية والفكرية التى تملك إمكانية التأثير فى سيكولوجية المتلقى، من قبيل: «من يتحمل هذه الدنيا... من يتحمل غطرسة المتكبرين والطغاة و الأمراء، وآلام الحب المخذول، والانتظار الطويل، واستحالة العدل، وهزيمة الرقة أمام الوحشية، وكل تلك الأنانية، وكل ذلك الظلم.. من يتحمل هذه الدنيا».
ثمة نزوع حكمى فى السرد، مغلف بخبرة حياتية، وقدرة واعدة على التأمل، من قبيل: «إن أخطأت فكن شجاعًا. على الإنسان أن يحاول على الأقل أن يتصرف على أنه مخطئ لا أن يواصل الخداع»، ويتواتر هذا المنحى الحكمى فى مواضع أخرى مثل: «اسمع كل شىء يمكن غفرانه إلا أن تكذب على نفسك، وتكذب على الناس عن عمد».
تمتح الروايات فى عالم بهاء طاهر من معين متعدد الضفاف، قد تنحو صوب استيلاد الرهافة من قلب القسوة، كما فى روايته العذبة «قالت ضحى»، حين ترصد التحولات الاجتماعية والظلال السياسية لثورة يوليو، عبر نزوع رؤيوى أقل صخبًا، تعزز من حركته الشجية لغة تنزع نزوعًا شعريًا تارة، وتعتمد على تكنيك الصورة الروائية غالبًا، وقد تنحو الرواية لديه صوب عوالم شديدة الصفاء، تتجه صوب الداخل الإنسانى الثرى مسكونة بحس صوفى/ حكمى لا تخطئه عين، ولغة إشارية دالة كما فى روايته «نقطة النور»، أو تسعى صوب معاينة جغرافيا سردية تتقاطع فيها مساحات الواقعى مع الأسطورى لتمنح النص مساحات ضافية من التخييل السردى كما فى روايته «واحة الغروب».
وفى القصة القصيرة لا يمكن أن ننسى مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة»، وهى مجموعة تتجاوز رائحة البدايات الأولى، تتكئ على العابر، والعادى، وفى قصتها المركزية «الخطوبة» ينتقل بهاء من سلطة السؤال المبنى على الشائعات المتناثرة بحق شاب يتقدم لخطبة زميلته فى العمل، حيث ثمة وحدتان مركزيتان هنا «الأب السلطوى»، و«الشاب المحاصر»، وبينهما «ليلى» الشخصية المحركة لمجرى الحدث القصصى، والتى تصير غاية مبتغاة للشاب، وحصنًا يدافع عنه الأب القاسى، تنطلق الحكاية من المرئى والمألوف؛ لتعاين عالمًا غير مرئى، ينهض على ثقافة السماع، التى تصير تكئة للأب فى حصاره الخانق للفتى الذاهب إلى «الخطوبة» التى تنكسر على نصال اتهامات لم تثبت، ووقائع لم يتبين أحد صحتها، لتجعل القصة من السؤال مركزًا لها، ومحورًا تنبنى عليه القصة، التى جاءت مقتصدة فى لغتها، ويلعب الحوار القصصى دورًا مفصليًا داخلها، وتمثل المرويات المتواترة عن الشاب عبر الأب إطارًا للسرد داخلها.
وبعد.. يظل بهاء طاهر معنى متقدًا فى السردية المعاصرة، واستعادته تعد استعادة لجملة من القيم الإبداعية والفكرية والإنسانية التى مثلها، حيث المزاوجة الرهيفة بين الجليل، والفريد، والموقف الملتزم من المثقف الحر تجاه قضايا وطنه، وأمته، والتى تجلت مثلًا فى كونه أحد أبرز المثقفين الذين قادوا الصفوف فى ثورة الثلاثين من يونيو.
بهاء طاهر.. طبت فى الحياة، وفى الرحيل أيها الكاتب النبيل.